11 سبتمبر على شاشة السينما.

11 سبتمبر على شاشة السينما.. نديم جرجوره

لا تزال مأساة الحادي عشر من سبتمبر ماثلة للأذهان، فقد أسّست مرحلة جديدة من التاريخ الإنساني، وحرّضت الأمريكيين على اكتشاف أنفسهم ومكانتهم في العالم، ولم يتحرر الأمريكيون من وطأة هذه المأساة بالرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام على وقوعها.

تأخرت السينما الأمريكية في التعبير البصري عن هذا الحدث، وعن تداعياته والآثار في داخل المجتمع الأمريكي وناسه. غير أن الأفلام القليلة التي أنجزها أمريكيون وأوربيون وعرب سلّطت أضواءً على الكارثة وتفاعلاتها، ورسمت شيئاً من ملامح المآزق الإنسانية والأخلاقية والحياتية.

وقد بدا مستحيلاً أن تُنجز «القراءة السينمائية الأولى» من داخل البلد المعتدى عليه، قبل أن يستفيق من الصدمة القاسية التي تلقّاها صباح يوم الثلاثاء الأسود. فعلى الرغم من أن البعض شبّه الاعتداء بالضربة اليابانية العنيفة ضد بيرل هاربور، في منتصف الحرب العالمية الثانية، فإن الولايات المتحدّة الأمريكية احتاجت إلى وقت كي تنتبه إلى خطورة ما جرى، وكي تبدأ رحلة البحث عن القاتل غير المرئي. وتطلّب الأمر وقتاً أطول كي تُطلق السينما الأمريكية أفلامها المتنوّعة حول تلك الضربة، فقد فرض الاعتداء على السينما نفسها صمتاً مطبقاً، خوفاً من رفع وتيرة الإحباط والتوتّر والألم، في زمن شهد ذروة التأثير الانفعالي للصورة المتحرّكة في النفوس والقلوب معاً. بهذا المعنى، احتاج الأمريكيون إلى فترة طويلة من الزمن، قبل أن يبدأوا تصوير المأساة في أعمال فنية متفاوتة المستويات الإبداعية، مع أن النقاش النقدي، الحادّ في بعض الأحيان، الذي تناول الإدارة الأمريكية وسوء تصرّفها، سرعان ما وجد في المقالة والأدب حيّزه الطبيعي في التنقيب عن حقيقة ما جرى.

اكتفى الأمريكيون، غداة وقوع الحدث، بإلغاء المشاهد السينمائية والتلفزيونية كلّها، التي ظهر فيها برجا «المركز العالمي للتجارة»، من الأعمال الدرامية حديثة الإنتاج حينها. وسحبوا من غرف المونتاج مشاريع قيد التنفيذ تضمّنت لقطات مُشَابهة، وأوقف الموزّعون برمجة أعمال تناول مخرجوها مواضيع مرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بكل ما يُشير إلى الاعتداء من قريب أو بعيد. لم يشأ مديرو الاستديوهات وشركات الإنتاج وأصحاب النفوذ السينمائي والتلفزيوني في قلب هوليوود وخارجها تذكير المُشاهدين الأمريكيين بهذا الحدث أو بالمناخ المحيط به، بل سعوا إلى إنتاج أعمال قادرة على أن تخفّف عنهم هول المشهد الحيّ الذي تابعوا تفاصيله وآلامه عبر الشاشات التلفزيونية. وهذا ما أتاح لآخرين فرصة العمل السينمائي المتعلّق بالحادثة نفسها. فإذا بالفرنسيين يقومون بالخطوة الأولى، ويُقدّمون «القراءة السينمائية الأولى» للجريمة وآثارها الإنسانية والأخلاقية والثقافية، بإنجاز فيلم جماعي أخرجه أحد عشر سينمائياً من إحدى عشرة دولة. ذلك أن المنتج الفرنسي آلان بريغان أطلق مشروع «11/09/01: 11 سبتمبر» بعد أقلّ من عام واحد على وقوع الجريمة، انطلاقاً من مناخ عام ساد فرنسا حينها، وأبدعت الصحيفة الفرنسية «لوموند» في اختزاله بتعبير بدا أشبه بصرخة في وجه القاتل: «إننا جميعنا أمريكيون». لم تكن الأجزاء كلّها على سوية إبداعية واحدة في هذا الفيلم، الذي أخرجه كلٌّ من (بحسب الترتيب المعتمد في الملصق وفي البطاقة الفنية): سميرة مخملباف (إيران)، كلود لولوش (فرنسا)، يوسف شاهين (مصر)، دانيس تانوفيك (البوسنة الهرسك)، إدريسا أوويدرا أوغو (بوركينا فاسو)، كِنْ لوتش (بريطانيا)، أليخاندرو غونزاليس إيناريتّو (المكسيك)، عاموس غيتاي (إسرائيل)، ميرا نائير (الهند)، شون بن (الولايات المتحدّة الأمريكية) وشوهي إيمامورا (اليابان). غير أن هذا الفيلم عكس مشاركة فنية أولى لسينمائيين عالميين، وجدوا في الكاميرا أداة تعبير إبداعي عن مشاعرهم ورؤيتهم ومواقفهم إزاء الجريمة، وإزاء تداعياتها المتنوّعة في جوانب الحياة وأشكال العيش وآليات العلاقات بين الشعوب والحضارات.

الفيلم الأكثر إنسانية

تكمن المفارقة الكبيرة لهذا العمل الجماعي في أن الفيلم الأجرأ والأجمل والأهم (فنياً وبصرياً وجمالياً ودرامياً) هو ذاك الذي أخرجه الأمريكي شون بن، الذي أظهر كفاءة عالية في مقاربة المأساة والبؤس، بلغة تنضح إنسانية وجمالاً فنياً ودرامياً، ونقداً قاسياً لطبيعة الحياة الأمريكية: ففي غرفة صغيرة ومعتِمة، يُناجي الأرمل امرأته الراحلة، وعلى الشاشة الصغيرة يظهر اصطدام الطائرتين بالبرجين، وتدور الأحداث الدرامية في خطين مزدوجين: مناجاة الرجل وآثار الجريمة. ومع انهيار البرجين، تبدأ الشمس بالدخول إلى الغرفة، وتبدأ الوردة الذابلة على النافذة باستعادة الحياة. كأن شون بن يقارن بين موت السلطة (التي يرمز البرجان إليها، سياسياً واقتصادياً وعمرانياً) وحياة الفرد، أو كأنه لا يرى حياة على تخوم الرموز المختلفة للتسلّط الحاكم. لم يصنع شون بن لوحده فيلماً جميلاً. فالقدير شوهي إيمامورا (الذي توفّي في منتصف العام الفائت) اتّخذ من الأفعى رمزاً للحضيض الذي فُرض على الفرد أن يبلغه، حين جعل بطله يزحف ويفحّ مثلها، نتيجة للمآسي التي تصنعها الحروب.

هذان فيلمان جميلان للغاية، على الرغم من بشاعة الجريمة. هذان فيلمان متمكّنان من الشروط الفنية والتقنية والدرامية والجمالية. مع هذا، فإن أفلام لوتش ونائير وتانوفيك ولولوش وأوويدرا أوغو بدت في منزلة متوسّطة من الجودة الدرامية، على نقيض فيلمي شاهين وغيتاي اللذين عجزا عن تقديم نصّ سينمائي جيّد الصنعة. اقتبس هؤلاء حكايات واقعية، وأقاموا توازناً بين أحداث تاريخية متشابهة: ذكّر لوتش الإدارة الأمريكية بمساهمتها الدموية في انقلاب الديكتاتور أوغيستو بينوشيه على الديمقراطي سلفادور الليندي في "الحادي عشر من سبتمبر" (أيضاً) من العام 1973. وروت نائير يوميات عائلة آسيوية مقيمة في إحدى الولايات الأمريكية عانت ذلاً وقهراً بسبب التفتيش العنيف لرجال «المكتب الفيدرالي للتحقيقات» عن ابنهــــا «المتّهم» بمشاركته في الاعتداء، قبل أن تتضّح حقيقة أن الابن المفقود توفّي إثر انهيار أحد البرجين عليه، أثناء مساعدته على إنقاذ ضحايا الجريمة. وصوّر تانــوفيك الاحتفال السنوي لنساء بوسنيات يحاولن به تذكير المسئولين بأبنائهنّ المفقودين في الحرب التي التهمت بلادهنّ.

هذه أمثلة تعكس بعض العناوين التي تناولها السينمائيون في أفلامهم القصيرة هذه، في حين أن المكسيكي إيناريتّو اعتمد أسلوباً تجريبياً مسرفاً بالتبــاساته البصرية والموسيقية: التقط أصوات الهلع والارتباك، واضعاً إياها على لوحة ســوداء تـظــهر عليــها، بين حين وآخر، لقطات سريعة من مشاهد حيّة عن أناس رموا أنفسهم من أحد البرجين ظنّاً منهم أنهم، بهذا، "قد" ينجون من الموت. لوحة سورياليــة مزجت الصوت بالموسيقى المخفــّفة، ومنحت الحدث مشهدية رمزية مسرفة بتجريبية فنية.

تصوير الكارثة

لم تستطع السينما الأمريكية أن تعاين موقع الجريمة وفضاءها المفتوح على الاحتمالات كلّها. هناك تردّد كبير عاشه السينمائيون: كيف يُمكنهم تصوير الكارثة، ودماء الضحايا لم تجفّ بعد؟ لكن، هل يُمكن لهذه الدماء أن تجفّ بسهولة، أصلاً؟ أليست حاضرة في الواقع السياسي والثقافي والإنساني في العالم كلّه، حتى هذه اللحظة؟ أليست غالبية المعادلات الجديدة بين الدول والمجتمعات والأفكار، منبثقة من الحادثة الدموية تلك؟ مع هذا، قدّم النتاج الأمريكي البصري، في الفترة الأولى، أفلاماً وثائقية وريبورتاجات تلفزيونية متخصّصة بالجوانب المختلفة للجريمة: الفاعلون، أسلوب عملهم، التفاصيل التقنية الخاصّة بالطائرات المستخدمة في تنفيذ الجريمة، برجا «المركز العالمي للتجارة» والمواد المستعملة في بنائهما وكيفية سقوطهما، رجال الإطفاء والمعاناة الرهيبة التي عاشوها أثناء عمليات الإنقاذ، الروايات الفردية لأناس وجدوا أنفسهم في قلب المأساة، إلخ. هذه كلّها ظلّت على تماس مع الخبر الصحفي والمعلومات التقنية والمعطيات الأمنية والاستخباراتية المتوفرة. في حين أن النتاج السينمائي انتظر «طويلاً» قبل أن يتجرّأ المخرج المشاغب والمتمرّد أوليفر ستون على تناول المأساة، سينمائياً. لكن، قبل ستون، خاض الأوربيون (مرّة أخرى) تجربة البحث السينمائي عن معنى الجريمة وآثارها. فبعد الفرنسيين وتجربة الفيلم الجماعي، بدأ بريطانيون عديدون تسليط الضوء على الاعتداء بجوانبه المختلفة، في أفلام متنوّعة بإنتاج بريطاني أو أمريكي، أبرزها: «خلية هامبورغ» لأنتونيا بيرد و«يونايتد 93» لبول غرينغراس و«الطريق إلى غوانتانامو» لمايكل وينتربوتوم، وصولاً إلى المخرج الألماني المصري الأصل سمير نصر الذي حقّق «بذور الشكّ». فالأول (خلية هامبورغ) تناول، بلغة وثائقية سينمائية مغلّفة بنمط روائي، سير المشاركين بالاعتداء، الذين شكّلوا ما عُرف باسم «خلية هامبورغ». واستعاد الثاني (يونايتد 93) اللحظات الأخيرة في حياة ركّاب الطائرة الرابعة بقيادة اللبناني زياد الجرّاح، التي فشلت في الوصول إلى هدفها (البيت الأبيض)، بسبب انقلاب الركّاب على المختطفين وسعيهم إلى إنقاذ أنفسهم من موت محتم، لكن من دون فائدة، إذ «نجحوا» في حرف الطائرة عن مسارها فقط، فإذا بها تسقط في أحد سهول بنسلفانيا. وتطرّق الثالث (الطريق إلى غوانتانامو) إلى مسألة هذا السجن الأمريكي (غوانتانامو) الذي «استضاف» عناصر من تنظيم "طالبان" وجماعة أسامة بن لادن، المتّهم الأول والأساسي في الاعتداء، من خلال إعادة تصوير قصّة حقيقية عن أربعة شبّان يُلقى القبض عليهم في باكستان بتهمة الانتماء إلى التنظيم الإرهابي المذكور، قبل أن تُكتشف براءتهم بعد أشهر طويلة من المرارة والتعذيب. وإذا بدت الأفلام الثلاثة، إلى جانب سويتها الفنية والدرامية، ملتزمة خطّاً «موضوعياً» في مقاربة الأحداث، خصوصاً «خلية هامبورغ» الذي قدّم الشخصيات كلّها من دون أحكام مسبقة، بل بحرفية صحفية عالية وسوية اشتهرت بها أنتونيا بيرد، وروى الحكاية بتفاصيلها المتداولة في الأوساط المعنية، وهي التفاصيل المستخرجة من أشهر طويلة من البحث الأمني والاستخباراتي وجمع المعلومات، فإن الميزة الثانية لتلك الأفلام تكمن في قدرتها على التحرّر من خطابية الانتقاد والشتم والكليشيهات المسبقة، وفي سعيها إلى إنجازٍ فني قادر على تصوير اللحظة بحذافيرها المؤلمة والمتوترة.

قوة الشك

هذا ما فعله سمير نصر أيضاًً: قصّة قابلة لأن تحدث في أي عاصمة غربية بعد وقوع الجريمة، ونقاش بصري جميل لمعنى العلاقة الإنسانية المعرّضة، بسبب تصرّف ما، إلى الشكّ. في حين أن الفيلم ارتكز على قوة الشكّ في تدمير عائلة طبيب عربي متزوّج من ألمانية ولديه منها ولد، إذ تعرّضت الزوجة لاحتمالات الشكّ بتورّط زوجها في الجريمة، قبل كشف حقيقة براءته من التهم الموجّهة إليه من الشرطة الألمانية. والسؤال الذي طرحه «بذور الشكّ»، كامنٌ في موقع العربي في داخل المجتمع الغربي ومكانته الإنسانية والأخلاقية، في مرحلة التحوّل الخطر الحاصل منذ مطلع القرن الجديد.

أما أوليفر ستون، فأثار صدمة سلبية كبيرة لدى المهتمّين بالسينما، والمنشغلين بأفلامه، الذين اعتادوا أن يكون صادماً ومشاغباً ومتمرّداً على السلطات المتنوّعة. فهو، بإنجازه «المركز العالمي للتجارة»، كسر تلك الهالة الإبداعية التي ابتكرها لنفسه بأفلامه الناقدة، بعنف، وحشية الحروب والمآزق السياسية والسلطة الإعلامية وآليات صنع العنف المجتمعي والإنساني. وهو، بميله إلى البكائية الميلودرامية الانفعالية الساذجة، بدا مرتبكاً بشدّة إزاء الجريمة ومعناها وتفاصيلها اللاحقة في المجتمع والناس والعلاقات والوعي والثقافة، إذ اكتفى بقصّة لا تحمل في مضمونها أي بُعد درامي قابل للتحوّل إلى فيلم سينمائي جدّي، ولا تمتلك أي شرط من الشروط الفنية والإبداعية القادرة على إنجاز بصري يرتقي إلى المستوى المعهود له في أفلامه السابقة، كـ «قتلة بالولادة» و«الفصيلة» و«مولود في الرابع من تموز» و«ج ف ك» وغيرها. اختار، في جديده هذا، قصّة رجلي إطفاء عاشا ساعات مريرة تحت أنقاض أحد البرجين، قبل أن يبدآ عملهما الإنساني بالسعي إلى إنقاذ المحاصرين بين النيران والخراب. وبلغة سردية مملّة وبكائية، تستثير عواطف مجانية، بدا «المركز العالمي للتجارة» وكأنه «سقطة» وقع فيها سينمائي قدير في لحظة إنسانية ملتبسة.

ما للمنيّةِ أدعوها وتبتعد أمرّ من كل حتفٍ بعض ما أجدُ
ظمآن أشهد ورد الموت عن كثب والواردون أحبّائي ولا أردُ
علّلتُ بالصبر أحزاني فيا لأسىً بالجمر من نفحاتِ الجمرِ يبتردُ


بدوي الجبل

 

نديم جرجوره 




نيكولاس كايج في مشهد من «المركز العالمي للتجارة» للأمريكي أوليفر ستون





مشهد من «الطريق إلى غوانتانامو» للبريطاني مايكل وينتربوتوم





مشهد من «يونايتد 39» للبريطاني بول غرينغراس





مشهد من الفيلم القصير للياباني الراحل شوهي إيمامورا





مشهد من «بذور الشكّ» للألماني المصري الأصل سمير نصر