الميديا الأمريكية بين مطرقة التجارة وسندان الصحافة

الميديا الأمريكية بين مطرقة التجارة وسندان الصحافة

تنفرد الميديا الأمريكية بموقع ومنزلة عز نظيرهما في غير بلد من بلدان العالم. فهى أولا تتنتع باستقلال ندر أن تجده في غير مكان ، ذلك من خلال حصانة الحرية. غير المشروطة . التي أكدها دستور البلاد

إنها صناعة تنعم بالمؤهلات الصحافية العالية في تأدية المهنة، تنهل من معين لا ينقطع تدفقه من المعلومات، ترسو على الأجدد مطلقا من وسائل التكونولجيا الحديثة، هذا بالإضافة إلى تربعها على قاعدة صلبة في السوق المالية تقدر قيمتها بـ 131 بليون دولار تأتيها سنويا من عائدات الإعلانات وحدها "إحصاءات عام 1992 حسب جون ميريل في كتابه الصحافة العالمية".

وبفعل تأثيراتها على حياة الأمريكيين وأولى القرار منهم، كذلك فهي ثالثا، تبدو كما لو أنها السلطة الخفية الرابعة في البلاد بعد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومن الأمريكيين من يشير إليها تحديدا بهذا الاسم، كما أن أصحاب المؤسسات الصحافية من لم يفتهم ذلك فأمعنوا في الاستفادة من هذا الموقع في أكثر من مناسبة ، لأكثر من دافع ، وعلى أكثر من جهة.

ولعل أسباب هذه القوة هي نفسها مكامن الخلل فيها، فالحرية غير المشروطة التي حصنها بها الدستور، بمثل ما يمكن أن تكون معبرها للتنوير، كما هو مفترض، بمثل ما يمكن أن تكون مظلتها للتضليل كذلك، أما رساؤها على الأحداث من وسائل التكنولوجيا، فهو بمثل ما يؤهلهم لتقديم الأشمل، والأدق والأسرع في مجال الأخبار والمعلومات، بمثل ما يمكن تعريضها- تحت ضغط المنافسة- للوقوع فى شرائك الأخطاء، هذا إن لم يكن دفعها نحو الرخص والابتذال، وأما كونها قوية ونافذة، فهذا النفوذ وتلك القوة لم يأتياها إلا من طبيعة وظيفتها فى البحث عن الحقيقة، والميديا بمثل ما يمكن أن تكون قوية بالتسلح بها، يمثل ما يمكن أن تكون هزيلة باستخدامها للتسلل إلى سلطة ليست لها.

ما من أحد من المهتمين بشئون الميديا في الولايات المتحدة الأمريكية يقترح الحد ولو قيد شعرة من حريتها،أو الأخذ ولو مقدار حبة قمح من تطورها التكنولوجي، أ, رجاء غير ما هي عليه في السوق المالية التي مبدؤها المنافسة على قاعدة العرض و الطلب. مع ذلك فإن الميديا الأمريكية، وبإقرار معظم المهتمين بشئونها، إن لم يكن جميعهم، تمر بأزمة ثقة حادة في وظيفتها، دورها، وأدائها هذا إضافة إلى الشرخ الحاد والمتسع يوما بعد يوم بينها وبين جمهورها. الأمر الذي حدا العديد من أصحاب المهنة الاستعداد لمواجهة الأسئلة الجدية عن مستقبلها ومصيرها، ليس من منظار حسابات السوق وحدها، والتي بدأت إشاراتها المتردية بالانعاكس علسها سلبيا، إن الجهة انخفاض نسب القراء والمشتركين بما يخص الصحافة المطبوعة، أو لجهة تذمر وشكوى المشاهدين السامعين بما يخص الإعلام المرئى والمسموع، وإنما كذلك من منظار المهنة نفسها: طبيعة ووظيفة وأهدافا.

وهذا بالتحديد، ما حدا ما يقارب الـ 1000 صحافي حتى الان، إلى التعبير عن قلقهم تجاه المهنة، وذلك عبر توقيعهم بيانا يدعو المؤسسات الصحافية مشاركتهم البحث عن الأسباب الكامنة وراء تردي أوضاعها، ثم وضع التوصيات المناسبة كمحاولة لتصويب اتجاهها، إذا أمكن .

بدأ هذا المجهود بمبادرة من " مؤسسة نيمان"، وهي مؤسسة قديمة تأسست في العام 1937 في جامعة هارفاد، ذلك بوصية من أغنيز واهل نيمان كذكرى لزوجها مؤسس صحيفة ميواكي. أما الهدف من ذلك على حد تعبيرها فهو "تعزيز الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية والارتفاع بمستواها". إذن، والحالة هذه، فليس غربيا أن تتصدر مؤسسة نيمان الموقف متصدية لما أطلقت عليه "كارثة الصحافة " في أمريكا هذه الأيام. وفي العرض أدناه لمحاولات المؤسسة المذكورة سوف تظهر للقارئ إشكاليات الصحافة الأمريكية من زاويتي غرفة التحرير والإدارة المالية ، إلا أنني قبل ذلك وبغية تحديد هذا المتشعب وحصر خلفيته، فأود إدراج النقاط الثلاث التالية: الأولى، وهى أن الصحافة الأمريكية- مثلها مثل الديمقراطية- تشارك دول هذه الأخيرة الكثير من صفاتها، ولكنها في النتيجة تنفرد بخاصيات من صنيعها وحدها. فعدا عن جملة من العوامل والاختلافات التاريخية والثقافية والاجتماعية في نشأة الصحافة الأمريكية وتطورها بالمقارنة مع كل من هذه الدول ، فهناك اختلاف أساسي آخر في نشأتها ويتمحور حول بنيتها الاقتصادية.

الصحيفة والإعلان

فى العام 1800، قال جيمس كيري، أستاذ الصحافة الدولية في جامعة كولومبيا: كان الاسم المتداول للصحافة الأمريكية هو "المعلن" . ويجب أخذ هذه التسمية بالمعنى الحرفى للكلمة لأنه لم يقصد بالإعلانات المساحة المخصصة لها على صفحات الجريدة وإنما الجريدة نفسها التي "هدفها واحد... (أو قل) إن واحدا من أهم أهدافها هو الإعلان عن بضائع المصانع ، أسعارها، كمياتها وجاهزيتها. وعلى هذا فلم يكن هناك من فاصل بين وجهي الصحافة والتجارة فى المهنة ، فالوجهان وجه لعملة واحدة هي التجارة .

"الصحافة المتحزبة"، هي الطور الثاني للصحافة الأمريكية على مدى القرن التاسع عشر ، واصل كيري، وعلى هذا فلم يكن هناك من مشكلة بين وجهي الصحيفة كذلك، "لأن المصدر المالى للمخبر هو مصدر الأخبار للممول"، إن قضية الفصل بين الصحافة والتجارة ، قال "هي مشكلة المائة سنة الأخيرة من مطلع هذا القرن فقط". ترافق ذلك مع إعلان الصحافة استقلالها عن الأحزاب السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالى استقلالها عن مكاتبها المالية، ونتيجة لذلك بدأت الصحافة الأمريكية تشهد نوع علاقة جديدة في بنيتها عرفت بـ "العلاقة العضوية" بين الصحافة وأصحابها: الصحف المملوكة من قبل شركات صحافية".

وقد يلحظ المراقب ارتياح كيري وهو يتحدث عن هذه الفترة ، كما يلحظ افتخاره وهو يسجل عنادها فى الإبقاء على استقلاليتها، إ أنه لم يكن هناك من مانع برأيه يحول دون شركات البترول أو مصانع السيارات أو غيرها من ملكية الإعلام الأمريكى. فمثل هذه الشركات كانت قد امتلكت وسائل الإعلام في غير مكان، قال مستشهدا بشركة الفولاذ الألمانية: . "إلا أن هذا لم يحصل فى الولايات المتحدة الأمريكية"، أردف، وذلك لأن صحافتها أصرت وبطرق مختلفة على استقلالها عن طريق الفصل بين الصحافة والتجارة المنعكس عبر ما سماه "الحائط الحديدي"بينهما.

لكن، ومع الأسف فإن الحائط الذي بني بين الصحافة والتجارة منذ مائة عام تقريبا كان هشا دائما وبات كما لو أنه من الصعب الإبقاء عليه ، "أما الآن"- تابع كيري- فهو يبدو كما لو أنه آل إلى بوابة مشرعة تعبر عبرها الضغوط. والصحافيون أصبحوا قلقين على عملهم واستقامته بسببها، وبسبب الصعوبات التي يواجهونها في إرساء العلاقات المناسبة بين وجهي التجارة والصحافة في غرف التحرير .

ما يريده كيري من كل هذا ليس تقديم الإجابة عن مشكلة الصحافة الراهنة ، وإنما عرض معالمها لتحديد موضوع الندوة أدناه "الفصل بين الصحافة والتجارة" الصحافة شده انتباه المنتدين إلى ما سماه "الحائط الحديدي" بين الصحافة والتجارة، وسؤالهم عما إذا كان من ضرورة لإبقائه أم إزالته والنتائج المترتبة عن الحالتين.

الثاني: وهو أن الصحف مكلفة ، كما قال ستوويرت غارنر، رئيس مؤسسة طومسون، وعائدات الصحافة المطبوعة من التوزيع لا تتعدى الـ 10% ، كما قال جون ميريل صاحب كتاب الصحافة العالمية، فيما يرى أصحاب المؤسسات الصحافية أن هذه المؤسسات كي تستمر يجب عليها توفير نسبة من الأرباح تتراوح قيمتها بين 25.18% . أما الصحافة المرئية والمسموعة- إذا ما استثنينا الكابيل- فلا عائدات من ورائها على الإطلاق غير الإعلانات التجارية. وساعتئذ فلا غرابة في أن تجد هذه الأخيرة كونها مركز منافسة المؤسسات الصحافية ومحط اهتمامها.

لم أشر إلى هاتين النقطتين أعلاه إلا بغية الوصول إلى النقطة الثالثة ، محور هذا الموضوع ، وهي أن الصحافة الأمريكية لاتخرج عن كونها "سلعة" في معرض العرض والطلب فى السوق المالية، أو بالعربي المشبرح : تجارة لا مفر من التعامل بلغتها وقوانينها. هذا هو الرأى القاطع الذي لا مفر من مواجهته لدى البعض، أما البعض الأخر فيحسم أنه وبرغم أهمية الواقع الاقتصادي للصحافة ، إلا أن للمهنة من الخصائص ما يجب أن يميزها ويترفع بها عن مبادئ التجارة المعروفة.

هذه الإشكاليات كانت نصيب قاعة سانديرز تيتر فى جامعة هارفارد من الندوات المتواصلة التي تديرها مؤسسة نيمان هذه الأيام تحت اسم "لجنة المهتمين بشئون الصحافة".

أزمة الصحافة

"هذه لحظة عصيبة فى حياة الصحافة في أمريكا، ففي حين أن المهنة لم تكن يوما أحسن حالا مما هي عليه اليوم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كفاءة الصحافيين وتدفق مصادر المعلومات ، إلا أن ذلك لم يعفها من مظاهر التناقض في زماننا هذا. إن التغيرات السريعة في وسائل التكنولوجيا ومثلها فى قواعد بنياننا الاقتصادى وعلاقتنا بالجمهور ، بدأت تسحب الصحافة من مرافئها القديمة المعروفة، وعلى ذلك فإن العديد من الصحافيين بدأ الإحساس بفقدان الهدف في المهنة . أكثر من ذلك ، فهناك الشعور لديهم بعدم جدوى الأخبار والشك بقيمتها بعد رؤية المؤسسات الصحافية الجادة تفقد صفة التجرد وتتجه نحو الإشعاعات والإثارة على حساب الأخبار". مقتطف من بيان لجنة المهتمين بشئون الصحافة.

تحت هاجس ما أطلقت عليه "أزمة الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية"، أحيت هذه اللجنة حتى الآن سبع ندوات."ما هي الصحافة؟" ومن هو الصحافى؟" كان عنوان الندوة الأولى التي أقيمت في مدينة شيكاغو بإلينوي . "هل بالإمكان حيادية الصحافي؟ علاقة الميديا بالحقيقة، التوازن والإشعاعات" كان عنوان الندوة الثانية في نيويورك. "التنوع في الأخبار"، "قصة كلينتون (كلينتون/ لوينسكي): هل تشكل كارثة على الصحافة؟"، "ماهي المؤهلات الصحافية ؟، "التسلية كوسيلة للأخبار والأخبار كوسيلة للتسلية"و "واشنطن ومستقبل المراسلة السياسية"، كانت العناوين الأخرى في كل من آن هاربور بميامي، واشنطن دي سي، سانت بيتسبورج بفلوريدا، لوس أنجليوس بكاليفورنيا وواشنطن د.سي، مرة ثانية. ومن العناوين الأخرى المبرمج نقاشها عناوين مثل الصحافة على الخط "الإنترنت"، أسس ومبادئ في التعليم الصحافي، ضبط ومسئولية العمل الصحافي، اقتصاد صحافة المستقبل ... وغيرها ، أما أخيراً فالعودة من جديد إلى هارفارد، في أوائل نوفمبر القادم ، لإحياء الندوة الأخيرة تحت عنوان "خلاصات وعبر".

وكيفما أدرت اتجاه هذه الندوات أعلاه أو انحرفت بها، فهى بشكل أو باخر سوف تتجه منحرفة إلى عامل التجارة فيها. وهذ لسبب بسيط وهو أن المال هو القبلة والمحج لكل حركة تتحرك في هذه البلاد. وليس في هذا القول من طعن بأحد لأن المال ليس عملة وحسب، إنه ثقافة البلاد، محركها، والقطب الأعلى والأوحد من أحادية العالي من قيمها وأهدافها. ماهى الصحافة؟ من هو الصحافى؟ ماهي المؤهلات الصحافية؟ الأخبار والتسلية ؟ وغيرها من الأسئلة لن تجد الأجوبة عنها في الكتب المدرسية وإنما في الصحافة نفسها. وكي تعرف الصحافة فما عليك غير التفتيش عمن يراقبها. في حالة الولايات المتحدة، فإن خمسين شركة فقط تملك الأغلبية العظمى من وسائل الميديا في البلاد وجميع صحافتها النافذة . هذا الرقم يعود لأوائل الثمانينيات في الحقيقة ، حسب تعيين باكديكيان له فى كتابه "احتكار الميديا"، إلا أن جون ميريل في كتابه "الصحافة العالمية" طبعة العام 1994، فهو لم ير حاجة لذكر غير خمس منها يخص الحافة المطبوعة.

ومن الأمور الأخرى المثيرة، تلك المتعلقة بالأخبار كوسيلة للتسلية. إن التضحية بما يسميه الأمريكيون: الأخبار الجدية Hard News، وهي واحدة من أهم مشاكل الصحافة الأمريكية اليوم، تذهب ليس بقيمة، فائدة وضرورة الأخبار الجدية وحدها، وإنما بالصحافيين الجديين كذلك. ولست أقصد فى ذلك اللامعين منهم وحدهم، أو الواعدين منهم بذلك، وإنما رجال الصحافة على نحو عام. ذلك وبكل بساطة لأن مهنة الصحافة بذاتها هي مهنة على قدر عال من الجدية.

حسب الصحافي ريتشارد ريفيز، وذلك في محاضرة له في جامعة ساوزيرند كاليفورنيا، وكانت بعنوان "الأخبار كوسيلة للتسلية"، يذكر أن العاملين في قطاع الصحافة اليوم، فى طول وعرض الولايات المتحدة، يتراوح بين 60 و100 ألف رجل وامرأة، فيما يصل عدد العاملين في قطاع التسلية وفي مدينة لوس أنجليوس وحدها الـ 312 ألف رجل وامرأة. طبعا، وبمثل ماتخبره هذه المفارقة عن المجتمع الأمريكى، فهى كذلك تخبر الكثير عن الصحافة فيها . فمثلما أصبح على رجل السياسة التمتع بخصائل نجوم السينما كي يجد دروا فيها، فهكذا أصبح على الصحافي أن يقترب من مواصفات المهرج أو رجل الفكاهة كي يزيد من رقعة السامعين أو المشاهدين أو القراء كذلك، هذه الرقعة التي تسيل لعاب الإدارة المالية لأنها منبت ومرعى الإعلانات المدرة.

ثورة الإدارة

"ليس بمستطاع المحررين في غرف التحرير عزل أنفسهم عن الواقع، وهم أحبوا أم كرهوا ليسوا معصومين عن ضغوط عالم التجارة. إن على جرائدنا الخضوع لمبدأ المنافسة على القراء، وهذا يعنى أنه يجب على التحرير أن يكون مناسبا لهم، مثيرا لاهتمامهم ومتصلابهم". ستوويرت جارنر، رئيس شركة طومسون نيوزبايبرز وتتولى إصدار 120 جريدة يومية.

تحت عنوان "الفصل بين الصحافة والتجارة" وعلى مدى يوم كامل توزع على ثلاث جلسات، بدأت الندوة أعمالها ضامة ما سموا بـ الإدارة The Execuive Suite في الجلسة الصباحية، تلتها جلسة الظهيرة ضامة ما أطلق عليهم بـ "غرفة لتحرير" The Newsrom ، وأما جلسة المساء فقد خصصت لما يمكن استخلاصه من الجلسات من الجلسات جميعها.

ما عقدت الندوة من أجله، وكما أشرت أعلاه، هو تبيان ما إذا كانت قضية التجارة مقابل التحرير هي موضوع سوء التفاهم بين طرفى مهنة الصحافة وما اذا كان سوء التفاهم هذا هو مصدر خلاف حقيقي. جيمس كيري، أستاذ الصحافة الدولية في جامعة كولومبيا، وواحد من أهم الباحثين الأمريكيين، ليس في شئون الصحافة وحدها، وإنما في فلسفة الصحافة وثقافتها كذلك، كان وكما- سلف ذكره قد أشار في كلمته التمهيدية لأعمال الندوة إلى "الحائط الحديدى" كضمان لاستقلالية الصحافة من هيمنة التجارة عليها. لكن هل بات من الممكن الإبقاء على هذا الحائط أصلا؟ وما البديل عنه كي لا تتحول المهنة إلى محض عمل تجاري؟

"متحدثين في هارفارد" قال كيري "لايستطيع الواحد منا عدم تذكر كتاب كتب هنا فىأواخر الثلاثينيات على يد جوزيف شيمبيتر (الرأسمالية، الاشتراكية، الديمقراطية)". كان شيمبيتر، تابع كيري "محبا كبير للرأسمالية، إلا أنه كاقتصادى كان خائفا دائما على مستقبلها، وذلك لما عزاه إلى نمط حركتها في ابتكار الهدم، إنها النموذج الاقتصادى المبتكر النازع إلى هدم من حولها دون توفير نفسها". ما عناه كيري هو أن الرأسمالية سوف تأكل جذورها اقتصاديا وسياسيا إذا ما تعلق الأمر بالصحافة، لأن اندماج الشركات الكبيرة وابتلاعها للشركات الأصغر هو اتجاه السوق الحرة لخنق الديمقراطية السياسية في المجتمع، ذلك عبر حرمان المواطنين من حقهم فى تنوع مصادر المعلومات.

وتوضيحا لفكرة كيري في هذا المجال، عله من المفيد العودة بالقارئ عشرين سنة إلى الوراء حيث يتاح له سماع صوت أمريكي مشابه، هو مثله في البتحر بشئون الصحافة وثقافتها، مثله في قلقه على الديمقراطية كذلك فى تخوفه المبكر من احتكار رأس المال لها.

" في العام 1969، كان الجهد المكثف قد بدأ لتجميع المؤسسات الصحافية عن طريق دمجها للسيطرة عليها"، ذكر بن باكديكيان في "احتكار لميديا" الأمريكية الجرائد، المجلات، الراديو، التليفزيون، الكتب، السينما، أصبحت من ملكية شركات عظمى لا يتعدى عددها الخمسين"، واصل "وإذا ما علمنا أن فى الولايات المتحدة 1700 جريدة يومية، 1100 مجلة ، 9000 راديو، 1000 محطة تلفزيون، 2500 دار نشر، وسبعة ستوديوهات للسينما، فإن عدد المالكين يجب أن يتوزع على ما يفوق الـ25000 مالك" قال باكديكيان. أما حقيقة الأمر فهي أن خمسين شركة عملاقة مما ليس لها علاقة بالصحافة هى المالك الحقيقى لمعظم هذه المؤسسات ويدرج باكديكيان في هذا المجال اختصاص هذه الشركات واهتماماتها التجارية التي منها ما يبدأ بإنتاج قطع غيار السيارات مرورا بتكرير قصب السكر وانتهاء بتمديدات القساطل، هذا طبعا إلى جانب شركات الكهرباء والتلفون والبنوك وما إلى هنالك. أما الخلاصة من بحثه المتوسع والدقيق فهي عينها خلاصة كيري أعلاه، وهي أن من مخاطر اندماج الشركات على هذا النحو ما يهدد الديمقراطية الأمريكية لأنه يقضي على التنوع في مصادر المعلومات التي هي أساس من أسسها.

مع مطلع القرن كان هناك 2042 جريدة يومية، مع العام 1980 انخفض عددها إلى 1730، بعد ذلك بقليل انخفض إلى 1700، وفى العام 1993 وحسب جون ميريل في كتابه "الصحافة الدولية" فقد انحدار عددها إلى حد لم تعرفه الصحافة الأمريكية من قبل أن لامس الـ 1570 جريدة فقط. ماذا تعنى هذه الأرقام ؟ إنها لا تعنى غير حشر المؤسسات الصحافية الصغيرة في الزاوية لقتلها، أو إذا ما أرادت الحياة ، فليس أمامها غير الاندماج في شركات أكبر، هذا الاندماج الذي لا مبرر له غير الربح.

"مارك ويلاس، ناشر صحيفة لوس أنجيلوس تايمز، ومدير عام شركة تايمز ميرور، ينظر إلى الأمر من غير زاوية ، وذلك على قاعدة التسليم بأن هناك من الأمور ما لاحول ولا قوة لأحد حيالها وهى المتعلقة بحركة السوق والقاضية بوجوب تحقيق الأرباح من مهنة الصحافة كي تستمر، ما يمكننا عمله، يتابع ويلاس، هو التحسين في النوعية الصحافية وتكريس تنوعها.

"اعتقد أنه ليس من الضروري حصر الموضوع بـ: إما نوعية صحافية مستقلة أو مؤسسة تجارية ناجحة . ما أعتقده فى الحقيقة هو العكس تماما. الأفضل من الوجهة الصحافية هو الأفضل من الوجهة التجارية".

دايان بايكر، كانت وحتى وقت قريب رئيسا للشئون المالية لشركة نيويورك تايمز، قالت إن صراع الصحافة على البقاء أصبح فضية بذاته، وفى هذا فهي إنما تشير لضغوط العامل الاقتصادى، إذ إنه ليس بالضرورة أن يؤدى إنتاج صحافة ممتازة إلى أرباح جيدة، أو حتى استمرارية المؤسسة الصحافية. والاستسلام لفكرة الجوده كضمان للثبات في السوق وتأمين الأرباح على المدى الطويل، هو استسلام واهم لأن المدى الطويل فى عالم الصحافة لا يعدو الساعات، قالت. وعندما تطرقت للموضوع من جانب القيم الصحافية وما إذا كان هناك من مشكلة بينها وبين المعايير الاقتصادية فقد انحرفت بايكر لفكرة إحكام التوازن بينهما.

"بالنسبة لي" قالت بايكر "فإن المؤسسات الصحافية الأفضل والتجارة الأفضل هى تلك التي تستطيع الجمع بين غرف التحرير والإدارة المالية باتجاه خلق التوازن بينهما. التوازن هو ما يمكن للمؤسسات الناجحة فعله.

كافن غوينتش، المدير، العام والمحلل الاقتصادي لشركة بيروستين، قال إن القيم غير الاقتصادية هي عامل مهم في حياة الصحافة، واستقلالية غرف التحرير هي عامل أساسي لنجاح المؤسسات الصحافية من الناحية الاقتصادية. ومعترضا على ما جاء في تعليق دايان بايكر فى تقليلها من دور النوعية وأهمية التخطيط للمدى الطويل فى المهنة قال :" النوعية هي الاساس. فكل المعلومات الآتية من الحرب العالمية الثانية تشير إلى أن معظم الصحف الناجحة اليوم هى تلك التي اعتمدت التقنين فى القطع من موازنة الدعاية تلك الأيام وليس الأخبار التي أبقى عليها كاملة. ولهذا فهذه الجرائد مازالت مستمرة حتى اليوم".

بن تايلور، الناشر الخامس من عائلة تايلور لصحيفة البوسطن غلوب المملوكة حاليا من قبل شركة نيويورك تايمز، وافق على مجمل ما جاء من قبله، إلا أنه ورغم أن موضوع الندوة هو الصحافة مقابل التجارة، فقد انحرف بحديثة على نحو ملحوظ باتجاه إعطاء الأولوية لـ "ثقة الجمهور " كأمانة في عنق المؤسسات الصحافية. "على الصحف أن تكون تجارة ناجحة. عليها أن تكون رب عمل جيدا، أما الأهم من ذلك كله فهو محافظتها على ثقة الجمهور بها".

لم ترق جيمس كيري فكرة أن الصحافة هي نوع من أنواع التجارة إذا ما كانت كذلك "فلم حصانتها في المادة الأولى من الدستور؟" وليس إخضاعها للقوانين جارية المفعول التي تشمل التجارة نفسها، تساءل. ومرتقيا بالصحافة من ماهيتها إلى مهمتها، وكما لو كان يجيب على جذر جارنر من مساعدات الدولة وغيرها من المؤسسات قال إنه شخصيا لا يجد أن الإعلام التجارى هو أفضل من الإعلام غير التجارى. ولعله كان يشير بذلك إلى شبكة الإعلام Pbs فى الولايات المتحدة، وBBC فى بريطانيا، وهما على درجة عالية من الاحترام فى البلدين لم تسئ إليه مساعدة الدولة لهما، هذا فى الوقت الذى لم تجد فيه بشئ من حريتهما.

عندما نتحدث عن استقلالية الصحافة، فإن أول ما يطرأ إلى ذهننا هو ثنائية العلاقة بين الصحافة / الدولة، عدم تألفهما، من ثم الفصل بينهما. ليس دئاما. على الأقل فى حالة الصحافة الأمريكية حيث ثنائية العلاقة بين الصحافة / التجارة هي الإشكالية الجديدة في استقلالية الصحافة، وليس الدولة هذه المرة. فى الحالة الأولى فإن فلسفة الدولة فى علاقتها بالصحافة تقوم على أن الصحافة كمصدر للمعلومات هي نوع من الخدمات العامة. هدفها؟ إنه متنوع حقيقة. وتنوعه هو يتنوع الدول، أنظمة الحكم، وثقافة الصحافة نفسها من صحافيين وقراء ومستمعين ومشاهدين على حد سواء، أما إذا أقر بأن الصحافة هى تجارة، فماذا يمكن عليه فلسفة التجارة غير الربح؟ وماذا يمكن أن يكون هدفها غير المال؟

غرفة التحرير

"إنها تجارة الأخبار، بالمعنى العام للكلمة، هي التي تفسد جسم وروح مهتنا خاصة تلك التي تمارس على شاشات التلفزيون" فيليب بالبوني، مؤسس ومدير نيو انجلند كابيل.

في الندوة الصباحية أعرب بعض المنتدين عن تخوفهم من أن أي زيادة مفترضة فى كلفة الطباعة مثلا سوف تؤدى حتما إلى زيادة فى الأسعار التى سوف ترتد سلبيا على اقتصاد الصحافة. وهذا، فى اللغة التجارية، عادة ما يعني القطع من عدد الصحافيين لتسد رواتبهم العجز المحتمل فى انخفاض أسعار الأسهم المشاركة. فى الجزء الثانى من الندوة سارع ماكسويل كينج، مساعد رئيس تحرير جريدة فيلادلفيا إنكوايرر، إلى الاعتراض على كون الإدارة المالية لم يفتها الإعراب عن تكرار تخوفها من احتمال زيادة أسعار الطباعة وبالتالى نسبة تدني الأسهم، فيما فات هؤلاء التخوف المماثل من فرضية تدني المستوى الصحافى كعامل يؤدى إلى تدنى اقتصاد الجريدة أو المجلة.

"ماصفعنى فى الندوة الأولى هو رؤية رجال الأعمال جالسين هنا يحاضرون في اهتماماتهم بالنوعية الصحافية وعدم إصرارهم على جنى المال، اثنان من الناشرين أعربا عن تخوفهما من انخفاض أسعار الأسهم فى الشركات الصحافية فى أول زيادة تلحق بأسعارالطباعة، ذلك دون الإشارة إلى أي تخوف من انخفاض نسبة الأسهم بسبب تدني النوعية الصحافية" إن النجاح من وجهة نظر مؤسات وشركات الميديا بدأ يعرف من الوجهة الاقتصادية وحدها، قال ماكسويل، وإنه بات من الضروري إعادة عقرب الساعة إلى مركز الصحافة .

دايفيد فانيج، موثق لشبكة التلفزيون الشعبي Pbs ، من زاوية معاكسة تماما، ألقى الضوء على الضغوط الضمنية التي تتعقب الصحافيين، وخاصة تلك المتعلقة بوجهة الصحافي وهو يقوم بعملة، أهي باتجاه ما يريد هو نفسه تحقيقه أم باتجاه رضى من سوف ينال هذا العمل.

الخيار "فى أن تنتج عملا صحافيا- لأنك أنت من يريد إنتاجه- وليس بدافع من تظن أنه سوف ينال إعجابه، هو أمر فى غاية الصعوبة، وهذا يعنى أن فرض إنتاج مواضيع معقدة وجدية، ثقافية أم أدبية أم إخبارية، تبدو متعثرة" هذه الأيام.

وإذا ما أدركنا أن دايفيد فانيج يعمل لشبكة تلفزيون غير تجارية فيما ويليم ويتلى يعمل لشبكة أخرى هي الأكثر تجارة فى الولايات المتحدة الأمريكية، لما فاتنا إعراب الأول عن همه فى معالجة المواضيع المعقدة والجدية وتبريرات الآخر فى التخفيض من إنتاج مثل هذه المواضيع لأنها غير مناسبة للمعلنين.

في ذهن الصحافي، عادة أن المسئولية على عاتقه هي تجاه المواطن / المجتمع وليس أصحاب الأسهم، وعلى هذا فإن سؤال الصحافي تعقب مواطنين معينين من القراء لأنهم مطلب المعلن بدل المتحدات الاجتماعية على نحو عام، هو أمر مخجل وهو جوهر المشكلة بين طرفي المهنة : الأخبار مقابل التجارة.

 

سمير الأيوبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مبنى مسرح ساندريز بجامعة هارفارد حيث عقدت ندوة أزمة الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية





صورة جماعية للمشاركين في الندوة





مارك ويليس ناشر صحيفة أنجليوس تايمز





جانب من حضور الندوة يقومون بتسجيل الملاحظات





جيم أموس، رئيس تحرير صحيفة نيو أورليانز تايمز





بن تايلور- ناشر البوسطن غلوب: يحب المحافظة على ثقة الناس





المناقشات التي تبعت إقامة الندوة