أغراب فى أوطان أجنبية

أغراب فى أوطان أجنبية

هل نحن الآن على أبواب عصر جديد من الهجرات البشرية الضخمة، التي لم يشهد التاريخ نظيرًا لها من قبل؟!

كانت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عصر الهجرات البشرية الضخمة من أوربا إلى أمريكا واستراليا وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية، وبوجه أخص إلى البرازيل والأرجنتين. ويبدو أن بداية القرن الواحد والعشرين تشهد الآن بداية عصر جديد من الهجرات البشرية من وإلى كل أنحاء العالم، وعلى نطاق أوسع بكثير جدا من كل ماعرفه تاريح الإنسانية. فالهجرات البشرية ليست ظاهرة حديثة بل هى ظاهرة موغلة فى القدم لازمت الجنس البشرى منذ ظهوره، وكانت هى الأداة التى أدت إلى عمران الأرض وقيام المجتمعات الإنسانية فى مختلف قارات العالم، إذا نحن سلمنا بصحة النظرية التى ترد ظهور الإنسان المبكر إلى منطقة واحدة معينة بالذات. وتذهب بعض تقارير مكتب العمل الدولى بجنيف إلى أن معدلات نمو السكان المهاجرين على مستوى العالم قد تضاعفت فى الفترة مابين العام 1960 والعام 1990، وأن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الزيادة هى مجرد بداية لاتجاه عام سوف يتسارع فى الأغلب خلال القرن الواحد والعشرين نتيجة للتدهور السريع فى الخصوبة فى الدول الأكثر تقدما وارتفاع معدلات التحضر والتغيرات التكنولوجية وقوى التكامل الاقتصادى والعولمة. ويقدر مكتب العمل الدولى أعداد العمال المهاجربن وعائلاتهم بحوالى عشرين مليونا فى إفريقيا وثمانية عشر مليونا فى أمريكا الجنوبية واثنى عشر مليونا فى أمريكا الوسطى وجنوب القارة وسبعة ملايين فى جنوب وشرق آسيا وتسعة ملايين فى الشرق الأوسط وثلاثين مليونا فى دول أوربا. وهذه أرقام تكشف عن ضخامة الظاهرة كما تنبئ بما قد يترتب عليها من نتائج إيجابية أو سلبية بدأت بوادرها تنعكس على العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول، وعلى العلاقات الإنسانية بين الأفراد فى مختلف المجتمعات التى تعانى من آثار هذه الظاهرة بحجمها الحالى.

والأغلب أنه لاتكاد تخلو دولة واحدة من دول العالم من وجود عدد من المهاجرين إليها من مجتمعات أو مناطق أخرى غريبة مما يعطى لهذه الظاهرة بعدها العالمى المميز. ودراسة مكتب العمل الدولى التى أشرنا إليها تذكر أنه فى الفترة ما بين عامى 1970 و1990 ارتفع عدد الدول التى تستخدم العمالة الأجنبية المهاجرة من 42 دولة إلى 90 دولة وأن حكومات هذه الدول تبدى اهتماما متزايدا بإقرار وتحديث وتطوير قوانينها وسياساتها وأساليبها الإدارية لتأمين حياة المهاجرين إليها بطرق مشروعة. وهذا يقتضى عدم الاكتفاء باتخاذ الإجراءات التى تكفل لها السيطرة والتحكم والرقابة وإنما يتطلب الأمر أيضا مراعاة واحترام حقوق المهاجرين كبشر وتعزيز التعاون بين الدول المصدرة للهجرات والدول المستقبلة، وذلك عن طريق عقد الاتفاقيات المنظمة لتلك التحركات، وإضفاء طابع الشرعية عليها. ولكن هذا لايمنع من أن تظل مشكلة الهجرات البشرية المتزايدة إحدى المشاكل السياسية الحساسة التى تعانى منها الدول المتقدمة، التى تجذب إليها تلك الأعداد الهائلة التى تتسبب فى خلق كثير من المتاعب لكلا المجتمعين : المرسل والمستقبل على السواء، كما تثير كثيرا من الشكوك حول المستقبل ووضع تلك الجماعات المهاجرة فى المواطن الجديدة، وموقف السكان الأصليين من هؤلاء الوافدين. وثمة كثير من التشاؤم حول ما سيكون عليه الوضع الإنسانى خلال القرن الواحد والعشرين فى ضوء التغيرات التى سوف تطرأعلى المجتمع الدولى بأسره نتيجة للتطورات المستجدة على ساحة الهجرات البشرية المتزايدة والقلق الذى تبديه إزاء تلك التغيرات الدول التى يقصدها غالبية هؤلاء المهاجرين،

الهجرة والتحدي

وقصة الهجرة هى قصة التحدى للبحث عن حياة أفضل، والصراع من أجل تحقيق نوعية من الحياة يشعر فيها المرء بكرامته كإنسان له حقوق على المجتمع الذى يعيش فيه وإلا فأرض الله واسعة. والواقع أن التحديات العالمية التى تمثلها الهجرات الدولية تقتضى وجود مدخل عالمى لمعالجة المشكلة التى تضم أطرافا عديدة ذات مصالح متضاربة، وهذا يتطلب أن نأخذ فى الاعتبار عددا من الأمور التى تحتاج إلى إمعان النظر فيها.

الأمر الأول هو أن الهجرة ظاهرة اجتماعية واقتصادية لها أبعادها التاريخية القديمة جدا والتى تتعلق بشكل مباشر بالرغبة الطبيعية عند الإنسان في التنقل والتغيير والاكتشاف من ناحية، والبحث عن مستويات أفضل للمعيشة والحياة وتوفير درجة أكبر من الأمن والأمان من ناحية أخرى، وأن أية محاولة لوقف هذه التحركات البشرية عن طريق سن القوانين وفرض العقوبات ووضع المعوقات والحواجز لن تؤدى إلى الأهداف المرجوة منها، ولذا ينبغى البحث عن وسائل وأساليب أخرى تأخذ فى الاعتبار احتياجات المهاجرين أنفسهم وتطلعاتهم والعمل بقدر الإمكان على استيعابهم ودمجهم فى الموطن أو المجتمع الجديد. ولذا فإن القيود التى يحاول بعض زعماء الاتحاد الأوربى فرضها على الهجرات الخارجية قد تتعارض مع الحقوق الإنسانية المشروعة والمتعارف عليها دوليا. ففى قمة أشبيلية التى عقدت خلال الفترة 21 - 22 يونيو 2002 كانت هناك بعض الجهود لوضع سياسة عامة نحو الوافدين، تأخذ فى الاعتبار النزعات القومية المعارضة للوجود الأجنبى. وقد اقترحت بعض الدول فرض إجراءات وعقوبات سياسية واقتصادية على الدول المصدرة لتلك الهجرات، ولكن كان الرأى الغالب هو أن كل هذه الإجراءات لن تجدى شيئا فى وقف تلك التحركات، التى يبدو أنها تزداد باطراد، والتى قد تثيركثيرا من المتاعب فى المستقبل، وأن من الحكمة التسليم بالهجرات البشرية كأمر واقع لامفر منه ولا محيص عنه، وأن هذه الهجرات المتزايدة سوف تؤدى إلى قيام مجتمع جديد ينبغى العمل بجديةعلى استشفاف ملامحه والإعداد لمواجهة تحدياته.

الأمر الثانى هو أن الهجرات البشرية، وبوجه أدق هجرة الأيدى العاملة عبر الحدود الدولية بحثا عن العمل هى فى جوهرها عملية عرض وطلب, تقوم فيها مجتمعات العالم الثالث الفقير بعرض مالديها من وفرة فى الأيدى التى لاتجد فى أوطانها الأصلية فرصا للعمل تكفى لاستيعابها، فى الوقت الذى تعانى مجتمعات العالم المتقدم من نقص فى الأيدى العاملة الكفيلة بتحقيق مستويات الإنتاج المطلوبة، لضمان استمرار الازدهار الاقتصادى الذى بلغته تلك المجتمعات. وعلى ذلك فإن هذا النمط من الهجرة الدولية من شأنه أن يحقق فى واقع الأمر فائدة مزدوجة للمجتمعات المصدرة للأيدى العاملة التى تتخلص من فائض العمالة العاطلة أوغير العاملة وغير المنتجة، وللمجتمعات المستقبلة لتلك العمالة الوافدة التى تساعد بجهودها على المحافظة على الإنتاج. فهناك إذن مصلحة متبادلة بين الطرفين، وهذه حقيقة بدأت بعض الأوساط المهتمة بالمشكلة فى العالم الغربى تنتبه إليها أثناء وضع سياستها المستقبلية تجاه الهجرات الدولية. وعلى الرغم من التغيرات الهائلة التى يمر بها العالم الآن فإن سوق العرض لن تتأثر نظرا للظروف القاسية التى تحيط بدول العالم الثالث الفقير، بل إن العرض سوف يزداد ويتضخم طيلة الوقت لاستحكام الأزمات الاقتصادية وتخلف سياسات التنمية، كما أن الطلب سوف يزداد هو أيضا نتيجة لتراجع معدلات الخصوبة فى المجتمعات المتقدمة، وبالتالى النقص المطرد فى الأيدى العاملة الوطنية وتراجع الإنتاج، مما يتطلب مراجعة هذه الدول لسياستها ومواقفها من الهجرة المنتجة.

الأمر الثالث هو أن هجرة الأيدى العاملة على النطاق الواسع الحالي تؤلف جزءا من ظاهرة العولمة التى هدمت الحدود بين الدول واستجابت لضغوط الأعداد الهائلة من البشر الذين يعبرون الحدود الدولية بطرق مشروعة أو غير مشروعة بحثا عن العمل أو طلبا للجوء السياسى. وإذا كانت بعض الدول استطاعت استيعاب أعداد المهاجرين إليها خلال العقود الطويلة السابقة فإنها بدأت تشعر الآن بفداحة المشكلة وبالعجز عن تقبل كل ذلك التدفق البشرى من المهاجرين، خاصة أنهم يأتون من ثقافات مختلفة ومتباينة على عكس ماكان يحدث حتى الماضى غير البعيد. وهذا التباين الثقافى يمثل مشكلة عويصة داخل الدول المستقبلة لهؤلاء المهاجرين، ويعتبره الكثيرون هناك تهديدا مباشرا ليس فقط للثقافة الوطنية ولكن أيضا للتجانس الثقافى بين الجماعات السكانية التقليدية التى تؤلف البناء الاجتماعى المركب، وأصبح يتعين على تلك الدول المستقبلة للمهاجرين الجدد أن تتحمل مسئولية دمجهم بطريقة قانونية فى النسيج الاجتماعى الوطنى المعقد بالفعل، وأن تراعى فى ذلك عدم انتهاك حقوق الإنسان ومعاملتهم كبشر لهم كيانهم الخاص وكرامتهم المشروعة.

ضد الشيخوخة السكانية

الأمر الرابع هو ضرورة الاعتراف بأن الهجرات المشروعة إلى دول الغرب المتقدم من شأنها زيادة حيوية تلك الشعوب التى تتجه نحو الشيخوخة السكانية، وإن كان هناك من يتشكك فى إمكان تحقيق ذلك حتى لو تضاعف عدد الوافدين من الخارج وتضاعفت بالتالى معدلات الخصوبة. وإذا كان الأوربيون يعيشون الآن لفترات أطول عن ذى قبل بفضل التقدم العلمى والرعاية الطبية وازدياد الوعى بمتطلبات وشروط الحياة الطيبة السليمة، فإنهم لم يعودوا ينجبون من الأطفال والأحفاد العدد الذى يكفى لتعويض الفقد فى السكان نتيجة الوفاة. ولذا فإن المتوقع أن ينخفض حجم السكان العام 2020 فى أوربا في الفئة العمرية من 11-19 سنة بحوالى 20% بينما يرتفع عدد السكان فى الفئة 50-64 بحوالى 25% مثلما يرتفع عدد الذين تبلغ أعمارهم ثمانين سنة فأكثر بمقدار 50%. وهذا هو المقصود من الشيخوخة السكانية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن النمو السكانى فى الاتحاد الأوربى لن يتحقق إلا إذا وصلت معدلات الخصوبة إلى 1.8 طفل لكل امرأة مع زيادة أعداد المهاجرين إلى مليون شخص سنويا بينما كان عددهم العام 2000 حوالى 680000 شخص فقط. وهذا يكشف عن مدى احتياج العالم الغربى للأيدى العاملة النازحة من الخارج، على الرغم من كل الضجيج الذى يثار ضد الأغراب.

الأمر الخامس الذى ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار إزاء الوضع الحالى والمستقبلى لظاهرة الهجرات البشرية المتفاقمة هو أن متطلبات العولمة وازدياد حركات التدفق البشرى عبر الحدود الدولية هروبا من أوضاع اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية قاسية يمثلان نوعا من التحدى للمجتمع الدولى حول أسلوب التعامل مع هذه الظاهرة. إذ بينما تقوم الأيدى العاملة المهاجرة بدور مهم للغاية فى تحقيق الازدهار والتقدم الاقتصادى فى الموطن الجديد عن طريق المشاركة العقلية فى زيادة الإنتاج والمساهمة فى الوقت ذاته فى الارتفاع بمستويات الحياة فى الوطن الأصلى عن طريق التحويلات المالية التى يرسلونها إلى أهليهم وذويهم فإنهم يظلون من وجهة النظر القانونية فى كثير من الأحيان جماعات دخيلة مشكوكا فى ولائها وانتمائها إلى المجتمع الجديد ولذا لاتكاد تجد ولو قدرا بسيطا من الرعاية والحماية التى يحظى بها السكان الأصليون وذلك نتيجة لعدم تطور المستويات القانونية الدولية الخاصة بحماية حقوق المهاجرين. والواقع أن (اتفاقية هيئة الأمم حول حماية كل العمال المهاجرين وأفراد عائلاتهم) لم تخرج إلى حيز التنفيذ إلا العام 2003 مع أن بنود هذه الاتفاقية تحدد للحكومات كيف تحمى المهاجرين إليها وتعالج مشكلاتهم مع ضمان عدم إثارة النعرات العرقية ومشاعر عدم التسامح والخوف من الأجانب مادام هناك نوع من المصالح المتبادلة بين مجتمعات العرض ومجتمعات الطلب.

وليس ثمة شك فى أن الهجمات الإرهابية التى تتعرض لها بعض الدول الغربية المستقبلة للعمالة الأجنبية لها تأثير بالغ - بصرف النظر عن أسبابها ودوافعها - على موقف تلك الدول من المهاجرين، وبخاصة الذين يفدون إليها من العالم الإسلامى، والذين يدخلون إليها بأساليب وطرق ملتوية وغير مشروعة، كما أنها أدت إلى تغير المناخ العام الذى يعيش فيه هؤلاء المهاجرون مثلما أدت إلى تنامى النعرات الوطنية والقومية ومشاعر الخوف من اندثار الثقافة القومية إزاء الثقافات العديدة الوافدة. وهذه التغيرات الجديدة من شأنها زيادة التطرف لدى الطرفين - أى لدى السكان الأصليين والمهاجرين - والالتجاء إلى أعمال العنف المتبادل والدعوة إلى طرد (الأجانب) الدخلاء، على الرغم من كل الأضرار التى سوف تلحق بالاقتصاد الوطنى من جراء اتباع هذه السياسة.

ضد المهاجرين.. هل ينجح؟

فى نشرة Yale Global بتاريخ 5 / 11 / 2003 يتساءل عالم الاقتصاد الأمريكى لانت بريتشت Lant Pritchet عما سيكون عليه الوضع فى القرن الواحد والعشرين فى ضوء التغيرات التى تطرأ على المجتمع الإنسانى بشكل عام وعلى المجتمعات المتقدمة التى تتجه إليها تلك الموجات العارمة من المهاجرين من العالم الثالث بشكل خاص، وكذلك فى ضوء الرفض الشعبى فى العالم الغربى لهؤلاء الوافدين، والعوائق والإجراءات والقوانين المانعة التى تلجأ إليها الحكومات الغربية للحد من ذلك التدفق. ويذهب بريتشت إلى أن ثمة صعوبات كثيرة تمنع من تحقيق أى درجة من النجاح لسياسة الغرب القائمة على فرض الإجراءات الصارمة والعقوبات الرادعة التى لاتراعى الأبعاد الإنسانية للظاهرة، وتتناسى أن المهاجرين بشر قبل كل شيء وأن لهم حقوقا يجب مراعاتها فى كل الأحوال وأن ثمة عددا من القوى التى يصعب مقاومتها والتى تهيئ العالم لموجات جديدة من الهجرات البشرية الهائلة.

يأتى فى مقدمة هذه القوى التفاوت الاقتصادى المذهل والتباين الصارخ فى مستويات المعيشة بين الدول المتقدمة فى الغرب ومجتمعات العالم الثالث، التى تعانى من كل مظاهر الفقر المادى والتخلف الاجتماعى والثقافى والعلمى وذلك فضلا عن وجود هذا التفاوت والتباين داخل المجتمع الواحد مما يدفع فئات كبيرة من السكان الذين يشعرون بمرارة الحرمان والمهانة فى أوطانهم، والرغبة فى تغيير ذلك الوضع إلى هجران المجتمع كلية والنزوح إلى مواطن أخرى يأملون فى أن تحقق لهم ماأخفقت أوطانهم الأصلية فى تحقيقه. وتشير كل الدلائل إلى أن الأوضاع فى العالم النامى سوف تزداد سوءا بمرور الوقت نتيجة الاستمرار فى ارتفاع معدلات الخصوبة وفشل مشروعات التنمية وانتشار الفساد، مما يحمل معه دواعى ومبررات نزوح جموع البشر المحرومين اقتصاديا والمأزومين اجتماعيا والمضطهدين سياسيا. وسوف يصاحب ذلك ازدياد شعور العالم الغربى بعد أن تخف حدة التوترات السياسية والعرقية والدينية الحالية بالحاجة الشديدة إلى الوافدين الأجانب لمعالجة الخلل فى البناء السكانى المتمثل فى شيخوخة المجتمع والحاجة إلى القوى العاملة الشابة التى تعيد إلى الاقتصاد حيويته. إذ دون هذا التجديد فى القوى العاملة سوف يتوقف النمو الاقتصادى، سواء فى أوربا أو اليابان، لدرجة أن بعض التقديرات تذهب إلى أن المحافظة على مستويات الإنتاج فى إيطاليا مثلا سوف تحتاج إلى أن يؤلف العمال الأجانب 45% من مجموع الأيدى العاملة العام 2050.

وتساعد سهولة وتوافر وتعدد وسائل الاتصال والانتقال على ازدياد حركات الهجرة غير المشروعة، على الرغم من كل ما يكتنفها من أخطار. وتتخذ الدول الجاذبة للهجرة إجراءات مشددة لمراقبة سواحلها البحرية وحدودها الدولية، لمنع عمليات التسلل أو على الأقل التخفيف من حدتها، ولكن هذا لن يقضى عليها تماما، بل المتوقع أن تظهر أنواع جديدة من العمالة المهاجرة، لم يكن للدول الغربية عهد بها من قبل - على الأقل بالحجم الذى بدأت تتخذه فى الوقت الحالى - مثل هجرة النساء العاملات فى مجال التمريض من العالم الثالث والعاملين فى ميدان الفندقة بل والباعة شبه المتجولين وما إلى ذلك من المهن والحرف (الراكدة) أو غير المتحركة - حسب التعبير المستخدم فى الكتابات حول الموضوع - ولذا يزداد الاتجاه نحو توطيد علاقات التعاون بين الدول المصدرة والدول المستقبلة للعمالة المهاجرة بقصد وضع سياسات موحدة للحد من ضخامة الظاهرة بطرق وأساليب أكثر إيجابية، مثل تقديم المساعدات والمعونات المالية والفنية للدول الفقيرة لإقامة أنشطة اقتصادية تستطيع أن تستوعب نسبة لابأس منها من الأشخاص الميالين للمجازفة والمخاطرة إن أعوزتهم الوسائل للعمل والعيش فى أوطانهم. ولكن قد يقف دون تطبيق هذه السياسة بنجاح على نطاق واسع احتمال إساءة استخدام هذه الأموال فى دول العالم الثالث التى يعيب نظمها السياسية تغلغل الفساد وانتشارالرشوة والتسيب فى الإنفاق وتهريب الأموال إلى الخارج. فى الحسابات الخاصة بكبار المسئولين.

اندماج الوافدين

وعلى أية حال فإن التواصل المتبادل والعلاقات المتشابكة بين دول العالم ووجود نظام اقتصادى يعتمد على تدفق السلع على النطاق الدولى أمور تحتاج إلى وجود وفرة فى الأيدى العاملة تكفل زيادة الإنتاج، وقد يؤدى الشعور بهذه الحاجة إلى الحد من المبالغة فى اتخاذ الإجراءات المضادة للهجرة من ناحية وإلى تخفيف حدة التوترات الشعبية ضد الأجانب من الناحية الأخرى. وبالرغم مما يكون فى ذلك من جوانب إيجابية فإنه قد يؤدى على الجانب الآخر إلى ازدياد وتفاقم ظاهرة الهجرة غير المشروعة فى المستقبل بل وتقبلها على أنها إحدى الظواهر المميزة لمجتمع الغد والتعامل معها على هذا الأساس ومن هذا المنطلق.

والشعور العام السائد الآن فى بعض الأوساط المهتمة بمشكلات الهجرة البشرية هو أن السماح بدخول واندماج أو دمج الوافدين الأجانب فى النسيج الاجتماعى الخاص بالمجتمع المستقبل من شأنه أن يحل كثيرا من المشكلات التى يواجهها المهاجرون واللاجئون والسكان الأصليون, والتى تثير القلاقل فى تلك المجتمعات، وتلقى بظلال كثيفة على الوافدين، كما تعطل حركة النمو الاقتصادى التى يفترض أن يسهم الوافدون فى تحقيقها، من خلال أدائهم للأعمال التى توكل إليهم تحت الظروف العادية. والمشكلة الحقيقية التى تواجه الجميع الآن هى التوصل إلى تحديد معنى وأبعاد عملية الدمج، وهل هى تعنى التمثيل الكامل والتام لهؤلاء المهاجرين فى المجتمع الجديد بكل قيمه وسلوكياته، بحيث يلقى المهاجرون وراء ظهورهم انتماءاتهم الوطنية والقومية الأصيلة -وهو ما ترفضه جموع المهاجرين ويأبونه على أنفسهم - أم أن هناك هامشا من حرية الحركة التى تسمح لهم بالاحتفاظ بتراثهم الثقافي، الذى يؤلف جانبا كبيرا من شخصيتهم وكيانهم الاجتماعى المميز، مما يتطلب بالضرورة تقبل الغرب لمبدأ تعايش الثقافات المختلفة فى مجتمع متعدد الثقافات والأعراق.

وليس من السهل تحقيق ذلك فى المستقبل القريب، وإن كانت تيارات العولمة تعمل جاهدة على تحقيقه، بالرغم من الشكوك والصعوبات التى تحيط بها وبأهدافها هى ذاتها من كل جانب. والمتوقع أن يستمر الشد والجذب بين الرغبة فى تمثيل المهاجرين تمثيلا كاملا ونهائيا فى المجتمع الجديد، وبين تمسك المهاجرين بمقومات شخصيتهم الوطنية حتى لايتم انصهارهم وذوبانهم تماما فى الثقافة الجديدة. والأغلب أن يستمر ذلك الصراع لعدة أجيال إلى أن تصل المجتمعات المستقبلة للوافدين من ثقافات متباينة إلى صيغة تسمح بالتعدد الثقافى وقبول الآخر.

فى كتابه الرائع The Souls of Black Folks، الذى صدر فى أوائل القرن الماضي ويكشف عن بعض جوانب العلاقات المتأزمة بين البيض والسود فى أمريكا يقول المؤرخ الاجتماعى الأفروأمريكى دبليو. إى. بى. ديبوا W.E.B.DuBois: «إن تاريخ الزنوج الأمريكيين هو تاريخ الصراع من أجل تحقيق الشعور الذاتى لدى الفرد بآدميته الكاملة عن طريق دمج جانبى شخصيته فى ذات واحدة أفضل وأكثر صدقا. ولكنه لايريد أن تضيع ذاتيته القديمة تماما خلال هذا الدمج. إنه لا يرغب فى أفرقة أمريكا. ولكنه لا يريد أيضا أن يغسل روحه الزنجية السوداء فى فيض الحياة الأمريكية البيضاء، لأنه يعرف أن الروح الزنجية لها رسالة للعالم.إنه يريد ببساطة أن يتمكن الإنسان من أن يكون زنجيا وأمريكيا فى وقت واحد، دون أن يلقى الازدراء والمهانة من أقرانه أو أن تغلق أبواب العيش بعنف فى وجهه».

فهل تعي الدول المتقدمة المستقبلة للهجرات الدولية فحوى هذه الرسالة؟!.

 

أحمد أبوزيد