مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

في العلم والشعر

كان وداعا قصيرا. قبلني والدي واحتضنتني والدتي تبكي، حملت حقيبتي الصغيرة وخرجت. لم يكن قد مضى على تخرجي من كلية الزراعة سوى بضعة أشهر. لم أكن قد بلغت العشرين. كنا في أوائل أكتوبر 1954. كنت قد عينت بالإصلاح الزراعي في عزبة الفؤادية، قرب قريتنا الصلاحات، دكرنس. وصلت بالأوتوبيس إلى ميت فارس عند بعض أقاربي. أبلغت التفتيش تليفونيا بمكاني. أرسلوا عربة دوكار تقلني إلى الفؤادية. وصلت العربة والشمس توشك على المغيب. ركبت. كان الجو يميل إلى البرودة. ترك الدوكار القرية ومضى يجري بين الحقول. أحب الحقول. أحب الحقول. فجأة شعرت أنني وحيد. أواجه العالم الآن وحدي. تركت ورائي الأهل والأحباب وأصدقاء عمري. خوف غريب تملكني. خوف لم أعرفه قبلاً. أي بشر في انتظاري؟ أي مستقبل ينتظرني؟ ها أودع الآن عالماً كان جميلاً شغلته في الصبا. ها أقترب حثيثاً من عالم آخر جديد. طافت بعيني دمعة حبستها. أخذت أنظر إلى السماء والظلام يخفيها رويداً رويداً. سألت نفسي، لماذا أحبس الدمعة. سالت، وتركتها تسيل. صامتاً كنت والسائق صامت. تعود الذكريات. الحزينة منها تعود مع الليل والوحدة. ها أصبحت حياتي الماضية ذكرى. يا خسارة. وتذكرت.

طفلاً كنت قي العاشرة، كنت في السنة الرابعة الابتدائية بمدرسة المطرية دقهـلية، كان مدرس اللغة الإنجليزية هـو "شفيق أفندي"، سأل المدرس صديقي يوسف شطا سؤالاً، لم يستطع الإجابة، زجره وقال: روح موت. مضت أيام ثلاثة ولم يظهر يوسف. في اليوم الرابع وصلنا خبر موته، بكيت وبكيت. هذا ظلم. هذا ظلم. شفيق أفندي قتله. في "الفسحة" كتبت خطاباً إلى رئيس الوزراء، كان أحمد ماهر باشا. لا أعرف ماذا كتبت! آه لو أعرف! مضيت خارج المدرسة مع زميل، كان اسمه ضرغام، وكأن سميناً، اشترينا ظرفا وطابع بريد، عندما هممت بإلقاء الخطاب في الصندوق، إذا بيد تمسك ذراعي، كان سعد أفندي عبدالملك، مدرس الحساب، ما هذا؟ سألني، بكيت، أخذ الخطاب مني، اصطحبني عائداً إلى المدرسة، حاول في الطريق أن يخفف حزني، مضى بي إلى مكتب الناظر: توفيق أفندي عفيفي، كنت على رأس طابور يضم كل تلاميذ الفصل، عددنا كان ثمانية عشر، بكيت أمامه، لم أستطع أنا أعتذر عما فعلت، ما الخطأ فيما فعلت؟ في اليوم التالي كنت ثانية على رأس الطابور خلف الجنازة حتى المقابر، كانت في الطرف البعيد من البلدة. السماء تمطر بغزارة، أبعدنا سعد أفندي عن المقبرة، سمعته من بعيد يلقي خطاباً فوق القبر، بصوت متهدج باك: "ولدي يوسف، هل تبكي السماء حزنا عليك يا يوسف؟" عدنا إلى الفصل، كانت الحصة الأخيرة حصة الخط. كتب المدرس على السبورة:

 

الخط يبقى زماناً بعد صاحبه

وصاحب الخط تحت الأرض مدفون

 

أذكر هذا البيت. لا أنساه. عاد كل هذا حيا، وأنا أجلس في الدوكار صامتاً.

وصلت العزبة. مجرد شارع واحد على جانبيه اصطفت أكواخ، ثمة كوخ إلى اليمين تضيؤه "لمبة سهاري"، تطلق فوقها خيطاً طويلاً من دخان أسود. كان دكان العزبة الوحيد. كان به للعجب راديو. سمعت وأنا أمر أمامه عبدالوهاب يغني. كانت أغنية "أحبك وأنت فاكرني- وأحبك وأنت ناسيني". كم أحب عبدالوهاب، وكم أحب هذه الأغنية.

ثمة مبنى بعد قليل من طابق واحد على الجانب الأيسر.

أخبرني السائق إنه "الإدارة". أمام مبنى الإدارة باب واسع لدوار. في نهاية الشارع إلى اليمين كانت الفيلا التي سأسكن بهـا. فيلا ضخمة هائلة كانت يوماً لأميرة حولها حديقة واسعة واسعة. حملت حقيبتي ونزلت. استقبلني خادم أسمر نحيل صارم الوجه "حمدا لله على السلامة". قالهـا في صوت خفيض وهو ينظر إلى الأرض. دخلت الفيلا. قاعة واسعة بها منضدة كبيرة عليها "لمبة جاز". وعشاء. لم أكن جائعاً. طاف بي الخادم في حجرات الفيلا جميعاً. الأثاث فاخر.

أرشدني إلى حجرة نومي، في الركن الأيمن. لها نافذة وحيدة تطل على الحديقة. بها سرير ودولاب كبير وكرسي وكوميدينو عليه لمبة جاز نمرة 10. شكرت الخادم وتركني ليمضي إلى منزله. وحيداً جلست على السرير. قمت وفتحت النافذة. أشباح أشجار السرو تبدو حزينة. أصوات الضفادع والجنادب تملأ الحديقة المظلمة. لسعة من هواء بارد تصافح وجهي. أحب هذا البرد الصغير. أخذت أحدق في الظلام ودمعي يجري بلا سبب. عاد لي الإحساس الخائف بأنني أواجه الكون وحدي. وداعاً يا عالمي القديم الحبيب.

كيف سأقضي أيامي هـنا. معى كنت أصحب بضعة كتب. ملاذي الوحيد.

في الصباح تعرفت على من سأعمل معهم. أحمد عبدالباقي الرئيس، والمهـندس الدياسطي الشربيني زميل. أنجب الدياسطي بعد أسابيع من وصولي طفلاً أسماه الشربيني. خصصت لي فرس بيضاء جميلة كان اسمهـا "الرهوانة". قالوا إنها كانت تخص إبراهيم عيد الهادى باشا. أوكل إلى الإشراف على "عزبة الربعمية". بعد أيام كنت هناك. كان الأطفال يجمعون القطن. أحب أطفال الريف كتيراً. كثيراً. كنت منهم. وجدت طفلاً فيه وجه مصر، خبيبتي مصر. بهجة غامرة وحزن قد العيتين بعيد. خفي وعميق. سألته عن أسمه. أحمد. ثم؟ محمود- ثم؟ إبراهيم، أحمد محمود إبراهيم. اسم أعز أصدقائي. ربت على رأسه باسماً. أعطيته قرشين. قطعة قضية واحدة صغيرة .

كان أحمد محمود صديقاً للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور. تزاملا بمدرسة الزقازيق الثانوية. كنت قد قرأت قصيدة "الملك لك" لصلاح. كانت أول قصيدة أقرؤها من الشعر الحر. أحببته على الفور. الشعر الحر، وصلاح. كنت أحفظ كثيراً من الشعر. لا أعرف سبباً لذلك. كانت مجلة آخر ساعة تنشر في كل أربعاء قصيدة جميلة يرسمها بيكار. كنت أحفظها أولا فأولا. مرة حاولت أن أحفظ مسرحية "مصرع كليوباترة" لشوقي! لكن قصيدة "الملك لك" هذه أثرت فيّ كثيراً. كتبت بعدها لأول مرة في حياتي قصيدة. كانت من الشعر الحر. كان عنوانها "غداً نلتقي" كتبتها تحت شجرة الجميز الضخمة عند قمة جزيرة الروضة. طلبت من أحمد أن يرافقني لأقرأها أمام صلاح. كان صلاح أيامها مدرساً. مضينا إلى نادي المدرسين. كان يقع في الطابق الأخير من مبنى مرتقع في أحد شوارع وسط القاهرة، قرب ميدان الأوبرا، وجدنا صلاح. جلست أمامه في خجل أقرأ القصيدة. أرجو ألا تكون قد أصابته بالضجر. ظل ساكتاً، حتى وصلت إلى قولي: (وهذي المياه.. فأصل المياه بكاء المحبين منذ القدم". نظر إلىّ وسأل: ما عملك؟. قلت: مهندس زراعي. كان قد مضى على تخرجي شهران. نظر إلى أحمد وقال: كاتب هذه القصيدة شاعر. كدت أطير يا رباه. أية سعادة ليلتئذ غمرتني!

تمضي الأيام في العزبة بطيئة. انهمكت أقرأ. استولى عليّ تماماً كتاب عنوانه "حدود العلم" كتاب في العلم والفلسقة ترجمته بعد سنين أربع ولم أنشره حتى الآن. سحرني العلم. سحرتني الفلسفة. وكان الشعر أيضاً يسحرنى. كثيراً كثيراً. كنت أخرج بعد الغداء وأمضي وحدي بعيداً، أجلس على الأرض في ظل شجرة عند ترعة قريبة. وأكتب الشعر. كنت أصف ما حولي، وما يجول بداخلي. "عند أعواد الذرة. قرب عيدان الحطب. تحت ظل يحتويني. بين همس الكزورينا. وضجيج الذكريات". بدأت أفكر. ترى ماذا أريد؟ انتهت مرحلة من حياتي. حلوة كانت رغم كل شيء. عليَّ أن أرسم لنفسي خطا. شيء واحد كنت متأكداً منه. لن أعمل إلا فيما أحب. لا ولن أصلح في عمل لا أحبه. قدرت علينا هذه الحياة. فلنحياها نعمل ما نحب. أحببت العلم والشعر حباً حقيقاً. لا، بل عشقتهما عشقاً. ولا أزال. كلاهما يخاطب أعماق الإنسان الذي كنته. وأكونه. أي السبيلين طريقي. كلاهما عزيز وقريب. سبيلان؟ لقد توحدا بداخلي. للقلب عالم وللعقل آخر. كذا يقولون. لكن جوته كان شاعراً كبيراً. وكان أيضاً عالماً كبيراً. تتصارع الأفكار في عقلي وأنا أجلس صامتاً أمام المياه. أمام الحياة!

أعود إلى "حدود العلم" يذهلني الكتاب أكثر وأكثر. أنغمس فيه أقرأ. بوانكاريه يقول إن الحل العلمي للمشكلة ليس له من الأهمية مثل ما لجمال الطرق التي أدت إليه. للعلم جمال نصبو إليه. العاطفة التي توجه العالم تشبه عاطفة الناسك أو العاشق. تقرأ قصيدة لشاعر فتتمنى لو كنت كاتبها. لو لم يكتبها هو لما كتبها أحد. هي الأصالة في الفن. كذا الأمر بالنسبة للنظريات العلمية. العامل الشخصي فيها أساسي. لو لم يوجد آينشتين لما ظهرت النسبية. لم تكن النسبية ذروة طبيعية للأفكار التى سبقتها. كانت أصيلة. لم تكن مفاهيم نيوتن هي الأخرى ضرورة نظرية. كانت أصيلة. العامل الشخصي الذي نلحظه في الفن نجده في العلم. إنما بدرجة أقل. إنا جميعاً نستطيع أن نميز الجمال والصدق. والفن موجه بشكل أكثر قصداً إلى الجمال. لكن، ليس من نظرية علمية نشأت بعيداً عن اعتبارات الجمال. سوى أن العلم بعكس الفن- يا للعجب- يتذوفه الجميع. العلم مفتوح لكل من يود. يستطيع الأعمى أن ُيلم بكل نظريات الضوء. لكن العمل الفني لا يتذوقه إلا الخاصة. الشعر لا يتذوقه إلا من له الأذن الموسيقية والقلب الحساس. التبرير الأخير لكل نشاط ذهني هو أثره على زيادة إدراكنا ومعلوماتنا. الفنان الكبير يعرفنا بعالم لم نكن ندركه، يزيد معرفتنا بالحياة. والعلم يقدم لنا طرقاً جديدة في التفكير ويجعلنا أكثر دراية بالعالم الذي نحيا به، يرفع من آماد خيالاتنا. لنحلق أبعد وأبعد، يفتح آفاقاً جديدة للفن. للروح والعقل.

أترك الكتاب وأعود إلي واقعي. حائراً لا أذال. سافرت في إجازة إلى القاهرة في أوائل نوفمبر 1954. في محطة الأوتوبيس بالمنصورة أشتريت مجلة "الرسالة الجديدة". بها كانت قصيدة للشاعر كامل أمين أيوب. عنوانها: قيود لا ترى. "يا أخي هذي يدي لا قيد فيها. وحديد الغل لا يربط ساقي. أفأبدو لك حراً؟ عجباً، لكنني أحمل نفسي. وأجر الخطو في غير انطلاق. وأجر الساق جرا. وكأني لست حرا. وكأني مستنيم لوثاق". حفظت القصيدة قبل أن أصل إلى القاهرة. وددت لو كنت كاتبها. فيهـا الكثير مما كان يعتمل في نفسي آنئذ.

في الصباح، بعد عودتي بأيام، وصل مفتش من القاهرة. قصير سمين. صارم الوجه. جلس للإفطار معي. المائدة كانت ساعتها عامرة، أرسلهـا أحمد عبدالباقي. كان أمامي- ما زلت أذكر- طبق قشدةأ فلاحي،. أعشقها د ائمأ. ولا أزال. سألني المفتش: سمعت أنك منحت طفلاً قرشين، هل هذا صحيح؟ نعم. كيف؟ كان له أسم أعز أصدقائي، وكان وجهه بريئاً وجميلاً. انتبه إلى وقال: هذا لا يصح. لا يجوز أن تعامل الفلاحين هكذا. لابد أن يخشاك الناس هنا حتى تحفظ هيبتك. لا يجوز أن يحسوا أن لك قلباً رحيماً.. حتى لو كان كذلك! كيف يا سيدى؟ كذا، ولا أحب أن أسمع أنك كررتها ثانية. صعقت. قرب الغروب ركبت الرهوانة انطلقت لأجلس أمام الترعة وحدي. لا أذكر ما دار في بذهني يومئذ. ضجيج ضجيج. صراعات. يا أيتهـا الشمس الغاربة لماذا تكون الحياة هكذا! يستكثرون أن يحظى منا فلاح ببسمة. أو بكلمة حلوة. يكرهون أن يربت إنسان على كتف إنسان. يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. يريدون أن يقتلوا فيتا الطيبة وحب الناس. من نحن سوى الآخرين؟ من دونهم لسنا بشراً. لا يصح أن نكون. أمن أجل خمسة عشر جنيهاً- أحتاج إليها- يقتلون فيّ الإنسان؟ هذا ظلم. هذا ظلم. نسيت العلم والشعر. وتذكرت أنني قبل كل شيء إنسان. يحب الإنسان. الانسانية قبل العلم وقبل الشعر. لا ولم تدمع عيني.

في نفس ذلك الوقت كانت "الإدارة" منهمكة تحصر أسماء الفلاحين لتوزيع أراضي الإقطاعيين عليهم. يا للمفارقة.

استيقظت مبكراً ذلك الصباح، فتحت نافذة الحجرة. السماء ملبدة بالغيوم. ثمة برد خفيف أحبه. خرجت إلى الحديقة قبل السابعة. الندى يبلل العشب والنباتات. رائحة الياسمين تملأ الجو وتسحرني. أحبها كثيراً جداً، بجوار السور النباتي لاحظت زهرة فوق شجيرة "الفل المجوز". نادرة في مثل هـذا الوقت من السنة. توجهت إليها ومددت يدي كي أقطفها.

سمعت صوت رجلين خلف السور الكثيف يتجادلان. لم يسمعاني اقترب. فلاح كان يهدد أحد موظفي الإدارة بالويل والثبور. لقد دفع له ولم يدرج اسمه في قائمة من ستوزع عليهم الأرض. دفع له الرشوة أفيوناً كما قال. انسحبت في هدوء إلى الفيلا. رباه لما هذا العذاب. انا لا أصلح للعمل هنا. العمل هنا لا يصلح لي.

بعد أيام حل عيد ميلادي العشرون. في المساء كانت السماء تمطر بغزارة غريبة. وقفت أمام النافذة أنظر في الفراغ المعتم الكبير. خلفي مصباح الجاز. شعلته ترتجف. كتبت قصيدة حزينة. "أعشرون عاماً مضت يا أخي؟. مضت، كيف ولت وكيف انتهت؟ أنا من بعيد أنادي السنين. أناجي السنين وأرثي لهـا. لقد غمرتني وعذيتها". في الصباح كنت قد حزمت أمري. حملت حقيبتي الصغيرة وخرجت. كنت قد عشت في هذة العزبة خمسة وخمسين ويوماً. ودعت من عرفتهم. ركبت الدوكار. ومضي بي بطيئاً بطيئاً.

***

كان وداعاً قصيراً. قبلني والدي واحتضنني ووالدتي تبكي. أحبهما كثيراً. كثيراً. تجمع إخوتي حولي يودعونني حملت حقمييتي الكبيرة وخرجت. كنا في أواخر سبتمبر 1960. مسافراً كنت هذه المرة بعيداً، إلى إدنبره، اسكتلنده. كنت قد حصلت على درجة الماجستير بمنحة دراسية من المركز القومي للبحوث. عينت بعد ذلك معيداً. تعلمت من دراستي في الماجستير أن الطريق لا يزال أمامي طويلاً. أن العلم صعب وطويل سلمه. ثم عرفت من قراءاتي رجلاً عظيماً اسمه ألان روبرتسون. تراسلت معه. وافق على أن ألتحق بمعهد وراثة الحيوان جامعة إدنبره، حيث يعمل. أدرس أولاً دبلومة الوراثة ثم أسجل معه لدرجة الدكتوراه. حصلت من جامعة القاهرة على إجازة دراسية بمرتب. أصطحبني في رحلتي زميلي حامد نافع لنتجه معا إلى نفس المعهد. أبحرنا من الإسكندرية على ظهر الباخرة إسبيريا. إلى جنوه، ثم بالقطار عبر باريس إلى كاليه، ومنها بالبحر إلى دوفر. ثم بالقطار إلى لندن. كان ثمن التذكرة من الإسكندرية حتى لندن 53 جنيها و 230 قرشا. اشتريتها من شركة "فاروس" بشارع سليمان. وعلى الباخرة تذكرت تلك الرحلة المبكرة على الدوكار إلى عزبة الفؤادية. من سنين ست. كانت هي الأخرى إلى المجهول لكني كنت قد تغيرت. علمتني الحياة كثيراً. أصبح لي الآن هدف واضح. حلم أسعى كي أحققه. في الباخرة وأنا أرقب مياه المتوسط الزرقاء العميقة. لم يكن ثمة حزن. حتى عندما أمطرت ذات ليلة ونحن في البحر- وهذا وقت لاشك للتأملات الحزينة- خرجت إلى سطح السفينة سعيداً. أرشف القطر وأحيا. وأغنى. أنا الآن في طريقي لأسبح في بحور العلم. الزرقاء العميقة. الحنون. هناك في إدنبر يصنع العلم. هناك سألتقى صناع العلم. سيحبونني لاشك. لأني أحبهم. في القطار، ونحن نعبر الأراضي الفرنسية عاملنا الفرنسيون معاملة فظة قاسية. كانت معركة تحريرالجزائرعلى أشدها. يرحمك الله يا عبدالناصر، كم كنت أحبك. لكن الريف الفرنسي كما شاهدته من نافذة القطار كان رائعاً. مذهلاً. أخذ بلبي. سحرني حقاً. وعندما وطئت قدماي الشاطئ الإنجليزي في دوفر أحببت الإنجليز، فارق واسع بين سلوك حمال الأمتعة بمحطة دوفر وبين السلوك الهمجي لكمساري القطار معنا في فرنسا. تشعر مع الإنجليز بأنك إنسان وبأنهم بشر. وصلت إدنبره مع حامد صبيحة يوم أحد. تركنا الحقائب في الأمانات وخرجنا من محطة ويفرلي إلى برنس ستريت. كل المتاجر مغلقة. لا أحد في الطريق. لا أحد. أريد أن أرى المعهد. الآن. أزعجنا كثيراً سير العربات إلى اليسار. أخيراً وجدنا رجل بوليس. سألته عن الطريق إلى كينجز بلدنجز. أرشدنا في أدب جم. وصف لنا بالضبط كيف الوصول. بعد نصف ساعة كنت أطوف حول المعهد، ومعي حامد. تذكرت مطلع قصيدة للدكتور إبراهيم ناجي عندما عاد مرة بعد طول غياب إلى دار أحبابه:

 

هذه الكعبة كنا طائفيها

والمصلين صباحا ومساء

 

هأنذا أطوف. وغدا سأتعبدفي هذا المحراب. محراب العلم.

قضينا الليلة في فندق صغير. في الصباح توجهنا إلى المعهد وقابلنا مدير الدراسات. تمكنا في المساء من العثور على حجرتين في شقة يستأجرها طالب نيجيري اسمه ريتشارد أوغيني. في اليوم التالي، الثلاثاء، بدأت دراسة الدبلومة. كنا أحد عشر طالباً من جنسيات مختلفة. لائحة الجامعلة تنص على أن العام الدراسي يبدأ يوم الثلاثاء الثاني من أكتوبر. كانت الدراسة صعبة حقاً. حتى طريقة التدريس كانت مختلفة. تستغرق المحاضرة خمسين دقيقة. نعود بعدها إلى المكتبة لنقرأها في بضعة مراجع- لا أقل من سبعين صفحة. ذهبت إلى رئيس المعهد يوماً- بروفسور كونرادهيل وادنجتون- أشتكي. أنا لا أستطيع أن أفهم إنجليزية الدكتور سيلمان، مدرس السيتولوجيا، استدعاه وأنا موجود. نصحني بأن اكتفي بكتاب عيّنه. يقع الكتاب في أكثر من 400 صفحة! الامتحان النهائي يحمل سؤالاً واحداً من كل مادة. انتهينا من الامتحانات التحريرية. أربعة امتحانات في يومين متاليين. في اليوم الواحد ورقتان. وكان هناك امتحان شفوي أمام أستاذنا ومعه أستاذ الوراثة من جامعة أخرى. دخلت فوجدت أوراق اجاباتي التحريرية الأربع أمامهما. قال وادنجتون إنه لأول مرة يجد طالباً لم يخطئ خطاً واحداً في أوراقه جميعاً. لم يكن ثمة أسئلة. إنما كان يريد أن يعرف رأيي فيما يدرس، وفيما أرى أنه ينبغي أن يدرس. خرجت متشيا، ومضيت على الفور إلى المنزل. في الثانية جاءني زميل ليخبرني أن البروفسير يبحث عني ويريد مقابلتي. كنت في المعهد في لا زمن. وجدت الرجل مشغولاً في مقابلة. وقفت أمام لوحة الإعلانات قرب مكتبه أقرأ ما بها. ثمة يد بعد قليل تربت على كتفي. التفت لأجد البروفسور. صافحنى. قال إنه قرر لأول مرة في تاريخ المعهـد أن يمنحني شهادة الامتياز. يا رباه. أسعد أيام حياتي.

ثم بدأت العمل للدكتوراه مع ألان رربرتسون، في أكتوبر 1961. كنت أعمل على صفة عديد الشعر على جانبي صدر حشرة ذبابة الفاكهة "الدروسوفيلا". كنت أحاول أن أعرف الجينات ذات الأثر الكبير على هذه الصفة، ومواقعها على الكروموزومات. هي صفة كمية، مثل إنتاج اللبن في الماشية أو عدد البيض فى الدجاج. كنا نذهب كل صباح في العاشرة إلى مكتب ألان، لنجلس جميعاً في فسحة القهوة نسمعه ونسمع الآخرين في مناقشات حول كل شيء. علم وأدب وسياسة، نصف ساعة. استفدت كثيراً كثيراً من هذه الجلسات اليومية. تعلمت كيف المناقشة العلمية. كيف احترام الغير والرأي الآخر، أذكر مرة أن عضواً بالمعهد عرض في جلسة ذات صباح نظرية له جديدة. وجدتها أنا معقولة جداً. كذا وجدها كل الحاضرين. إلا ألان! وقف على السبورة وأثبت أنها خاطئة تماماً. وكانت للعجب بالفعل خاطئة. ناقش الموضوع بذكاء وفي هدو ء..وأقنعنااجميعاً.. وأقنع صاحبها، الذي ابتسم وخرج شاكراً، كان ألان في الحق والأذكى، كان أذكى من قابلت في حياتي، وكان خجولاً جداً. خجل حتى أن يقف معنا نحن طلبته لنأخذ صورة نذكره بها. وكان متواضعاً للغاية. إنساناً. ثمة معادلة لم أستطع حلها. طلبت إليه أن يساعدني. بعد يومين تمكنت أنا من حلها. وجاء هو إليَّ بحل. جاءني في معملي يقول إنه قد تمكن من الحل، فقلت إنني قد تمكنت أيضاً. قفز وجلس على البنش. شرح طريقته في الحل. وشرحت له طريقتي. قال إنه لم يفهم حلي. قالهـا هكذا ببساطة بالغة، ألان روبرتسون بجلال قدره لم يفهم حلي! ويقولها بهذه البساطة! يا سلام! لكن، مادمنا قد توصلنا إلى نفس النتيجة، فلأكتبها في رسالتي بطريقتي. هي رسالتك أنت، كما قال.

عندما انتهـيت من كتابة رسالة الدكتوراه، مضيت بها إليه صباحاً. عندما عدت إلى معملي في الثالثة وجدتها على مكتبي! فتحتها. لم أجده قد صوب إلا كلمات ثمانية. ثماني كلمات فقط. مازلت احتفظ بالمخطوطة. توجهت إليه على الفور. كل قرأت الرسالة؟ نعم. لكنك لم تغير فيها شيئاً. نعم. لا أطلب منك أن تكتب أدباً إنجليزياً. ما كتبته مفهوم وليس به أخطاء. هل توافق على آرائي بها؟ ؟نعم،إلا ثلاثة آراء لم تعجبني، لكنها ليست خاطئة: إذا سألك فيها الممتحن فلتدافع عنهـا. ماهي؟ لن أقولها لك، وأعد بألا أسألك عنها في المناقشة، حتى هذه اللحظة لا أعرف ما لم يعجبه في الرسالة. أخذت المخطوطة إلى سكرتيرة المعهد، الآنسة مانينج. تفحصها، رأت بها جزءاً كبيراً كله معادلات جبرية، قالت إنها لا تستطيع كتابة هذه المعادلات. عليَّ أن أبحث عن شخص آخر. خرجت من مكتبها مكتبئاً. على باب المكتب وقبل أن أقفل الباب خلفي وجدت ألان. مالك؟ حكيت له ما كان. قال زوجتي تكتبها على الآلة. كانت يوماً سكرتيرة هذا المعهد. سمعت مانينج ما قاله ألان. قفزت من كرسيها واخذت منى المخطوطة. كتبتها في خمسة أيام. أخذت نسخ الرسالة بعد تجليدها ومضيت إلى ألان في مكتبه. سألنى: من تحب أن يمتحنك؟ قلت: بروفسور ثوداي، أستاذ الوراثة بجامعة كمبريدج. هو يعمل بالضبط في نفس المجال. قال: وهو كذلك. في نفس اليوم أرسلت الرسالة إلى ثوداي جلست إلى الزملاء. حكيت لهم. وإذا بواحد يقول: ألم تجد فى إنجلترا كلهـا إلا هذا الرجل ليمتحنك؟ وماذا في ذلك؟ إنه ألد أعدا ألان روبرتسون. تقدما معا لشغل كرسي الأستاذية بكمبريدج، الكرسي الذي كان يشغله يوماً السير رونالد فيشر، وحصل عليه بالطبع ثوداي، ابن مدرسة كمبريدج. وكان يينهما ما كان! أصبت بذعر. بعد أيام كان ثمة حفلة في المعهد لاستقبال طلبة الدبلومة الجدد. توجهت إلى بروفسور وادنجتون. حكيت له ما حدث، وما سمعته. أصغى في هدوء بالغ بوجهه الصارم. سألني سؤالاً واحداً: هل قوأ ألان رسالتك؟ نعم. قال "ولا يهمك". معنى هذا أننى كنت أستطيع أن أتقدم بالرسالة دون أن يقرأها المشرف؟ أليست رسالتك وأنت المسئول عنهـا؟ يا رباه!

ناقشت الرسالة صبيحة يوم 14 نوفمبر 1963، كان ثوداي رجلاً لطيفاً مرحاً، استمرت المناقشة أربعين دقيقة. عرضت في المناقشة رأياً، انقجر ثوداي عند سماعه يضحك ويضحك. خطأ؟ كلا، إنه لا يستطيع أن يقول إنه خطأ، لكنه لا يوافق عليه. هذا شأنك، قلت. قام الممتحنان ليصافحاني ويهنئاني. في الثالثة كنت بمكتبة العهد، دخل عليّ ألان بعد أن ودع ثوداي على محطة القطار. صافحني وقال: أشكرك على أدائك الرائع في المناقشة. يشكرني؟! كدت أطير فرحاً. لا. طرت فرحاً.

كتبت في إدنبره شعراً كثيراً. ضاع معظمه وأسفاه! ليس لأهمية فنية فيه. لا سمح الله. إلا أن الشعر يعيد لكاتبه الماضي مجسداً. عندما أقرأ قصيدة لي قديمة- وكل قصائدي بالطبع قديمة- يعود إلى ذاكرتي كل شيء عنها بأدق تفاصيله. كل الأحاسيس والانفعالات التي دفعتني إلى كتابتها، وحتى المكان الذي كتبتها فيه. أعيش تلك الحياة القديمة مرة أخرى. كان بعض شعري هناك حزيناً. لكن الكثير منه لم يكن كذلك. كنت أخرج كثيراً في جوف الليل بعد المذاكرة مرتدياً معطفى الثقيل. اشتراه من غزة صديق وأهدانيه. لا يهم إن كانت تمطر. هي دائما تمطر. رذاذاً على الأقل. أمشى طويلاً طويلاً. و"أغنى تحت المطر"- إذا لم يكن هناك من يسمعني. أذكر كثيراً عبدالوهاب وشوقي وأغنية "في الليل لما خلي". عرفني عسكر الليل. يبتسمون لي ويقرءونني التحية. ثم أعود لأكتب شعراً إن كان لدي ما أقوله. كل ما كتبت كان ررمانسياً. الشعر عندي يعني الرومانسية. لا غير. الرومانسية، بكل ما قد يكون فيها من حزن ويأس، تخاطب روح الإنسان، أثمن ما في الحياة.

بعد عودتي من إدنبره، كنت أتلقى من ألان فى كل كريسماس بطاقة تهنئة بخطه الجميل. وفجأة أنقطع عن إرسال البطاقات. علمت أنه توفي. في أغسطس 1990، وكنت عميدا لكلية الزراعة بالجيزة، قمت مع زوجتي بزيارة سريعة إلى إدنبره. كانت هي الأخرى تحب إدنبره. تقابلنا هناك وكانت لنا قصة جميلة في ربوعها. كم تجولنا في شوارعها. زرنا الأماكن التي عرفتنا. تغيرت كثيراً. ياه المتحف الذي أمامه تقابلنا يأول مرة. القلعة. نصب السير والتر سكوت التذكاري. هوليرود- كينج آرثر سيت. ثم وقفت أمام المنزل: 38 شارع مونتبيليار بارك. هنا كنت أسكن مع حامد نافع وجلال النجدي. ثم توجهنا إلى بريد ستريت، إلى منزل ألان، وجدنا زوجته تودع شخصاً على باب الحديقة. وقفت أمامها.

نظرت إلىّ. لم تعرفني. تغيرت كثيراً. تغيرت هي الأخرى. تماماً ككل معالم إدنبره. ألا تذكرين؟ أوه .. أوه .. وعرفتني. دخلت وزوجتي المنزل. طلبت منها صورة لألان.

وضعت أمامي عدداً، انتقيت واحدة، في المساء كنت في منزل الدكتور هنريك كاتشر، مدير الدراسات، على عشاء صغير. ووجدت هناك زوجة ألان. حكت لي كيف مات زوجها العزيز: "في مؤتمر بباريس، كانت محاضرة الافتتاح له. وقف يلقي محاضرته، وفجأة صمت. ثم سأل: ما هذا؟ من أنتم؟ أين أنا؟ أسرعت زوجته إليه واصطحبته إلى الخارج. كان الرجل مصاباً بمرض الزهايمر. هذا موض وراثي. كان الوراثي العظيم مصاباً بمرض وراثي خطير، لا يظهر عادة إلا في الشيخوخة". تمضي زوجته تحكي وتبكي: "تصور. هذا الرجل الذكي العبقرى الذي تعرفه وقد أصبح طفلاً. لم يعد يعرفني. لم يعد يعرف أبناءه.

أصبح طفلاً فجأة. شريراً. كان قري البنية. مكث سنين قبل أن يتوقي" ثم أردفت: "كان لدينا كلب عاش معنا طويلاً، ثم أصيب بالسرطان، طلبت جمعية الرفق بالحيوان. أعطوه حقنة مات بعدها في هدوء". يزداد نحيبها وتستطرد: "لا أعرف.. لا أعرف، أليست هذه .. أليست هذه.." ثم غلبها البكاء وصمتت. دمعت عيني. بكت وجتي. ولم يفتني ماكانت تقصده: الموت الرحيم.

كم أنت قاس أيها الموت! كم أنت قاس أيها الموت! قالها فاروق شوشة.

ومن يومها بدأ اهـتمامي الجاد بالأمراض الوراثية للإنسان.

 

أحمد مستجير

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. أحمد مستجير





كتب ترجمها أحمد مستجير





من مؤلفات د. أحمد مستجير