خلف دموع الشتاءات

خلف دموع الشتاءات

خاليًا كان قلبي من كل شيء
سوى رغبةٍ لا تفسّر
في فكّ لغز النساء المحيِّر،
ما كنتُ أسمع في البدءِ
إلا حفيفًا عديم الغصونِ
لأصواتهنّ التي تتفتّح مثل الدبابيس
بين الشرايين،
ما كنت أحلمُ إلا بأجسادهنّ
التي تستهلُّ الصباحات
مع كلّ طالع شمسٍ،
وفي غفلةٍ من فصول الطبيعةِ
نوديتُ بالاسم
كيما تتمّم عيناي سحر الأنوثةِ،
واجتاحني وابلْ من أعاصير
راحت تقضُّ عروقي ببطءٍ
وتحملُني كالصقور مخالبُها الجارحة
لستُ أذكر من أين هبّتْ
على جسدي، يومها،
روح تلك الفتاة التي انحدرتْ
من تقافُزِ أحصنةٍ لم تروَّض
إلى شللٍ غامضٍ في العظامْ
ربما من تمايل صفصافةٍ فوق نهرٍ
أطلّت تباشيرها
ربما من تقاطُع مجرى الأنوثةِ
مع رغبتي في استعادةِ
خيط الحليب الشحيح
الذي قادني باكرًا نحو سنِّ الفطام
كأنْ لم تهيئ لي الأرضُ عينينِ
إلا لأبصر في ضوءِ ما خَلَّفَتْهُ
انقسام الزهورِ على نفسها
في عماءِ الجسدْ
وما كان لهوًا بريئًا
على طرقات الطفولةِ
أضحى مطاردةً لا هوادة في شجْوها
لاحتمالات ذاك القوامِ
العصيِّ على اللمس،
ما كان للفجر أن يتفتّح
إلا ليَنْصب أقواسه من وراء الجبالْ
ولم يهبط الليلُ
إلا ليبلغ حدَّ السماء
جدار الظلالٍ التي حالفتْ نومهُ
في سرير التشهِّي،
وما كنتُ إذ ذاك
إلاّ يتيم الأغاني التي انساب
ريحانُها البكرُ مثل النعاسِ
على غرّة الأوديةْ
وما كنت إلاّ جريح الرذاذ
الذي راح يحملني نزفُهُ
مثلما تحمل امرأةٌ طفلها
فوق أقمطة الدمع،
ألمحني من غيابةِ ذاك الزمنْ
راكضًا في حقول الصبا
حيث كان النسيم خفيفًا
يداعب شعر الفتاة
ويتركني عاجزًا عن مجاراتهِ
في السديم المهيمنِ،
لا أتذكر من وجهها بعد هذي السنين
سوى الانغلاق الشديد لأهدابِه
وهو يجري مع الماءِ
نحو الشموس التي عكستْ لونهُ
في بياض المرايا،
ولا أتذكِّرُ
إلا ذراع الخريف الطويلةِ
تلتفُّ من خلف أحزانها الغابرهْ
ودقّات قلب الينابيع في صدرها
وهي تنسل من جنحِ ليلٍ
غزير الطبولِ
إلى جسدي المضطربْ
ذلك الوجهُ،
وجهُ الفتاةِ الذي غار
مع ظله الكستنائيّ
في فجوات الدخان العميقةِ
أين هو الآن؟
هل شاخَ؟
هل غضّنتهُ التجاعيد؟
هل ذابَ كالملح خلف دموع الشتاءات؟...
أو ربما لم يُفِقْ بعد من نومِهِ
تحت شمس القصيدة!

 

شوقي بزيع