سر النهضة يكمن هنا

سر النهضة يكمن هنا

نشرت مجلة العربي مشكورة في عددها (575) أكتوبر 2006، بتوقيع د. سلمي الصعيدي أن «التجربة الماليزية الناجحة لمشروع المدارس (سمارت) كانت العامل الرئيسي في تحقيق التطوير الواضح لماليزيا حيث وضعت ماليزيا هدفًا لها، وهو تحويل الدولة الماليزية إلى دولة صناعية، وكانت المدرسة «سمارت» أداتها في تحقيق ذلك».

وإذ أشكر مجلة العربي لإفساح صفحاتها لهذا المقال، كما أشكر كاتبته اهتمامها واجتهادها في بحثها عن الجديد خارج إطار وطنها خاصة لدولة إسلامية كماليزيا، إلا أنني أختلف معها في الأسباب والمسببات، حيث كان تحول ماليزيا إلى دولة صناعية الأداة لفتح مثل هذه المدرسة وليس العكس كما تقول الكاتبة للأسباب التالية:

أولا: صدر في اجتماع (G7) المنعقد في روما عام 1985 قرار برفع قيمة العملة اليابانية الين أمام الدولار الأمريكي بثلاثة أضعاف من نحو (300) ين إلى (100) ين، وعلى أن يتم ذلك خلال سنة واحدة، والهدف منه الحد من صادرات اليابان برفع أسعار قيمة صادراتها بنحو ثلاثة أضعاف، تلك الصادرات، التي غزت كل أسواق العالم، بما في ذلك أسواق الولايات المتحدة بشكل لم يسبق له مثيل، مما جعلها تجد في هذا النمو السريع خطرًا مباشرًا على كل القطاعات الصناعية الأمريكية، وصناعة الدول الحليفة لها.

دفع هذا الإجراء بالشركات اليابانية إلى نقل معاملها، التي تعتمد على وفرة ورخص اليد العاملة إلى الدول المجاورة لها، والتي عرفت فيما بعد بــ(النمور السبعة)، والتي كانت ماليزيا إحداها، وأفرغت بذلك كل مصانعها الخفيفة والمتوسطة من كل قطاعاتها.

وما كانت ماليزيا وسائر النمور لتنجح في جذب تلك الاستثمارات اليابانية الجديدة لولا نوعية رأس المال البشري الوفير لديهم في شكل عمالة ذات مهارات رفيعة المستوى، وجدية ملموسة في الأداء، وبتكلفة أجور متدينة حينًا، ومعتدلة أحيانًا أخرى مقارنة مع مثيلتها اليابانية، التي ارتفعت فجأة نتيجة ارتفاع قيمة عملتها.

ويضاف إلى ذلك أن العقلية التي يتمتع بها عمال تلك المنطقة من العالم هي مزيج من الفخر، والاعتزاز بالذات، والثقة بالنفس، والتواضع الحقيقي، وتقديس العمل حتى مستوى العبادة، وإرادة واعية، شجاعة، ومنفتحة.

ثانيا: أما السبب الثاني والأهم لنجاح تحول ماليزيا وجيرانها من النمور إلى دول صناعية متطورة بدرجة تحسد عليها من قبل الجميع، فهو أن معدل نسبة الذكاء لدى سكان القارة الآسيوية بمجملها، والتي تشكّل أكثر من نصف المعمورة مساحة وسكانا - هو الأفضل عالميًا، كما يثبت ذلك التقييم السنوي في فحوصات الذكاء (I.Q.) Inteligent Quotient وهو حاصل الذكاء، أو الإنتاج أو الإنجاز والذي يحسب بطرق عدة بإخضاعه لمجموعة من الأسئلة الموحدة، وبقسمة سن الطالب العقلية على سنه الزمنية - والذي يجري في الولايات المتحدة الأمريكية سنويًا، وينال فيه الآسيويون خاصة في منطقة الشرق الأقصى درجات التفوق العليا من هذا السلم وعلى مدى سنوات عدة.

صحيح أن هناك تقسيمات تميّز سكان آسيا، وتصنفهم تصنيفات مختلفة، وتقيّم درجة ذكائهم، إلا أن سكان شرق آسيا أكثر ذكاء من سكان غربها، وإن كان الجميع هم الأفضل عالميًا.

ولعل خير شاهد على ذلك، وحتى دون هذا التقييم السنوي، تلك النهضة الاقتصادية والصناعية، التي شهدتها اليابان منذ الحرب العالمية الثانية لغاية الآن، والتي جعلتها الدولة الصناعية الثانية على مستوى العالم مما جعل الناتج الإجمالي الياباني يمثل 60 % من ناتج آسيا الشرقية بكاملها، كما أصبحت المساعدات اليابانية المباشرة للتنمية توجه إلى أكثر من نصف آسيا تقريبًا.

وكل ذلك تم خلال العقود القليلة الفائتة، بالرغم من الضربات الاقتصادية الموجعة المتتالية، التي تتلقاها بين الحين والآخر، ومن أعز حلفائها خشية أن تأخذ مكانها في الطليعة.

التقدم الاقتصادي السريع في معدل نمو النمور السبعة بعد أن جعلت اليابان - فيما بعد - غالبية صادراتها لتلك الدول تكنولوجية لتستورد منها بدورها منتجات قيمتها المضافة ضعيفة، أو فقط تم تجميعها في تلك الدول مما ربط بين اقتصادات جميع هذه الدول مرتبطة بعضها بعضا، ومع اقتصاد اليابان ارتباطًا وثيقًا في عملية تكامل شبه كامل لأن اقتصاد كل منهم أصبح متممًا للآخر.

كما قاموا بدورهم بتصدير منتجاتهم لسائر أنحاء العالم، خاصة لتلك الدول التي تفرض نظام (الكوتا) على صادرات اليابان، وبذلك استطاعت اليابان اختراق هذا القيد المفروض عليها، بتصدير منتجاتها نصف المصنعة إلى الدول الغربية بعد أن يستكمل تصنيعها في دول النمور المعفاة من نظام (الكوتا) كونها دولاً نامية. إن كل ذلك جعل تلك الدول لا تسلم هي بدورها من صفعة اقتصادية واحدة تلقتها بمجموعها من شخص واحد أمريكي يهودي الأصل - وقبل نحو عشر سنوات اسمه ج.سوروس، أعادها إلى الوراء سنوات عدة (أشير إلى ذلك مرارًا في أعداد سابقة للعربي)، وبالرغم من ذلك، تمكنت من النهوض بعد كبوتها متعافية، وبأفضل مما كانت عليه، وإن اختلف معدل التعافي بين دولة وأخرى بحسب الدعم الذي تلقته، وكان آخرها ماليزيا كونها دولة إسلامية.

وفي ضوء ذلك، فليس من المستبعد أن تلمس اهتمامات دول بعض القارات الأخرى في شئون القارة الآسيوية، والتدخل شبه اليومي في خصوصياتها، الصغير منها والكبير أكثر من اهتمامها في شئون قارتها نفسها. وبالطبع، فإن ذلك ليس لنفطها وموادها الأولية أو رخص أيديها العاملة، أو ربما لمكافحة الإرهاب وحسب، وكما يدعون، وكما يجعلون الجميع يعتقد، وإنما إضافة لذلك خشيتهم من ذكاء شعوب هذه القارة ووفرة عديدهم ومدى أهمية ذلك على مستقبل هذه القارة الواعد، وهذا المارد الجبار الذي بدأ يستيقظ فجأة بعد سبات طويل ليعيد بعض أمجاده السابقة.

وفوق ذلك، جاءت مثل هذه المدارس (السمارت) لتفاقم الأمور وتزيدها تعقيدًا لما يترتب عليها من شحذ للأدمغة النيّرة. ومن منا لا يذكر فترة إغلاق المدارس، التي افتتحها محمد علي باشا في مصر بعد رحيله بقليل، تلك المدارس، التي كان لا يدرس فيها سوى بعض الحساب، وقواعد اللغة العربية وبعض العلوم البدائية (أشير إلى ذلك في «العربي» بعدد سابق).

وما نلمسه اليوم في ماليزيا، والدول المجاورة لها - وبعد مضي نحو العقدين من الزمن - من نجاحات سواء في فتح مدارس (السمارت) أو خلافها لم يكن إلا نتيجة الأحداث التي فرضت على المنطقة، والتي أعطت نتائج لم يكن مخططوها يتمنونها.

وما كان ذلك ليتم لولا تمتع تلك الشعوب بالعقلية المرنة المنفتحة، ولو لم تكن النزعة العلمية المتوافرة لديهم مبنية على أسس، وأدوات فكرية تتحرى الموضوعية، ومنهجية مسلكية سليمة المسار، منطلقة من أسس عقلانية يجري تطبيقها، بما يتلاءم مع واقع كل دولة منهم، وبما يتوافق مع المتغيرات السريعة الجارية حاليًا في كل أصقاع العالم، ذلك أن أغلبية تلك البلاد تفتقر إلى المواد الأولية أحد مستلزمات الإنتاج الصناعي الأساسي، اللهم إلا العقول البشرية والصناعية الرفيعة المستوى، فهم يعرفون حق المعرفة أنه لا ثروة أفضل من ثروة العقل والحكمة، والتي تقود تلك الشعوب إلى التقدم والرقي، وكما يعرفون في الآن ذاته أن قلة المعرفة والجهل، التي طالت أكثر مما يجب كانت السبب في أكثر مصائبهم.

كل ذلك جعل من مثل هذه المدارس الوقود المحرّك والمتحرك لمتابعة مسيرة قطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية السريعة، ذلك أن قيمة هذه العقول هي في أنها ثروتهم الحقيقية وربما الوحيدة.

ولابد من الإشارة إلى أن قرار أهمية التصنيع من عدمه ليس في يد الحكومة كما هو الواقع في مشرقنا العربي، وكما يفهم من المقالة المنشورة في «العربي»، وإنما هو في أيدي القطاع الخاص المتمثل بالشركات والمنشآت الصناعية الخاصة. أما دور الحكومات في تلك الدول، فيقتصر حصرًا على تقديم مساعدات محفزة للتنمية الاقتصادية، وتوفير المعلومات، وتهيئة المناخ المشجع للاستثمار، ولا تتدخل البتة في قرار إقامة منشأة صناعية من عدمه.

وفي النهاية إذا اعتبرنا الشعب الماليزي من النخبة بين الشعوب، فإن هدف هذه النوعية من المدارس هو تخريج نخبة النخبة لديهم، وإن مقالة د. الصعيدي أفادتني كثيرًا كما أفادت سائر قرّاء «العربي»، وإن اختلفت معها في بعض النقاط، ذلك أنها ربما تكون حافزًا لبعض وزراء التربية العرب الذين يهمهم شحذ أدمغة النخبة من طلبة بلادهم، بافتتاح نظائر لها، فهي جميعًا تملك مقومات نجاحها، ولو جرى تغطية نفقاتها بما يصرف على التسليح العسكري، ربما كنا عندئذ أكثر قوة ومناعة على المدى الطويل.

محمود الركابي
دمشق - سورية