الرقيق الجديد في اقتصاد العولمة.. بالمليارات: خادم الديْن (!)

الرقيق الجديد في اقتصاد العولمة.. بالمليارات: خادم الديْن (!)

لأول مرة في التاريخ فإن أرباح المضاربين في البورصة تزيد على أرباح المنتجين في المزرعة والمصنع، يحدث هذا لأن الرقيق الجديد يعمل في "خدمة الدين".

تبدأ الباحثة الاقتصادية الأمريكية كارين بينار تعليقا لها في مجلة "بيزنس ويك" كالتالي: "هل تشعرون بالفيض والامتلاء؟ صعب ألا يشعر المرء بهذا، عندما ترتفع قيمة الأسهم التي يمتلكها أرباب الأسر في أمريكا، وتحقق نمواً مذهلاً يصل في خلال السنوات الأربع الأخيرة إلى مبلغ 6 آلاف مليون و600 مليار دولار، أن رب كل أسرة حصل على دخل إضافي يقدر بحوالي 60 ألف دولار، ومع أرباح خاطفة من هذا النوع لا أحد يحتاج إلى أن يبخل على نفسه بشراء سيارة جديدة، أو أن يتصبب عرقاً كي يوفر بعض المدخرات".

وتتابع الباحثة الاقتصادية: "إذا كان هناك شيء شبيه بهذا يحدث في منزلك فأنت إذن في رفقة طيبة مع الأسهم، إذ إن الانفاق الاستهلاكي ـ عائماً فوق تأثيرات الثروة ـ حقق نمواً بنسبة 4.8 بالمائة عام ،1998 بينما انحدرت أرقام الادخار إلى سفوح سلبية.. ولكن هنا ينبغي الانتباه، إذ إن المستهلك متى شعر بأن أسعار الأسهم بدأت بالانحدار وعلى فترة طويلة، وأن بيوضه الذهبية تكاد تتبخر، فإنه عندئذ لابد أن يتوقف عن الاستهلاك ويسارع إلى تسديد ديونه، ولكن من سوء الحظ أن قلة من الأمريكيين تفعل ذلك".

في السياق نفسه تقول إحصائية أمريكية إن أرباح الأسهم في الأعوام الثلاثة الماضية تفوقت على أرباح العمل المنتج، وبالتالي فإن قطاعات واسعة من الأمريكيين، وخاصة المتقاعدين، باتت رهينة لأسواق الأسهم في البورصات المالية، ومادامت هذه الأسهم مازالت تحقق أرباحا تفوق التوقعات، فليس هناك أي مشكلة، ولكن إلى متى تبقى أرباح الأسهم أعلى من أرباح الإنتاج، وهل يمكن لهذا الوضع أن يستمر ليصبح أبرز مظاهر العولمة؟

لا أحد يستعجل الإجابة، فاللعبة مريحة للجميع: المواطن يربح أكثر، ويقترض أكثر، ويشتري أكثر، وهو ما يجعل الثلاثة معاً: المواطن المستهلك، والشركة المصنعة والبنك المقرض يشعرون بالفيض والامتلاء مع أنهم لا ينامون في سرير واحد (!).

ولعل هذا يعيدنا إلى القرن التاسع عشر لنكتشف في مسرحية شعبية لجوجول بداية هذا التحالف الجهنمي بين البنك والتاجر، ففي المسرحية يقول صاحب الدكان للمرابي: "اسمع يا ميشكا، أنا أملك البضاعة وأنت تملك النقود وكل ما نحتاج إليه هو زبون يقترض منك النقود ويشتري مني البضاعة ويمضي بقية عمره في خدمتنا نحن الاثنين معاً، من دون أن يشعر أنه خادمنا، فهو خادم الدين".

ولكن مع بداية القرن الواحد والعشرين فإن صاحب الدكان والمرابي بعد أن تحولا إلى شركات ومصانع وبنوك ومؤسسات للتمويل حققت نجاحاً مذهلاً في استرقاق خدم الديون يعاودان الحوار حول المشكلة، فالعالم الصناعي لا يكاد يشكل أكثر من واحد على خمسة من سكان العالم، وهو وحده يتعامل بالأسهم وبطاقات الائتمان وخدمة الدين، فكيف يستطيع ميشكا وصاحب الحانوت أن يغزوا بقية سكان العالم ممن يعيشون على تخوم حد الفقر ولا يملكون الكثير مما يشجع المرابي على إقراضهم؟

الإجابة في ثلاثة نماذج:

المغرب: ديون.. للتلفزيون

في تقرير اقتصادي من الرباط نشرته صحيفة "الحياة" الصادرة من لندن قال التقرير إن المغاربة اقترضوا العام الماضي مبلغ مليار ونصف المليار دولار لتمويل مشترياتهم الاستهلاكية، وقد حافظ التليفزيون على موقع القيادة في هذه المشتريات، وجاءت بعده الثلاجة ثم جاء الكمبيوتر في آخر الترتيب.

ويعلق صاحب التقرير "جرت العادة منذ أعوام أن يسبق التلفزيون أي تجهيزات أخرى في البيت، بما فيها الكهرباء، حيث يتم استخدامه بواسطة البطاريات المحمولة".

وتلبي شركات التمويل هذه "الضرورات" التي يتنافس على شرائها المغاربة، وقد ارتفع عدد هذه الشركات إلى نحو 36 شركة ومؤسسة مالية مرخص لها وبعضها مدرج في البورصة، وتحقق هذه الشركات، وفق التقرير، نمواً سنوياً يزيد على 40 بالمائة في المتوسط "وتقود شركات التمويل سلوكاً جديداً في نفقات المجتمع الذي كان إلى عهد قريب يعتبر الاستدانة سلوكاً دونياً".

ويضيف التقرير "وأقامت شركات التمويل أخيرا تحالفات تسويقية وإعلانية مع شركات إنتاج الأجهزة المختلفة، مثل تحالف "اكدوم" مع تجهيزات "فيليبس"، أو "كرويدور" مع أجهزة التلفون النقال "اريكسون"، وتمنح هذه التحالفات امتيازات للزبائن تشمل الفائدة على القرض وخدمات ما بعد البيع..".

ولعل المفارقة الأخرى التي يكشف عنها التقرير هي أن 73 بالمائة من المغاربة يملكون جهاز تلفزيون، وترتفع هذه النسبة إلى 90 في المائة في المدن، ومن بين هؤلاء 21 بالمائة يملكون "دشاً" أو الطبق اللاقط، بينما لا تزيد نسبة من يملكون الهاتف في المغرب عن 5،2 بالمائة".

الهندي: راديو وساعة

ولا يكاد ينافس المغربي في ميله إلى التلفزيون، حتى قبل الحصول على الكهرباء، إلا الهندي في ميله إلى الراديو والساعة، وفي إحصائية طريفة أوردتها اذاعة ناطقة بالإنجليزية في الخليج، قال المذيع إن 90 بالمائة من الأسر الهندية في ولاية كيرالا تحتفظ بصور أبنائها المغتربين في مكان بارز أمام الضيوف والزوار، وأن 90 بالمائة من هذه الصور يبدو الابن فيها والساعة تطوق معصمه بينما يمسك الراديو الكبير بالبطاريات المحمولة في يده الأخرى، ويضيف المذيع أن 90 بالمائة من هذه الأسر أكدت أنها تسلمت الرسالة من ولدها المغترب مرفقة بالصورة عندما قبض أول راتب له أثناء عمله في الخليج.

الاشتراكي السابق عندما يستدين

كيف تغزو حمى الاستهلاك وثقافة الدين والاقتراض مجتمعات كانت مغلقة تماماً أمام هذا النوع من الثقافة وهذا النمط من الاستهلاك؟

تقرير من وارسو نشرته صحيفة "هيرالد تريبيون" ربما يحوي الإجابة. يصف التقرير بداية مركز تسوق يحمل اسم بروميتادا، حيث الناس فيه، بعضهم يجثو على قدميه، وهو يأخذ مقاس الثلاجة، وآخر يدور حول أجهزة التلفزيون، وثالث يعالج باب الفرن الذي قرر شراءه.

ويقول التقرير "إن وارسو تعيش اليوم مزاجاً استهلاكياً، وزبائن كثيرون بدأوا يخططون للشراء عبر وسيلة جديدة: الدين، وهكذا يحققون أحلامهم كمستهلكين، بعد أن منعتهم الشيوعية طويلاً من تحقيقها".

ويحاور كاتب التقرير السيد كومادا، وهو في التاسعة والأربعين من عمره، فيقول: "إن هناك نقاشاً يدور داخل أسرتنا فيما إذا كنا سنشتري هذه الثلاجة.. بالدين".

ويعلق التقرير: إن وسط أوربا مازال بعيداً عن ذلك "الورم الاقتراضي" الذي عصف بأمريكا في الستينيات، ومع أن كثيرا من المتاجر يعرض تسهيلات إلا أن وجود بطاقات الائتمان المتعددة الأغراض غائب تماما، مع ذلك فإن البولنديين، والتشيك والهنغار الذين عاشوا في مجتمعات شيوعية كانت ترى في الاقتراض وباء رأسمالياً، وحيث كان الواحد يحتاج إلى سنوات لادخار ثمن سيارة أو تجميع ثمن ثلاجة، اكتشف هؤلاء جميعاً فجأة متعة أن تشتري الآن وأن تدفع فيما بعد، ولكل شيء تريده.

ثقافة الدين السهل

ويقول التقرير وهو يحمل عنوان "ثقافة الدين السهل" إن ديون الاستهلاك ارتفعت بمعدل خمسين بالمائة في العام الماضي نسبة للعام الذي سبقه. وأدت حمى الشراء إلى وقوع خلل في الميزان التجاري، حيث زادت نسبة الاستيراد، وبفرق واسع، عن التصدير، وعندما وقع هذا في تشيكيا فقد اضطرت إلى تخفيض قيمة عملتها.

ويضيف: إن البعض يشعر بالقلق نتيجة أن معظم الناس لا يمدون أقدامهم على قدر بسطهم، ويعيشون بأكثر مما تتيح إمكاناتهم المادية توفيره، وينقل على لسان مدير مكتب استشاري في وارسو قوله "إن هناك مشكلة ثقافة تغور في العمق، هناك أناس يريدون أن يعيشوا على الطريقة الغربية وبسرعة قياسية، وهم لا يملكون الإحساس الكافي بالنتائج، ومن هنا فإن نسبة المتخلفين عن الدفع هذا العام ارتفعت إلى 4.5 بالمائة بينما لم تتجاوز العام الماضي نسبة 3.3 بالمائة.

ولا تقتصر المشكلة على الأفراد، إذ إن البنك المركزي البولندي رفع سعر الفائدة، متجاوزاً البنوك التجارية، في محاولة تبدو لا مجدية لإقناع الناس بالإدخار، بدل أن يعيشوا عبر القروض.

ويقول التقرير: حتى الآن فإن بطاقات الائتمان مازالت تعيش مرحلة "المهد"، فالبنوك تفتقد إلى ملفات تكشف تاريخ المقترض، لأن معظمهم يقترض للمرة الأولى، وهو ما يجعل البنوك تتردد في تسهيلات الإقراض.

ويضيف: إن البنوك تتردد ولكنها لا تتوقف عن الدفع، إذ إن بنك بودابست التجاري المتحالف مع "جنرال موتورز ووكالة سيارات فورد" يعرض تمويل مشتريات الاستهلاك على الزبائن شرط أن يدفعوا 20 بالمائة من قيمتها مقدماً، وأن يقسطوا الباقي مقابل فائدة تصل إلى 28 بالمائة من قيمة القرض سنوياً، أي أضعاف الفائدة التي تحصل عليها البنوك في العالم الرأسمالي وتلك هي ضريبة الدين السهل التي لابد من دفعها. ويقول المهندس الإلكتروني بافل أورغا، وراتبه الشهري يصل إلى500 دولار إنه يعاين "ميكرويف" لشرائها بمبلغ 400 دولار، ويضيف: "في الأيام الماضية، كان عليك أن تدّخر النقود، وكنت تحتاج إلى سنتين على الأقل لشراء تلفزيون روسي، ولكنني أرى أن عدد من يشتري بالدين يزداد يومياً، وبالتالي صار الأمر أقل إحراجا بالنسبة لي إذا اشتريت بالدين". إن مبيعات التلفزيون ترتفع بمعدل قياسي يزيد على ثلاثين بالمائة في بولندا سنوياً، ليس لأن الدخل الفردي أو الناتج القومي يرتفع بالنسبة نفسها، بعد انهيار الشيوعية، بل لأن البنوك ومعها جنرال موتورز وفورد وفرت للبولندي النقود من ناحية والبضاعة من ناحية أخرى كي يقترض ويقضي باقي عمره غالباً في خدمة دينه.

إن التاجر والمرابي ميشكا يكتشفان في الاتحاد السوفييتي السابق وفي أوربا الشرقية أرضاً جديدة وخدماً للدين جدداً، ويبقى الأكثر فقراً من لا يملكون شيئا، ولكن أعدادهم بالمليارات، فكيف ندفعهم الى خدمة الدين الإلزامية؟

السؤال ينقلنا إلى بنجلادش، وإلى الخليج ما قبل النفط.

المرابي.. والنوخذة

ليس في بنجلاديش كلها قرية تخلو من "مراب" أو أكثر، يعرضون على الفقراء أن يقترضوا منهم وبفوائد تزيد أحياناً على قيمة القرض نفسه، وهو تقليد عرفه أهل الخليج أثناء فترة الغوص عندما كان "الغيص" يقترض من صاحب السفينة "النوخذة" قبل موسم الغوص ما يشتري به مئونة لأهله وعياله، وكان النوخذة يسجل في "الدفتر" قيمة ما يقترض كل غواص، أما المفارقة فكانت تأتي عندما يكتشف الغيص في بداية الموسم التالي أن "الدفتر رادي عليه" كما يكتب المفكر الإماراتي عبدالغفار حسين، أي أن قيمة القرض لم تتغير مع أنه عمل الموسم بطوله.

هنا يكشف علم الاقتصاد العصري كيف أنه قادر على أن يجعل العالم كله قرية صغيرة.

يونس وحوت البنوك

محمد يونس هو أستاذ في الاقتصاد في جامعة تشيتا غونغ في بنجلادش، وحرم الجامعة يقع على مقربة من قريته. يقول في كتاب وضعه مع زميله آلان جوليس إنه كان يشعر بالشقاء عندما يشاهد بؤس حياة الناس في قريته، فقرر أن ينتقل من التعليم النظري إلى الميدان العملي بهدف إنقاذ أهل المنطقة من براثن الفقر المقيم.

كيف؟ لقد قرر أن يفتح بنكا مهمته الأساسية هي إقراض الفقراء، هؤلاء الذين لم يجرؤ أي بنك من قبل على منحهم أي قرض، منهم غالباً أميون، لا يملكون ضمانة يودعونها مقابل القرض، ويفتقدون إلى الخبرة وبالتالي فقد كانوا يلجأون غالباً إلى "المرابين" يقترضون منهم بفوائد عالية لشراء مواد أولية يقومون بتصنيعها: سلالاً وحصراً وسجاداً ومشغولات يدوية يبيعونها في السوق، وبعد أن يشتروا حاجتهم من الطعام يسددون القرض مع الفوائد، وبالتالي فإن الربح الأساسي يكون من حصة المرابي الذي لابد أن يعودوا إليه مجدداً في دورة عمل تتواصل باستمرار وبجهود شاقة من دون أن يحصلوا إلا على ما يسد رمقهم.

رجل الاقتصاد البنغالي نجح في إقناع عدد من البنوك التجارية، وبمساعدة من وزارة الزراعة، بانشاء "بنك الفقراء"، وهو عنوان الكتاب، مؤكدا على أن الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفقر في العالم ليست المساعدات ولا الرعاية الاجتماعية ولا القروض الدولية للدول النامية بل منح الفقراء التسهيلات اللازمة للحصول على قروض من.. البنوك.

بلدة المهندس البنغالي، كما يصفها، مازالت بدائية، ليس فيها مزارع ولا مصانع ولا طرقات حديثة، وكان البنك أول مؤسسة عصرية تدخل البلدة، وأبرز المقترضين هم من النساء اللواتي يقمن بصناعة مشغولات يدوية من قصب البامبو.. وقد نجح البنك وصار حديث المنطقة كلها وهو في طريقه إلى فتح فروع في مناطق أخرى.

ومحمد يونس يستحق أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه باعتباره ابن العصر، فقد كانت البنوك على مر تاريخها تأتي لاحقاً بعد الزراعة وبعد الصناعة وبعد اكتشاف المناجم وكان صاحب البنك يضع اللافتة فوق المبنى، بعد أن يطمئن إلى أن لافتة الشركة أو المصنع أو المنجم قد سبقته واستقرت في أمكنتها المناسبة في السوق، وما فعله المهندس هو أنه قلب المعادلة وجعل صاحب البنك يسبق الجميع إلى اكتشاف مجاهل الفقراء، وعددهم يزيد على ملياري نسمة، وحولهم بذلك إلى مشروع يصبح فيه كل فقير مستهلكاً للتلفزيون حتى قبل أن يحصل على الكهرباء. وللساعة وللراديو حتى قبل أن يوفر مئونته من الأرز، وهو ما يكشف كيف أن أسعار الأسهم في الدول الصناعية تحقق أرباحاً تزيد على أرباح المنتجين وهي أرباح ترتفع مع كل عامل منتج يدخل عضواً في نادي "خدم الديون".

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات