مرآة الإرهابي

مرآة الإرهابي

مثلما كان النظام السياسي في مصر يعيد تشكيل نفسه كانت التنظيمات الإرهابية تشكل واقعها. إنها رؤية تمزج بالسياسة نراها من خلال ذلك التحليل لراوية الكاتب الراحل فتحي غانم.

لا يتجاوز المدى الزمني للأحداث الرئيسية في رواية فتحي غانم "تلك الأيام" ستة أشهر، تبدأ من السادس من فبراير وتنتهي في الثاني والعشرين من "يونيو" 1962. وما بين البداية والنهاية يتحرك "بندول" الزمن الروائي ذهابا وإيابا وإلى الزمن الحاضر متنقلا عبر الأزمنة الماضية التي تلقي الضوء على أحداث الزمن الماضية التي تلقي الضوء على أحداث الزمن الحاضر للرواية.

وحرص الروائي على التاريخ الدقيق لوقائع "تلك الأيام" الحاضرة، في علاقتها الدالة مع الأيام الماضية، مرتبط بتأكيد امتداد الماضي في الحاضر من ناحية، وعدم إمكان فهم الحاضر إلا من حيث صلته بأصوله الأقدم من ناحية ثانية. وتبدو الأشهر الستة لعام 1962 حاسمة من هذا المنظور، فهي مبدأ السرد ومعاده، سواء في دلالة حركة الانتقال منه وإليه، أو في دلالة العودة إلى سنوات بعينها، من أزمنة قريبة أو بعيدة، لكل منها دلالة وظيفية تسهم في تقدم حركة السرد وتصعيد مجرى الأحداث، وذلك على نحو يضئ لحظات التوتر المؤثرة من الزمن الحاضر للسرد في صعوده نحو ذروته الكاشفة.

ويمكن أن نلاحظ على الفور، إذا راجعنا المدى الزمني لأحداث الرواية على المدى الزمني لأحداث الرواية على المدى الزمني لأحداث التاريخ الفعلي خارج الرواية، أن الأشهر التي تدور بها وفيها أحداث السرد في "تلك الأيام" ترتبط كلها بأشهر الإعداد لميثاق العمل الوطني الناصري في مصر. وتلك إشارة لا تخطئها العين إلى مرحلة جديدة من مراحل تحولات الثورة المصرية. وهي المرحلة التي قرر فيها عبد الناصر أن يعيد تشكيل النظام السياسي، ويؤصل المرحلة الحاسمة من التحول الاشتراكي، ويجمع الأمة في جبهة سياسية عريضة تواجه الأخطار التي جسدتها أحداث الانفصال في "سبتمبر" 1961 وتوابعه. ولذلك أصدر عبدالناصر في الرابع من نوفمبر 1961 بيانه السياسي الذي حدد معالم التنظيم الشعبي الديمقراطي الجديد في الجمهورية العربية المتحدة. وتضمن البيان أن الخطوة الأولى في اتجاه التنظيم هي تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، تأكيدا لفتح دائرة الحوار السياسي، وامتداد بالنقد الذاتي إلى الأفق الذي يعين على وضع ميثاق العمل الوطني. وهو الميثاق الذي تم إعداد مبادئه العامة بواسطة لجنة منبثقة عن اللجنة التحضيرية، وأشرف على صياغته النهائية "التي أعدها محمد حسنين هيكل" جمال عبدالناصر الذي قرأ الميثاق في "المؤتمر لمناقشة الصياغة النهائية للميثاق الذي أقره المؤتمرون في الثلاثين من "يونيو" 1962.

ويعني ذلك أن المدى الزمني لرواية "تلك الأيام" هو مدى التحول الحاسم الذي انعطفت إليه ثورة 1952 في مصر، بعد النكسة التي أصابت مسيرتها الوحدوية بانفصال سنة 1961، ومواجهة الثورة لواقعها الفعلي في تعارضاته وتناقضاته وصراعاته، ومحاولة مجاوزة هذه التعارضات والتناقضات والصراعات بصيغة جديدة، هي صيغة التنظيم الشعبي الديموقراطي تحقيقا لحتمية الحل الاشتراكي، واستهلالا لعهد جديد يعد بالتخلص من سلبيات الماضي وأخطائه. وليس من المصادفة أن يكون اليوم الأول الذي نرى فيه بطل الرواية "في السادس من فبراير 1962" وهو يوم ينتسب إلى هذا المدى الزمن الحاسم، سياسيا، حين كان العمل قائما على قدم وساق في صياغة ميثاق العمل الوطني من ناحية، والإعداد للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية من ناحية ثانية. وليس من المصادفة بالقدر نفسه أن تصل أحداث الرواية إلى ما يدني بها من ذروتها النهائية ف الثامن عشر من "يونيو" 1962، بعد افتتاح المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، وفي ذروة مناقشاته التي انتهت بعد اقل من أسبوعين "في الثلاثين من الشهر نفسه" إلى إقرار الميثاق الوطني وإعلانه.

ولم يكن البطل الروائي سالم عبيد "الذي يستحضر إلى الرواية البطل النقيض عمر النجار" بعيدا عن الوقائع السياسية لهذا المدى الزمني وعلاقاتها الدالة، فهو طرف فاعل فيها ومنفعل بها في الوقت نفسه، وذلك من حيث كونه المؤرخ المرموق العظيم الذي منحته الدولة كبرى جوائزها، والذي يشعر الجميع بأهميته الخاصة. ومن الطبيعي أن تشارك هذه الشخصية الفكرية المرموقة المرضى عنها مع غيرها من كبار المثقفين أو المفكرين في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، وأن يسهم إسهاما نرى ما يدل عليه في مناقشة الميثاق ضمن المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، وأن يمتد هذا النقاش إلى صفحات الرواية نفسها، حيث تتحول لحظة الاستشهاد بالفقرة الخاصة بكثرة التنظيمات السرية في نهاية الحرب العالمية الثانية إلى لحظة الكشف عن المأزق الذي يواجهه البطل في بحثه عن صيغة يسهم بها في تغيير واقعه الخاص والعام.

ولكن ما طبيعة المأزق الذي يواجهه البطل سالم عبيد في "تلك الأيام"؟ الإجابة تحتاج إلى أن نرجع إلى الحركة الاستهلالية من حركات سرد الرواية، ففيها القرينة البلاغية على أفق التمثيل الرمزي للشخصية. وذلك منذ الوهلة الأولى التي نرى فيها البطل ساعيا إلى لقاء الإرهابي القديم عمر النجار: نقيضه ومرآته. وأول ما يطالعنا منه في حركته الاستهلالية هذه وصف عينيه المتعبتين اللتين لا تقويان على مواجهة ضوء النهار الشديد. وهو وصف يرهص بحركة الشخصية التي تسعى إلى لقاء الإرهابي لهدف موضوعي هو دراسة ظاهرة الإرهاب، والتحديق في حالة دالة من حالات أبطالها، وهدف ذاتي يرتبط بطبيعة الشخصية التي لا تقوى على المواجهة الحدية أو التحديق المباشر في الضوء الشديد لعالمها الفعلي، على الأقل من منظور المجاز المرسل للوصف.

ونعرف من التقديم بالغ الإيجاز للرواية أن سالم عبيد شخصية عبقرية غير عادية، يفعل أحيانا أشياء عجيبة غير متوقعة، أو يدبر خططا يتحكم بها في مصائر من حوله، مثل تلك الخطة التي دبرها لزوجته مع الإرهابي القديم، وهو واثق تماما من نجاح خطته. ما هذه الخطة؟ وما المقصد منها وهل نجحت؟ تلك هي الأسئلة التي نبدأ منها متابعة حركة سالم عبيد السردية، متشوقين إلى معرفة النهاية التي تشبع فضولنا المستثار، في عالم يبدو بعيدا عنا لكنه سرعان ما يغدو عالمنا الذي نعيشه بأكثر من معنى.

ويلتقي سالم عبيد وعمر النجار للمرة الأولى. الهدف المعلن هو كتابة تاريخ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ابتداء من إرهاصات نهاية الحرب، حين كان كل شيء ينهار وكل شيء يستيقظ، ناس تؤمن مقابل ناس تلحد، وزعماء يرتفعون على مقاعد الحكم ورصاص يخترق أجساد زعماء فتسقط في القبور. ضجيج يعيق الإنصات إلى أصوات الحقيقة، ودخان كثيف يعوق الرؤية، ولا يتباعد هذا الوصف للماضي كثيراً عن وصف الحاضر من المنظور الذي تحدق منه عينا المؤرخ نفسه، في سياق الزمن الحاضر الذي يتحرك فيه الإعداد لميثاق العمل الوطني، فأحداث هذا الزمن مليئة بالضجيج، ولا زيف، والوهم، تختلط فيها الشوائب بالحقيقة الصافية فتعكر على الرؤية.

من هذا المنظور، يبدو الزمن الحاضر زمنا جامعا للأضداد كالزمن القديم، زمنا بدت فيه أحلام الوحدة منهارة مع الانفصال، وأحلام العدل الاجتماعي صاعدة مع وعود التحول الاشتراكي. ولكن المفارقة الحقيقة لهذا الزمن أنه كان يدعو إلى حتمية الحل الاشتراكي في الوقت الذي وضع فيه الاشتراكيين الحقيقين في المعتقلات، يموت بعضهم نتيجة التعذيب الوحشي. وغيابهم القسري، عن المشهد الذي يلغو ممثلوه أو منافقوه بحتمية الحل الاشتراكي والتنظيم الشعبي الديموقراطي، يطرح الأسئلة المنهى عن النطق الصريح بها. كيف تبنى الاشتراكية بغير الاشتراكيين؟ وكيف تتحقق الديموقراطية مع كل هذه المعتقلات التي تزدحم بالمعتقلين؟ وهل يعقل أن نتحدث عن تنظيم شعبي ينبني على حق الاختلاف والتنوع وكل شيء معلق بإرادة واحدة مهما كانت خيرة أو نبيلة أو ملهمة؟ وأين هي التنظيمات الفعالة في بلد لا طاعة فيه إلا لمن يجلس على القمة وحيدا مع الواحد: السلطة؟ وأهم من ذلك من الذي ينطق هذه الأسئلة المنهى عن النطق بها؟ لقد حضر عبد الناصر نفسه اجتماعات اللجنة التحضيرية من أواخر شهر نوفمبر وأغلب شهر ديسمبر وسمح بالحرية الكاملة في التعبير، حتى لقد اعترض بعض الأعضاء على بعض الآراء وأرادوا حذفها من مضابط الجلسات فاعترض عبد الناصر على ذلك، واستقر رأي اللجنة على ترك كل رأي كما قيل إعلاء من شان الحرية. ذلك ما قالته مقدمة كتاب "الطريق إلى الديموقراطية" الذي صدر عن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي يضم محاضر هذه الجلسات المهمة بالفعل.

الحلم والكابوس

ولكن هل كان يمكن لمؤرخ جامعي مثل سالم عبيد، من حيث هو تمثيل رمزي لشخصية المثقف، أن ينطق المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي السياسي المقموع في اجتماعات اللجنة التحضيرية هذه، أو اجتماعات المؤتمر الوطني للقوى الشعبية؟ وهل كان يمكن أن يصوغ أسئلته الجذرية عن حقيقة الضجيج السياسي الذي دار من حوله في زمن اختلط فيه الحلم بالكابوس؟ الإجابة بالنفي. لقد تعلم من درس الماضي الملكي أن قول الحقيقة يعني الفصل من الجامعة. ولا شك أنه تعلم من نهاية "مارس" 1954 الدرس نفسه، حين قامت الثورة بفصل الأساتذة المخالفين لها من الجامعة، وعلى رأسهم أمثال محمود العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض وغيرهم كثيرون. وأدرك عبيد مع ما رآه وعاينه أن النجاة هي في قول إنصاف الحقائق وأرباعها وأخماسها إذا لزم الأمر، وأن السلامة قرينة قبول مبدأ الواقع وليس مبدأ الرغبة، كما أن طريق الترقي يبدأ من الاستسلام إلى شروط الضرورة السياسية والاجتماعية وليس من ممارسة أفعال الحرية. ولذلك رضي لنفسه أن يخون المؤرخ الأصيل الخلاق في داخله، تماما كما قبل خيانة زوجته التي لم يحمل إليها سوى العقم، وذلك بالقدر الذي قبل به نكوص الثورة عن تحقيق وعودها وخيانتها للأحلام التي أيقظتها في عقول ومشاعر الباحثين عن العدل والحرية والتقدم والوحدة القومية.

الأزمنة الخاصة والعامة

ويصل العجز عن المواجهة إلى ذروته مع تصاعد عمليات الإعداد لميثاق العمل الوطني، وما هو مدعو إليه من المصارحة الكاملة أو التعبير الحر. وكلاهما أمر يعلم سالم عبيد قبل غيره مخاطرة. ويبدو الحال كما أو كانت الأزمة الخاصة، وتضع المأزوم في مواجهة كل أبعاد الأزمنة وأوجهها. وعندئذ، تبرز صورة الموجه العارمة من السخط والغضب، مقرونة بأصداء طلقات الرصاص وانفجارات قنابل التنظيمات السرية التي مهدت لاحتمالات الثورة، وأرهصت بأهمية التغيير الجذري في كل شيء. وهي الصورة التي استوقفت سالم عبيد في الباب الرابع من الميثاق عن "درس نكسة" ثورة 1919 (ودال السؤال عن درس نكستها ينصرف إلى مدلول السؤال عن درس نكسة ثورة 1952 في انفصال 1961). والنتيجة هو ما تداعى على ذهنه من ترابطات شعورية واحتمالات نفسية لاختيارات حياتيه، غير بعيدة عن معنى المواجهة الحدية والتغلب على العجز. ويتولد السؤال عن الكيفية التي يتفجر بها الرفض حديا في تعبير أفعاله، وعن الكيفية التي تستجيب بها أفعاله هو إلى رغبة تدمير السلطة التي تسجن الفرد والجماعة في شروط الضرورة. ولذلك يبدو اللقاء بعمر النجار الإرهابي القديم نوعا من الحل على مستوى مبدأ الرغبة، بحثا عن النقيض الذي يقدر على المواجهة الحدية، واكتشافا لإمكانات الرفض الجذري الذي تنطلق رصاصاته حاسمة مباشرة كالحقيقة التي يفر سالم عبيد من النطق بها.

الخانع والمندفع

ويبرر سالم عبيد لنفسه اندفاعه إلى هذا النوع من البحث والاكتشاف بأنه مؤرخ و"المؤرخ بطبيعته قادر على أن يتقمص الشخصيات". هكذا، يسعى إلى عمر النجار نقيضه كما لو كان يسعى إلى مرآته التي تصدمه بالحقيقة عن نفسه، وعن الرغبة عليها إزاء "بحر الفوضى" الذي يغوص فيها سياسيا، وعن زوجته التي يريد أن يدفعها إلى النقيض نفسه كي يدمرها في الوقت الذي يضعها في مواجهة سقوطها الذي لا يختلف كثيرا عن سقوطه. ويحاول العنصر الخانع في سالم عبيد أن يتقمص العنصر المندفع في عمر النجار، كما لو كان يتحد بصورة نقيضه الذي غدا مرآة عجزه، وذلك على مستوى مبدأ الرغبة الذي يسترجع معه سالم، في تداعيات اللا شعور، ذكرى عمته زكية التي ترجع إلى نصف قرن. وقد وقفت هذه المرأة ضد التقاليد، وطلبت بكل ضعفها الأنثوي تدمير المجتمع الذي ظلمها، كأنها المجلي الأول للإرهابي الذي صاغ فلسفة التدمير. وتلك ذكرى تستعاد على سبيل الكشف عن بذرة الرغبة التي ينطوي عليها البطل، في سعيه إلى تقمص نقيضه الذي هفا إلى أن يكون شبيهه في حدية المواجهة.

أما الحقيقة الخاصة فلا تختلف عن الحقيقة العامة حتى مع انقلاب اللعبة، ومع تحول عمر النجار إلى الزوجة التي رأت فيه خلاصا لها، فطلبت الطلاق من المؤرخ الذي لم يخطط لهذه النهاية، تاركة إياه للعدم الذي يسقط في هاويته، وتستبدل بالموت الذي واجهته في علاقتها بعمر نوعا من الحياة الملتبسة، بعيدا عن إمكان التحقق الكامل مع الإرهابي الذي يغدو عجزه الجنسي استمرار الحضور الزوج العاجز بأكثر من معنى. لكنها على الأقل تحررت من الحياة المزدوجة، وتركت النقيض يواجه نقيضه في صراعهما عليها، الصراع الذي ينتهي إلى عجز كليهما عن الفعل، ومن ثم العجز عن قتل الآخر الذي هو الأنا بأكثر من معنى، كما لو كان كلا الطرفين أدركا في النهاية أن فعل القتل كأفعال العنف تعبير يائس واحتجاج عاجز لا يؤديان إلى التغيير الجذري. لكن العجز عن القتل يلتبس بالعجز عن الجنس والعجز عن الفعل الاجتماعي والسياسي في الوقت نفسه، فالعجز الشامل علامة على كبح كل شيء، وقمع كل انطلاق، في مدى رغبة الأنا الخاصة والعامة في واقع "تلك الأيام" التي حاول فتحي غانم، بمراوغاته السردية وتقنياته الروائية، أن ينطق بعض المكبوت من خطابها.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات