أقنعة الكتابة.. أقنعة الذات!!

أقنعة الكتابة.. أقنعة الذات!!

«ولكن كيف» تجربة جديدة للكاتبة غادة الحلواني بعد مجموعتها القصصية الأولي «وخزة خفيفة». والكتاب الجديد، الذى صدر أخيرًا عن دار الفارابي ببيروت، يقوم على تجربة غير مسبوقة في الشكل، إذ يعتمد على التجريب في تقديم نصين معاً، نص باطني ونص ظاهرى تمايز بينهما بجعل الباطني مطبوعا بلون رمادي والنص الظاهر مطبوعا باللون الأسود، وتقدمهما فوق بعضهما في كل صفحة. هكذا يجري النصان معا كفرسين أمام عين القارئ، الذي سرعان ما يشعر بهيمنة النص الباطن، إذ رغم خفته الظاهرة من حيث اللون تتأكد هيمنته من تكراره هو هو في كل صفحة من صفحات الكتاب فتتحول الخفة إلى ثقل ناشئ من الملاحقة والمطاردة التي يمارسها النص على القارئ، كأنه الظل الذي لا فرار منه، أو كأنه (الهامة) التي لن تفلتك حتى تصل إلى غايتها كما في الأسطورة العربية. النص قصير وهو هكذا بالتحديد» بين ارتطام المجدول على الظهر وارتفاعه في الهواء تهبّ نسمة هواء محملة بفصلات وعلامات تنصيص ونقاط الزيت المغلي صديق المجدول، ذرات الرماد المتناثرة على سطحه المغلي لا تحترق أما المجدول فهو رفيق الصبايا، وونيس العجائز دعنا من المتاهات، ولنرسم طريقا نرى بوابة دخوله، ولتكن بوابة خروجه في منتصفه. محاولاتنا على استحياء ، كفوفنا على استحياء، إدراكنا على استحياء. وعيوننا على قرني ثور تزينهما. من أجلك صنعوا المجدول وصنعوني، من أجلك صنعوا العمر» قرأت النص عدّة مرات متحسباً من أن تكون الكاتبة غيرت جملة أو حتى مفردة على سبيل التلوين أو من أجل صنع مفارقة ما لكنني تأكدت أن هذه ليست لعبة النص، وأن اللعبة تكمن في الحوار الذي يديره هذا النص (الثابت) مع النص الظاهر (المتحول). النص الظاهر يتكون من قوسين صغيرين دون عناوين وبينهما ستة عشر نصا أو ست عشرة محاولة تترى من المحاولة رقم (1) وحتى المحاولة رقم (16). الشذوذ الوحيد في هذا الترتيب هي محاولة من دون رقم تقع بين المحاولة الثالثة والمحاولة الرابعة.

تراوح المحاولات/ النصوص بين الشعرية والنثرية، بين الواقعية والفانتازية، بين الحكاية والمونولوج أو الديالوح، كما تتفاوت في السرعة والبطء (حتى أن جملة واحدة هي المحاولة رقم «2» تستغرق سبع صفحات كاملة!!) بينما نجد في المحاولة رقم (6) حوارًا عبثيا بالغ السرعة. المحاولات هي محاولات ذات روائية، تقدمها النصوص بأشكال مراوغة كوعي منقسم على ذاته، ذات تعشق الشرفات العالية ، تمشي بأطراف أصابع أقدامها فوق أسوارها، فتاة تتمشى عند مفترق الطرق.. ثم تنقلب على نفسها صارخة: كُفي عن التوقف عند مفترق الطرق.. استعيني بكبريت ذكرك لحرق نفسك ثم انبعثي من رمادك من جديد إن استطعت، «ذات تحاول أن تسلخ عن وجهها الحقيقي الأقنعة تقول: دعني في آخر الليل أحصي عدد الأقنعة التي ملأت حقيبتي طوال سنواتي الثلاثين، ذات لاتستطيع أن تسخر أو تنتبه أو تصرخ أو تتحدث، لا تستطيع أن تقول آه ياوحدي، أن تكتب، أن تعزف، أن تكره، أن تموت. المحاولات الست عشرة هي أقنعة لذات تقول: في كل منا صورة لها لاتشبه الصور الأخرى، النص الباطن، كما قدمناه ، شعري بذاته، مقتصد ومكتنز ويغوي بالتأويل بينما ينطلق النص الظاهر كحصان في برية راصدا ولع البطلة في التفلت من أسوار حقيقية أو متوهمة، نص يتأرجح بين الشعري والفانتازي من حيث التشكيل وبين الذات والعالم من حيث الرؤية تاركا للقارئ أن يمارس فضوله في إقامة حواره الخاص بين النصين، حوار يقود فيه النص الظاهر النص الباطن إلى تحولات عدة تكسر من هيمنته (المكرسة بالتكرار) وتحوله عبر هذا الجدل إلى (جملة ايقاعية) تضبط نص الكتاب كله، أو حوار يتحول فيه النص الظاهر إلى مجرد حاشية طويلة في لعبة المتن والهامش وإن بأشكال ماكرة ومراوغة. في كلا الحوارين اللذين تديرهما الذات القارئة تظل الذات الروائية مدار الحوار وموضوعه فهي تقول: «ما أنا إلا حروف كتبت فوقها حروف على حروف» لذا فإن هذه الذات تطلع على كل قارئ بقناع مختلف، وهي تتطهر عبر هذه اللعبة / الجحيم فيما تواجه عالما يبدو حقيقيا وغير حقيقي في آن . إنه الوجع الذي يحدث عندما يصر المرء على أن يكون استثناء فتخترقه الضرورة ليصبح حائرا متألما من تردده بين الدخول في العالم والانسحاب منه. في حراك لايكف كما لاتكفّ الجديلة عن حركتها البندولية بين الارتفاع في الهواء وصك الظهر.

هذه قراءة لنص غامض ، يرجع غموضه إلى أن مرجعيته لاتوجد في الخارج وإنما في الذات الكاتبة كما يرجع الغموض أحيانا إلى الخلط في النصوص بين الفانتازي والرمزي. وبالرغم من أن المحاولات الست عشرة تشبه خلع قناع بعد قناع أو كما فعلت سالومي في رقصتها أمام رأس المعمدان عندما راحت تخلع ثوبا بعد ثوب حتى أصبحت عارية تماماً. أقول بالرغم من هذا التفسير لبناء الحكاية فإن التواريخ الملحقة بالمحاولات تثير التساؤل: هل هي تواريخ كتابة النصوص أم تواريخ التجارب التي خاضتها الذات، طوال سنيها الثلاثين. أعتقد أنها تواريخ التجارب ففي محاولة (بدون رقم) تؤرخه الكاتبة هكذا («من فبراير 1971 إلى فبراير 2054) أي من يوم ميلادها إلى بلوغها ثلاثة وثمانين عامًا!! ولأن التواريخ ملتبسة ولامرجعية لها إلاعند الذات فهي تساهم في هذا الغموض.

 

فريد أبوسعدة