مشكلة التقاعد.. مظاهر ومعالجات

مشكلة التقاعد.. مظاهر ومعالجات

يمثل خروج الإنسان عن عمله لوصوله إلى سن المعاش أزمة تنعكس على النفس والجسد وتتطلب رهف العلاج.

إن انتهاء العمل والدخول في التقاعد لا ريب أنه يغير من مفهوم الفرد للحياة، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من المتقاعدين يصابون باضطرابات مهمة بالعادات والغراثز، منها اضطراب النوم والأحلام المزعجة، إضافة لاضطراب الأكل، فقد يصاب البعض بالقمه فيزهد الطعام والشراب ويشعربالامتلاء وحتى الثقل بالبطن بعد الطعام وحتى بكميات بسيطة، وعلى العكس قد يصاب البعض بالنهم مما يسيء لصحتهم أو لحمية مفروضة بسبب مرض معين؟ ويمثل الإفراط بالطعام نوعا من التعويض عن لذة مفقودة. قد تمثل العنانة واضطراب الاتصال الجنسي بمختلف أشكاله مظهراً لهذه الطبقة وخاصة في المراحل الأولى لترك العمل، ولاشك أن الشدة النفسية ونقص الاحترام للذات هما السبب في حصول ذلك.

يشكل داء التوهم المرضي الاكتئابي إحدى المشاكل المهمة التي يقع فيها المتقاعدون أحيانأ، ويعني ذلك الوسواس بالأمراض ويشعر الفرد أنه مصاب بداء لا براء منه، ويتم ذلك بآلية نقل القلق حول الوضع التقاعدي وتوجيهه إلى اهتمامات جسدية، وهذا يتم لا شعورياً، ويقع الاختيار على أي عضو لتلقي هذه الاهتمامات مثل الجهاز المعدي والمعوي "متلازمة الكولون المهيج" أو القلب والرئتين "وخز حول الثدي ومتلازمة فرص التهوية"، أو الجلدي والغدد العرقية "حكة وفرط تعرق". إن المريض المراقي يحتاج إلى أن يكون مريضاً رغم كل المساعي لمساعدته ورغم توضيح أن صحته جيدة، ولكنه يستخدم المرض. طريقة لكسب الرعاية والاهتمام والحب لدى من يتصور فقدهم بتوقفه عن العمل. وهذه الطريقة يبتدعها لا شعور المريض، ودون إدراكه الواعي، للدفاع عن موقفه الأسري المهدد، وفي لحقيفة يعتبر مرض الإكتئاب عاملاً مهما مسبباً لداء الأرق. وهناك ملاحظة أحب أن ذكرها وهي أنه يجب التحقق من عدم وجود إصابة عضوية في كل مرة يفحص فيها مريض الأرق حتى لا يهمل مرض جدي عندهم.

وفي دراسة قام بها Bermer وجد فيها أن نسبة الموت بالحوادث القلبية الوعائية والانتحار تزداد عند المتقاعدين عنهم عند العاملين فى نفس آلأعمار وأحب هنا أن أذكر مثلا كنت عليه شاهداً يبين. وضع هؤلاء .

"م ، س " عمره 60 سنة يعمل بمنصب حكومي مهم في دمشق ويتوقع ترقية مهنية ويعيش حياة مهنية وأسرية سعيدة وهو بوضع صحي ومادي جيد فجأة تلقى أمر إحالته على. التقاعد ، ترك دمشق- وذهب ليعيش في بلده "و" مسقط رأسه بدأ تدريجيا يحس بالملل والاحباط ، حاول إيجاد عمل مناسب "مكتب عقاري .." ولكنه لم يتمكن من الاستمرار . كان دائم التوتر والقلق ، لم يستطع المطالعة وحدها أن تملأ فراغه ، بدأ يحس أن أفراد أسرته يكنون له احتراما أقل من السابق وأن زوجته لم تعد توليه الرعاية الكافية . بعد ثلاثة أشهر من تركه للعمل أحس بوخز حاد حول الثدي الأيمن أصابه فجأة نقل على أثره إلى المشفى وبعد أن أجرى له تخطيط قلب كهربائي ECG قيل له أنه لا يوجد مرض قلبي وأنه مصاب بعصاب حاد.

أخذت هذه النوب من الألم تتواتر عليه مما دعاه إلى زيارة أكثر من طبيب أمراض قلبية شهـير في دمشق، أكد له الجميع أن قلبه على مايرام ولم يعط دواء، إلا بعض المهدئات. اضطر السيد "م، س" للسفر إلى هنغاريا. وأجرى هناك دراسة جيدة حول وضعه الصحي، ونفى الأطباء أي إصابة قلبية مما حمله للسفرإلى فرنسا وهناك وبناء على طلبه أجريت له قسطرة قلبية وأعطي التتيجة الموافقة للنتائج السابقة! عاد إلى سوريا وهو يحمل نقمة ضمنية على الأطباء، لا تزال تلك النوب تتواتر رغم أخذه للمهدئات الموصوفة!!

أحب أن أشير إلى أنه ليس كل المتقاعدين طبعاً يشعرون بتلك الأعراض، بل بنسب متفاوتة وشدة الأعراض تختلف وذلك وفق العديد من العوامل منهـا:

1- التوازن النفسي: فالأفراد ذووالبنية النفسية الهشة يتداعون أسرع في هوة الأعراض السالفة، والأشخاص المتزنون الذين يتصدون لمشكلتهم بوعي ومنطقية قد لا يعانون أبداً.

2- أهمية العمل السابق: فكلما كان العمل الذي أعفي منه الشخص أكثر رفعة، كانت النتائج أسوأ، والعكس بالعكس.

3- أضرار التعطيل، فلا شك أنه كلما كان انخفاض الدخل أشد، وكلما تقلصت العلاقات الاجتماعية أكثر، وزال العز، كانت الأعراض أشد.

4- الأفراد المحيطون: فالأسرة غير المتفهمة لأبعاد مشكلة عضوها تلعب دورا سلبيا في تطور الحالة، وكذلك بالنسبة للأصدقاء والمعارف.

بر الأمان النفسي

من الواضح أن التصدي لهذه المشكلة ليس بالأمر السهل، ولابد لمعالجة ذلك من أن تتصدى أكثر من جهة للوصول للهدف المنشود وهو إنقاذ هؤلاء عن عصاباتهم، والوصول بهم إلى بر الأمان النفسي والتأهيل الاجتماعي وإسعادهم والاستفادة من طاقاتهم أيضاً.

أول جهة منوطة بالتصدي لهذا الموضوع هي الدولة وذلك عن طريق إيجاد رابطة "جمعية أو ناد" ذات فروع موزعة بالمدن. وتقوم بالمهام التالية:

1- إيجاد عمل للراغبين من الأعضاء بما يتناسب مع طاقاتهم وخبراتهم وسنهم.

2- توفير قاعات مطالعة، وملاعب خاصة مناسبة، وصالات تسلية وترفيه.

3- نشاطات ثقافية أو فكرية أو إنتاجية يكلف بها الراغبون من الأعضاء.

4- الإرشاد النفسي من قبل خبراء أو أطباء نفسيين.

أما العبء الآخر فعلى المتقاعد نفسه وذلك من خلال البنود التالية:

1- التفهم لحقيقة أن إنهاء الإنجاز ،لا يعني الانتهاء بل يعنى سعادة إتمام العطاء ومحاولة التأقلم مع الوضع الجديد

2- محاولة إيجاد عمل إذا كان راغباً، وذلك بما يناسب طاقاته وقدراته مع التفهم المسبق أنه لن يجد عملاً بجودة ما فقده بل عليه التكيف.

3- إيجاد برنامج يومي حافل بالقضايا المسلية والمفيدة "رياضة، تنزه بالحدائق أو الحقول، زيارة متحف، مسارح، قاعات مطالعة" وأحب أن أشير إلى أهمية رياضة المشي فبالإضافة إلى ما تذهبه من التوتر وتضفيه من انتعاش في الهواء الطلق، فهي تحمي من أمراض القلب والأوعية.

يبقى للعائلة والمحيطين بالفرد دور لا تنكر أهميته دوماً، وذلك من خلال الرجوع لرأيه ومشاركته بالإدارة وتشجيعه على المطالعة والرياضة .

في النهاية أختم البحث برأي أحد المتقاعدين حول وضعه حيث قال " أحس أن وضعي الآن أفضل فأنا حالياً أكثر نضجاً وحرية، وهناك الوقت الكافي لممارسة الكثير من الأمور الممتعة والمفيدة".

 

أنور دندشلي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات