آسيا.. من عقلية الخاضع.. إلى عقلية المبتكر

آسيا.. من عقلية الخاضع.. إلى عقلية المبتكر

حديث الشهر

هذا الحديث هو حصيلة سفرة شرقية طويلة امتدت من هونج كونج إلى سنغافورة قبل أن تحط رحالها لأيام عدة في بلاد الشمس المشرقة اليابان، حيث لم أكتف بجولة في مدنها الصناعية فقط، ولكنني اطلعت على منشآتها الثقافية.

هل لفت نظرك أيها القارئ أن اليابان رغم أن حاكمها الأسمي "إمبراطور" وابن للسماء فهي لا تسمى إمبراطورية، بل إن اسمها الرسمي هو اليابان فقط؟ ذلك الأمر يختصر الكثير من تاريخها الحديث، ولكن لذلك قصة أخرى.

الاتجاه شرقا ليس بجديد على تفكيري، فلقد كتبت أكثر من مرة أننا في الشرق الأوسط، والعرب خاصة، نرى في الغرب كعبة لكل جديد ومبتكر، بل نرى أن الحداثة والتقدم هما من إنتاج الغرب حصرا، وقد لا يكون ذلك خاطئا في مجمله، ولكن الخطأ ألا نلتفت إلى الشرق الذي نحن نظريا وجغرافيا جزء منه بل إن علينا الالتفات إلى الشرق الآسيوي على وجه التحديد، فقد أهملناه، وقام هو أيضا مشكورا بإهمالنا، ولكن الشرق عالم بذاته، له مشكلاته وله أيضا نجاحاته.

لقد فوجئت أن الآسيويين لهم نظرة أيضا فيمن ينتمي إلى آسيا ومن لا ينتمي إليها، فقد زرت متحفا للفن الشرقي الحديث في مدينة فكوكا في الجنوب الياباني ـ وهي مدينة قريبة نسبيا إلى آسيا ومهتمة بأن تكون صلة وصل فيما بين اليابان والدول الآسيوية ـ فوجدت أن هذا المتحف مهتم بآسيا الشرقية حتى باكستان فقط، وقال لي مدير المتحف بأدب ياباني تقليدي إن مواردنا لا تسمح بأكثر من ذلك الامتداد الجغرافي! ويبدو أنه حتى التقسيم الجغرافي عند النظر إليه من الشرق يختلف قليلا عنه عند النظر إليه من الغرب، إنه اختلاف أيضا في اتساع النظرة ومداها.

الشرق الآسيوي في حيرة من أمره، فكما أن فكرة صراع الحضارات التي أطلقها صمويل هننجتون قد شغلتنا نحن العرب، فهي تشغلهم أيضا، وهم الأكثر تعرضا للحروب الغربية في تاريخهم الحديث، فقد جاءت الأساطيل الغربية منذ القرن السادس عشر، وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كي تفتح طريق الشرق أمام التجارة الغربية كما تفتح قلوب من أطلق عليهم "الوثنيين" للديانة المسيحية. بقيت التجارة ولم تبق المسيحية إلا في جيوب صغيرة، ولكن المصالح مازالت هي الموجهة للعلاقات، أما الثقافة فقد تغيرت وربما إلى غير رجعة.

الآسيويون ينظرون إلى وضعهم في العالم بمراجعة شاملة، خاصة بعد أن حاولوا اللحاق بالغرب اقتصاديا فأصابتهم "العولمة" بصدمة وخسارة مالية كبيرة، وهم يدفعون ثمنا باهظا لها اليوم، ليس اقتصاديا وسياسيا فقط، ولكن اجتماعيا أيضا.

في وسط التسعينيات كان مجموع عدد السكان الآسيويين حوالي ثلاثة بلايين ونصف بليون انسان من مجموع سكان المعمورة البالغ وقتها حوالي خمسة بلايين إنسان، أي أن حوالي سبعين في المائة من مجموع سكان العالم وقتها كانوا آسيويين، وإذا نظرنا إلى المستقبل ـ وبتقدير متحفظ ـ فإن سكان آسيا بالنسبة لسكان العالم سوف يصلون إلى خمسة بلايين وسبعة أعشار البليون في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، في مجموع لسكان العالم يقدر وقتها بأقل قليلا من عشرة بلايين إنسان، بينما سيبقى عدد سكان أوربا والولايات المتحدة وكندا، في أفضل الأحوال، حوالي ثمانمائة مليون نسمة، أي حوالي عشرة في المائة من مجموع سكان العالم.

والسؤال الذي يطرحه الآسيويون هو: هل من العدل أن يبقى هؤلاء العشرة في المائة آخذين بناصية التنمية وتحريك عجلة الاقتصاد، بينما يبقى التسعون في المائة عبئا على حركة الاقتصاد العالمي؟

الفكر الغربي اليوم يفترض أو يأمل في أن تظل هذه العشرة في المائة تحمل أعباء التنمية العلمية والأمن العالمي إلى سنوات طويلة في القرن القادم، بل إن هذه العشرة في المائة سوف تحتفظ بأغلب الثروة العالمية.

أما الفكر الآسيوي فعلى العكس من ذلك يفترض ـ أو يتمنى ـ أن تنهض آسيا وأن تتغلب على مشاكلها الاقتصادية، خاصة أن فيها أكبر مخزون بشري في النصف الأول من القرن القادم، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكانها الحاليين، وأن تقوم بأعباء حضارية منوطة بها تجاه شعوبها والعالم، فهل تستطيع فعل ذلك؟ وكيف تواجه هذا التحدي؟

العودة إلى التاريخ

المفكرون الآسيويون مثلنا تماما يفضلون العودة الى التاريخ، ويقولون إنه ليس من المعقول ان تظل آسيا بعيدة عن النهضة، وقد شهدت في تاريخها نهضة ضخمة وعلينا أن نذكر أن الحضارة الصينية قد قدمت للعالم صناعة الورق والبارود والطباعة، وهي من دون شك من أهم ركائز الحضارة المعاصرة، كما أن نهضة أوربا الحديثة هي قريبة في الزمن ونسبية أيضا، فمن المؤكد أن أوربا وأخيرا أمريكا الشمالية قد قدمت إلى الإنسانية في القرون الأخيرة القليلة الكثير من المشاركة الحضارية، بل وحملت على عاتقها التقدم العالمي في الحضارة الإنسانية، إلا أن ذلك قد تم في القرون الأخيرة، وربما في الألف سنة الماضية على أبعد تقدير، ونحن على أعتاب الألفية الثالثة فهل تستمر هذه النسبة من المشاركة في الحضارة الإنسانية والتي تقع على أكتاف أوربا وأمريكا الشمالية؟ أم تساهم آسيا فيها أيضا؟

العودة إلى التاريخ هنا قضية مهمة، فماذا كانت عليه الإنسانية على مشارف الألفية الثانية التي تكاد تنقضي، أي قبل ألف عام من الآن؟

على مشارف الألفية الثانية كان العرب المسلمون، والصينيون، والإسلام، والفلسفة الكنفوشية، قد قادوا الطريق بقوة في مجالات العلم والتقنية، وفي الطب وعلم الفلك، العرب تبنوا النظام العشري من الهند، وتعلموا صناعة الورق من الصين، وأول جامعة عرفها العالم أنشئت قبل أكثر من ألف عام في مدينة القاهرة العربية المسلمة، وكانت أوربا في ذلك الوقت تعيش فيما يسمى بالعصر المظلم بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي.

أمام هذه الخطوات المتقدمة التي حققتها الحضارة في الشرق، كان من غير المتصور وقتها أن تتأخر الحضارات الشرقية، الهندية والصينية والحضارة الإسلامية وتسقط في التخلف، وتتقدم الحضارة الأوربية كي تصبح أول حضارة تسيطر على العالم بأكمله، ولكن ذلك لم يحدث فجأة، ولا من دون مبررات.

حتى القرن السادس عشر كانت المجتمعات الآسيوية، حتى بعد أن فقدت قوتها العسكرية، كانت على الدرجة نفسها من التقدم الحضاري في أوربا، ولم تكن هناك أي مؤشرات تدل على أن أوربا سوف تقفز إلى الأمام بالشكل الذي تمت به تلك القفزة الكبيرة، ففي ذلك الوقت كانت عوامل الضعف الأوربية أكثر من عوامل القوة، لم تكن أراضيها، مثلا ، أكثر الأراضي خصوبة في العالم، ولم تكن أكثر المناطق كثافة بالسكان، عندما كانت الأرض مصدر معظم الثروة الإنسانية، وكانت القوة العضلية "البشرية والحيوانية" هما مصدر الطاقة المحركة.

وحتى ذلك الوقت لم تكن أوربا قد قدمت مساهمات ملحوظة في مجالات العلوم والثقافة أو في الرياضيات أو الهندسة أو في علوم الملاحة والفلك والتقنيات الأخرى التي كانت معروفة في آسيا، كما كانت أيضا قارة مختلفة فيما بينها لدرجة عميقة، ومقسمة بين تيارات وممالك وإمارات صغيرة، واجتهادات دينية متحاربة. أكثر من ذلك فإن أوربا في نهاية القرن الخامس عشر كانت في اشتباك دموي وصراع حاد مع الإمبراطورية العثمانية المتمددة في أوربا، والتي كانت تدفع بقواها العظيمة إلى أبواب فيينا، إحدى العواصم المهمة في أوربا وبوابتها في ذلك الوقت، وقد وصل الاعتراف الأوربي بنفوذ السلطة العثمانية إلى درجة أن أمراء المدن الألمانية بعيدا عن خطوط التماس كانوا يدفعون الجزية التي كانت تسمى "تركن فيركرانج" للباب العالي في إسطنبول، اعترافا بسلطته.

الثقافة الآسيوية بدت وكأنها منتعشة في القرن الخامس عشر، الصين على سبيل المثال كان لها ثقافة حيوية وبناءة، وبدأ التنظيم الإداري المركزي والذي كان يدار من من خلال مثقفين على درجة من الدراية والخبرة بعد أن يدخلوا مسابقات على مستوى البلاد كلها لاختيارهم للمهام المنوطة بهم، وقد أثمر ذلك استقرارا وتماثلا، وتنظيما اقتصاديا للمجتمع الصيني غير مسبوق، كما أن التقدم الصيني كان مشاهدا، حيث اخترع الصينيون الحروف المتحركة للطباعة منذ القرن الحادي عشر، وكثفت العملة الورقية التي اعتمدوها من سرعة التبادل التجاري وتوسيع نطاق السوق، وكانت الصناعة العملاقة للصين وقتها هي صناعة الحديد، وتزامنت مع اختراع البارود وبذلك حققت للصين قوة عسكرية لا تضاهى.

صعود أوربا

وبالرغم من هذا التقدم الإنساني في آسيا الذي كان في المقدمة قبل أي منطقة أخرى من العالم، فإن المفاجأة كانت أن أوربا هي التي قفزت إلى المقدمة بعد القرن الخامس عشر وما يليه، ربما بشيء من الانقلاب الذي حصل للعقل الأوربي، وتلاحقت موجات القفز إلى الأمام موجة بعد موجة من التقدم، سارت بالحضارة الإنسانية إلى الأمام، من عصر النهضة إلى عصر التنوير، ومن الثورة العلمية إلى الثورة الصناعية، إلى الثورة الاجتماعية.

حدث ذلك بينما كانت المجتمعات الآسيوية تتقهقر إلى الخلف وتركن إلى التحجر، أما المجتمعات الأوربية فكانت تسير للأمام بطرق جديدة ومبتكرة من التنظيم الاقتصادي، والديناميكية العسكرية، والتعددية السياسية في القارة جميعها (إن لم يكن في كل دولة)، وكانت الحرية الثقافية التي بدأت في إيطاليا، ثم بريطانيا وهولندا، قد قدمت للمجتمع الأوربي ما عرف بعد ذلك بـ "المعجزة الأوربية".. لقد بدأت أوربا تتقدم إلى قيادة العالم بينما بقيت آسيا تراقب ذلك التقدم دون حراك.

حركة الاستعمار التي بدأت في القرن السادس عشر، والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر عززتا وحصنتا من التفوق الأوربي، حتى أصبحنا في القرن العشرين نعتقد أن أي إنساني لابد أن يكون له أب أوربي.

ولو فكرنا اليوم في الحقائق التاريخية لوجدنا أنه من الغرابة أن دولة مثل البرتغال وهي دولة ذات محدودية سكانية وجغرافية، تستطيع أن تستعمر مناطق مختلفة من العالم لبلاد تفوقها عددا في السكان، وتتفوق عليها في المساحة، ولكن ذلك ما حصل بالفعل، والغريب ـ إن فكرنا بمنطق اليوم ـ أن ذلك حصل في القرن السادس عشر، ولم تكن التقنية بين الشرق والغرب في ذلك الوقت تمثل فارقا كبيرا، غير أن المجتمعات الأوربية قد طورت تجهيزاتها العسكرية بوتيرة أسرع من المجتمعات الشرقية، فهي لم تكتف باختراع السفن ذات الأشرعة المثلثة والسريعة ولكن زودتها أيضا بالمدافع العملاقة والمهلكة.

المستعمرون البرتغاليون تبعهم الإسبان، والهولنديون، والفرنسيون، ثم الإنجليز، خلال هذه الفترة التي استمرت حوالي ثلاثة قرون أو أكثر قليلا كانت المجتمعات الآسيوية مضطجعة ومستسلمة للاستعمار من مجتمعات أصغر من مجتمعاتها.

أسوأ ما حدث لآسيا والمجتمعات الآسيوية، ليس ما وجدت نفسها فيه من الناحية الحسية من استعمار مباشر، بأن تقع أراضيها تحت السيطرة المباشرة للأوربيين، ولكن الأسوأ هو الاستعمار العقلي الذي وجد الكثيرون من أبناء آسيا أنفسهم أسرى له، فقد بدأ العديد من الآسيويين يقتنعون بأنهم أقل شأنا بشكل ما من الأوربيين المتفوقين الذين حكموا العالم، فكيف يمكن لعدة آلاف من البريطانيين أن يحكموا قارة مثل الهند أو جنوب شرق آسيا، والمشكلة أن هذا الاستعمار العقلي لم ينزاح عن عقول بعض الآسيويين، حتى الآن، فما زال بعضهم يكافح للخروج من هذا المأزق، ومازال بعضهم غارقا فيه.

وحتى اليوم وبعد خمسمائة سنة من وصول طلائع البرتغاليين إلى آسيا "طوال النصف الثاني من الألفية الثانية" مازالت آسيا بشكل عام متخلفة عن العالم، فقط مجتمع واحد من المجتمعات الاسيوية هو المجتمع الياباني وصل إلى مستوى ما وصلت إليه المجتمعات في أوربا وشمال أمريكا بشكل عام.

العقل الياباني هو العقل الأول الذي استيقظ في آسيا، بدءا من إصلاحات الميجي في ستينيات القرن التاسع عشر، حتى قبلت اليابان شريكا مع القوى الغربية، واعترف بأنها بلد متطور عندما وقعت الاتفاقية البريطانية ـ اليابانية في سنة ،1902 وأخذت اليابان تتقدم في النصف الأول من القرن العشرين، وخاضت حروبا عديدة، ولكنها في النهاية استطاعت أن تتخلص من عقلية الخاضع وأن تتحول إلى عقلية المبتكر.

وقد كنت أعتقد أن النهضة اليابانية كانت كلها قد حدثت من جراء عمليتي "النقل والمحاكاة" للأوربيين، حتى زرت متحف تويوتا في مدينة "نيكويا" فوجدت أن تويودا (وهذا اسم مؤسس شركات تويوتا، وصاحب الشركة التي أسسها في العشرينيات من هذا القرن) قد طور تقنيات ماكينات الغزل التي كانت معروفة في الغرب إلى درجة أنه باع اختراعه الجديد للإنجليز ومن ذلك الدخل الإضافي الذي حصل عليه، بدأ صناعة متواضعة للسيارات وفي مصنع الغزل والنسيج الذي يملكه، حتى أصبحت شركات تويوتا هي ما نعرفها اليوم.

وقد ضمني عشاء مع بعض اليابانيين وبعض السفراء العرب في طوكيو العاصمة، وكان الحديث عن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به اليابان، وكانت الحكومة اليابانية قد قامت في رأس السنة الحالية من أجل انعاش الدورة الاقتصادية، بتقديم هدية عبارة عن قسيمة شراء لكل عائلة بقيمة حوالي خمسمائة دولار تصرف للأطفال دون الخامسة عشرة وللكبار فوق الخامسة والستين في نهاية الميزانية (أبريل 99)، وذلك من أجل صرفها في المتاجر المحلية لتحريك الاقتصاد، وفجأة سمعت أحد اليابانيين يقول بشيء من الغضب، "إن ذلك عمل من أعمال المساعدات الخيرية لا نقبله". الياباني تعود على الادخار لا الصرف.

الروح هنا هي الأهم، فالياباني مستعد أن يعمل لساعات طويلة ليكسب قوته، ولا يقبل الصدقة، بل إن اليابان قلقة لأن نسبة البطالة بين اليد العاملة فيها قد ارتفعت إلى أربعة في المائة من قوة العمل، ومن لا يعمل في اليابان لا يسمى تقليديا "عاطلا" عن العمل، بل تطلق عليه كلمة "متشرد"، لأن تعبير العاطل عن العمل غير موجود بكثرة في المصطلح الياباني.

ومن القصص ذات العلاقة بهذا الأمر والتي تداولتها أخيرا الصحف اليابانية، أن أحد العاملين أقدم على الانتحار في مكتب رئيسه بشق بطنه بسكين حادة، لأنه لم يقبل أن يحال للتقاعد مبكرا، لقد كان فقط في الخامسة والخمسين من العمر!

التقدم الأوربي والتخلف الشرقي

عندما نقرأ عن تقدم أوربا اليوم يبدو لبعض منا أن ذلك التقدم تحقق دون مقاومة ودون ثمن أيضا، ولكن الصحيح هو العكس، فقد قدمت المجتمعات الأوربية العظيم من التضحيات ودخلت العميق من الصراعات من أجل تحقيق التقدم الذي نشاهده، وخاضت المعارك الحقيقية فكريا ضد الأفكار الجامدة التي كانت تريد إبقاء عقلية القرون الوسطى المتحجرة لتسيطر في النهاية أفكار الإيمان بقيم العلم والتقنية، وهي العمود الفقري للحداثة، ذلك العلم القائم على التجربة المعملية والوقائع المادية، ولقد كانت مقاومة هذا التيار عظيمة عبر عنها القديس أوغسطين "354 ـ 430م" حين قال إن "سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الإنساني، فحيث يقع التناقض بين الملاحظة العلمية وهذا الكتاب تهمل الملاحظة".

ولكن العلم والتجربة في نهاية الأمر هما ما مكنا أوربا من تحديث البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أهلتها بعد ذلك للخروج على العالم كقوة لا تقهر، ولقد ثبت أنه بواسطة ذلك العلم التقنية ضمن الغرب السيطرة والقبض على مفاصل تقدم الحضارة الإنسانية، وهز من الأعماق البنى الاقتصادية والاجتماعية لكل مجتمعات العالم.

واحد من ردود فعل تلك الشعوب للتقدم الأوربي ما حدث في مصر على سبيل المثال، وهي من البلاد العربية التي احتكت بالغرب بشكل مباشر ومبكر بعد الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، فنقل لنا رفاعة الطهطاوي هذا الانبهار بباريس "المدينة البهية العامرة بسائر العلوم الحكيمة والفنون والعدل العجيب والإنصاف الغريب".

ومنذ ذلك الاحتكاك الخشن في العصر الحديث بين الغرب والشرق في القرون الثلاثة الأخيرة كان السؤال المطروح هو: هل التغيير المطلوب هو في تبني العلوم الحديثة مع بقاء البنى الاقتصادية والاجتماعية على حالها؟ أم أن ذلك التبني أو المحاكاة لها متطلب سابق وهو ضرورة التغيير في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، للوصول إلى تلك المحاكاة، والتعامل معها على نفس الدرجة من الندية بين شعوب آسيا والغرب؟

أنجح التجارب

والتجربة اليابانية هي بلاشك أنجح التجارب في آسيا وربما الوحيدة، التي حاكت الغرب ولكن بشيء من الابتكار والإضافة، ولكن هذه التجربة لم تنجح ببساطة أو دون صراع، أو دون تضحيات عظام، فمنذ رسو السفن الحربية الأمريكية في خليج طوكيو (يسميها التاريخ الياباني بالسفن السود) بقيادة ماثيو بري في منتصف القرن الماضي "1853" وذلك من أجل فتح أسواق اليابان للتجارة الخارجية، استجابت اليابان بطرق عديدة لهذا التحدي، كانت أولاها هي الإصلاحات التي تمت في الداخل، فقد كانت مقاطعات اليابان تحكم من قبل حكام عسكريين جمهوريين ليس للإمبراطور عليهم من سلطة إلا سلطة شكلية فقط، وكان الحاكم العسكري هو حاكما إقطاعيا شرقيا بكل ما تعني الكلمة، له جيشه الخاص ويفرض ضرائبه التي يقررها متى يشاء على الفلاحين والصناع، فجاءت إصلاحات الميجي "نسبة إلى اسم الإمبراطور وقتها" في نهاية ستينيات القرن التاسع عشر لتوحد اليابان وتتخلص من الحكم العسكري الإقطاعي.

ولكن الاستجابة الأولى لليابان تجاه الغرب كانت محاكاته، وإذا كانت القوة العسكرية هي الأساس للتفوق، فلتتبن اليابان إذن قوة عسكرية، خاصة أن الثقافة اليابانية التقليدية مؤهلة لقبول ذلك، فهي مطيعة ومنتظمة وتتحمل العمل الشاق، فتحولت اليابان إلى قوة عسكرية، ولكن ليس دون تبني العلوم والتقنية الحديثة. وفي سنوات لم تتأخر عن العقود الأربعة أصبحت اليابان من القوى العسكرية التي تهابها الدول المحيطة والبعيدة، بل قامت بعدد من الحروب مع جيرانها، فقبل أن ينقضي القرن ربحت اليابان حربا ضد الصين، وأخذت تايوان كغنيمة، ثم هزمت أسطول روسيا القيصرية واحتلت كوريا في بداية القرن العشرين، ثم غزت منشوريا وتغلغلت جنوبا في الصين.

واستمر تعايش الأخذ بالحديث في العلوم والتقنية في اليابان، مع البقاء على التقليدية في البنى الاجتماعية والسياسية، حتى خاضت اليابان حروب أوربا وهي الحربان العالميتان الأولى والثانية، بل كانت تقنيتها العسكرية في الحرب الثانية، خاصة في صناعة الطائرات، أكثر تقدما من بعض الدول الغربية الكبيرة.

وفقط بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، تحولت أو بالأحرى حولت "بضم الحاء" البنى السياسية والاجتماعية إلى أشكال حديثة، فأصبح الانسجام بين التقدم التقني والاقتصادي وبين البنى السياسية والاجتماعية ممكنا، فقد قامت الإدارة الأمريكية المنتصرة وبكل قوة بنزع جذور العسكرية في الثقافة اليابانية، وحتى اليوم فإن أفكار احتمال تسلح اليابان ـ تحت أي شعار ـ تبعث الرجفة والخوف في قلوب الدول المجاورة لها، ولكنها كقوة اقتصادية وقبل ذلك علمية وتقنية هي الوحيدة في آسيا ـ كما قلت ـ المشاركة للغرب تقنيا، وهنا يأتي التفسير لماذا يشار إلى اليابان فقط دون الإشارة إلى الإمبراطور أو إمبراطورية اليابان؟ حتى لا تعود فكرة القومية اليابانية المعتمدة على خدمة الإمبراطور! إلا أنه يوجد اليوم نقاش في اليابان لعودة تلك الروح، ويتحدث البعض عن ضرورة إعادة النشيد الوطني القديم.

هل تستطيع آسيا أن تفكر؟

هذا السؤال لم أطرحه شخصيا، ولكنه مطروح من عدد من المفكرين الآسيويين، أحدهم هو كيشور محبوبيان مفكر ودبلوماسي من سنغافورة، نشر رؤاه حول العقبات التي تعطل نمو آسيا في أكثر من مجلة دولية منها مجلة الشئون الخارجية الأمريكية المعروفة، ومازال يساهم في الكثير من الندوات والنقاشات الدولية حول آسيا.

أطروحة محبوبيان تتلخص في محاولة الإجابة عن السؤال المركزي وهو: هل تستطيع آسيا أن تفكر؟ يجيب، عن هذا السؤال بإجابات ثلاث هي: لا، نعم، ربما.

اعرض لها هنا باختصار.

الإجابة بـ "لا" واضحة المعالم، فالآسيوي ـ في الغالب ـ جيد كفرد ولكنه لا يستطيع التعامل مع الفريق، سواء كان هذا الفريق سياسيا أو علميا أو اجتماعيا، فالروح الفردية للآسيوي تعطله عن فهم واستيعاب التنظيم المؤسسي الحديث، العمل مع الجماعة، هذا هو التفسير الذي يعطيه محبوبيان لقدرة الاستعمار الغربي على السيطرة على عدد كبير من الشعوب الآسيوية طوال هذا التاريخ، نعم لا يستطيعون التفكير لأنهم حتى اليوم لم يفهموا المأزق التاريخي الذي وجدوا أنفسهم فيه من جراء التخلف العلمي والثقافي والتقني.

أما الإجابة بـ "نعم"، فيضعها كيشور في المراهنة على التقدم الاقتصادي الكبير الذي حققته اقتصادات جنوب شرق آسيا في الثمانينيات، خاصة ـ إن استبعدنا اليابان ـ النمور الأربعة الأساسية وهي كوريا الجنوبية، تايوان، هونج كونج وسنغافورة، نجاح الأربعة السابقين شجعت دولا في جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وماليزيا وتايلاند للحاق بهذا التيار، ولكن الفشل الجزئي الذي أصاب هذا النجاح الاقتصادي في وسط التسعينيات يضع علامة استفهام على أطروحة محبوبيان، إلا أنه من المهم أيضا أن ننظر إلى الصين، وهي إحدى القوى الآسيوية القادمة إلى المسرح العالمي بقوة، فبعض الاقتصاديين يرون أن الصين سوف تتفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة وتصبح أكبر سوق اقتصادي في العالم في الثلث الأول من القرن القادم.

بالمقارنة الإحصائية يقدم كيشور أرقاما لافتة للنظر، خاصة في السنوات التي اسغرقتها الدول لمضاعفة دخلها القومي، لقد أخذت بلدان مثل بريطانيا ثمانية وخمسين عاما، والولايات المتحدة سبعة وأربعين عاما، واليابان ثلاثة وثلاثين عاما لمضاعفة الدخل القومي ، أما في إندونيسيا فقد تم ذلك في سبعة عشر عاما، وفي كوريا الجنوبية أحد عشر عاما، وفي الصين استغرق مضاعفة الدخل القومي فقط عشر سنوات، لم يحدث ذلك بالصدفة، بالتأكيد وراءه عمل شاق.

السؤال هل قامت هذه البلدان بالتحديث التقني والعلمي بجانب التحديث الاقتصادي، أم أن ذلك حدث دون التغيير في التصورات العلمية والاجتماعية والسياسية؟

في البلدان التي تم فيها ذلك التغيير الشامل، حدث تغير في "العقلية" أو في النمط الثقافي الذي بسببه ـ وإن وجدت بعض الصعوبات الاقتصادية ـ كانت قادرة على إعادة خلق الثروة الوطنية، ودون تغيير في العقلية تجاه تبني العلم والتقنية وتحديث البنى الاجتماعية والسياسية فإن أية نتائج اقتصادية إيجابية مهما بلغ نجاحها هي مؤقتة.

إما الإجابة بـ "ربما" فيبدؤها محبوبي بالقول إنه بالرغم من الأزمة الاقتصادية العميقة التي أصابت الاقتصاد في جنوب شرق آسيا في سنة ،1997 فإن معظم هذه الدول ظل متفائلا بالمستقبل، ولكن هذه الأزمة بينت لهذه الدول دون شك، أو دون كثير من الرجم بالغيب، أنه دون تغيير في الموقف السياسي والاجتماعي فإن المحافظة على التنمية عمل يعتمد على الصدفة دون اعتماده على التخطيط.

النجاح والفشل:

لقد ظلت الأدبيات الغربية ـ خاصة في الثمانينيات ـ تتحدث عن النجاح الاقتصادي في جنوب شرق آسيا على أنه اعتمد على "القيم الآسيوية"، وبأنها قيم تقدس العمل وتحترم الطاعة تقليديا، كما أنها غير قابلة أو قادرة على ممارسة العمل الديمقراطي والتبادل السلمي للسلطة، وكانت الأمثلة متوفرة، فهونج كونج لم يكن بها تمثيل سياسي، كما أن بعض الدول الأخرى خضعت لانتخابات دورية، ولكن لم يتغير الحزب الحاكم ولا شخوصه لفترة طويلة من الزمن، مثل سنغافورة وإندونيسيا.

هذه الدراسات اهتم بها بعض أهل آسيا واعتبروها وقتها حقيقة علمية لا جدال حولها، ومبررا لاستمرار ما هو قائم، خاصة في فترة نجاحهم الاقتصادي.

حتى حدثت الكارثة أو الأزمة الاقتصادية في الثلث الأخير من التسعينيات، وعلى وجه التحديد سنة 1997 "السنة يا للمصادفة كانت نفس السنة التي خرجت فيها بريطانيا من آخر مستعمراتها في المنطقة وهي هونج كونج".

وقاست هذه المجتمعات الكثير من الآلام الاقتصادية، ومازال بعضها يعاني من نتائجها، وقد حطم هذا الادعاءات التي ترجع كل هذه النجاحات إلى "القيم" الآسيوية، وهي الأقوال التي انتشرت في الغرب لتبرير أسباب النجاح الاقتصادي، ولم يقتنع أهل آسيا، وهم يرون سقوط سوهارتو في إندونيسيا، ومحاكمة أنور إبراهيم في ماليزيا، وانهيار الحكم في كوريا الجنوبية بتفسيرات سهلة وبسيطة، فبدأوا يبحثون عن طرق أخرى للحفاظ على مستوى من التنمية، فتوجهت نخبهم للحديث عن أهمية الميدان الثقافي والعلمي وسيادة التيار العقلاني والتجريبي وتحديث المجتمع عن طريق تحقيق الشفافية وتحمل المسئولية أمام الناس، وقد كانت هذه المبادئ أحد أهم مصادر التفوق الغربي، ولابد له أن يستوعب.

ولم يعد هناك من يقبل تبرير تراكم الثروات غير المشروع، والفساد السياسي والإداري ولم يعد النجاح الاقتصادي مبررا لترك الأمور على ما هي عليه.

وتجرى الآن في آسيا مناقشة جادة ـ إن لم يكن في كلها ففي معظم دولها ـ لمراجعة شاملة من إندونيسيا إلى الفليبين، ومن ماليزيا إلى كوريا لما حدث، وما هو مطلوب للمنافسة الدولية في القرن الواحد والعشرين.

تلك حصيلة ومختصر لما سمعت ورأيت وقرأت في رحلة طويلة نسبيا، استمتع الأقران فيها بقضاء عيد الأضحى مع أسرهم، وكان علي السفر والانتقال.. والتعلم أيضا.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات