قصة قصيرة: خـواء

قصة قصيرة: خـواء

لأول مرة في حياتي كلها، قبل زواجي من زياد وبعده، أشعر بأن لي قلبًا، وأنه يمكن أن يتوقف فجأة، عن الخفقان، وأن بإمكانه أن يقفز من صدري ويفر هاربًا مني، تاركًا إياي أواجه قدري، وحيدة، عزلاء، أمام امرأة تقول لي من خلف مكتبها بلطف بالغ، ولكن بنبرة باردة، لا قلق فيها ولا تحرج:

"والآن تفضلي معي ، واختاري".

لأول مرة سأشعر بأنني سعيت، بنفسي، نحو حتفي، بأن استيائي بداية، وتذمري فيما بعد، وشجاراتي مع زوجي التي تلت وتكررت- في السنوات الأخيرة خاصة- وصارت بيرقًا مرفوعًا فوق رأسينا، يدل الجيران والأقرباء علينا، ويفضحنا بينهم، لن تعدوا ان تكون خطوات حثيثة، عازمة، مشيتها، ودفعته ليمشيها معي، نحو حد المقصلة الذي سيلتمع على مرآى من عيني، فوق رأسي، ثم يهبط، رويدًا رويدًا، نحو عنقي حاملاً إليّ خيبة الخذلان!

سأعرف، متأخرة، أن ملجأي الذي لجأت إليه هو مقتلي. منه ستخرج الطلقة الأخيرة نحو تأبي الحرون لتنتزع منه مكابرته وعناده، ولتطفئ فيه البصيص الذي نجا من وابل طلقات اليأس.

قبل ذلك ما كنت لأستسلم لحقيقة أنني عاقر، ما كنت أرضى لنفسي. لم يهني عقم رحمي، أهانني الإقرار به، فسعيت، بكل ما ملكت، لمقاومته: غيرت الأطباء المعالجين، نوعت الأدوية، بدلت المشافي، أنفقت المال الذي معي، واستدنت لأنفق المزيد منه، وحين وهن عنادي قزيته بالأدعية، وتعليق الحجب في ثيابي الداخلية، وابتلاع سوائل القوارير الصغيرة الغامضة.

كان مرًا علي، مرارة الاندحار، أن أقبل بحالي. أن أنسحب من المعركة مع القدر الذي خصني بالعقم. أن أرى بطون النساء حولي منتفخة مثل هضبات خضراء، وأنا مجوفة مثل جحور الأفاعي ومخابئ الضباع. مجوفة من شهور الانتظار، ووجيب الترقب، ولألأة الدهشة، ومن تلمس الجسد الوليد الغض، كوريقات النعناع، وتشمم فوحان حليبي من مسام طرواته.

سأسعى كثيراً قبل أن أمشي على ذلك الدرب، سأنهمك بالحمل مع زوجي، وسأنهكه برجاءاتي حتى في الصباح، وعند الظهيرة، أتوسل إليه أن يوقت معي اليوم الشهر والساعة. وسأطبق بذراعي على ظهره، داعية الله والملائكة والقديسين أن يستجيبوا، ولو لمرة واحدة، سأشد إلى أن يزهق مني، وينفر من عنادي ومكابرتي بالمحسوس، وأنفر من نفسي، أنفر مني، وأنا مستلقية على ظهري، أختلج، كالممسوسة، من حلمي بجنين يكبر فيّ ويكبر، يلبط بطني بقدميه الصغيرتين لبطات تخرجني من كهف اليأس الذي أعيش فيه.

ورغم هاوية الجنون التي وصلت إلى حافتها جراء كوابيس مناماتي التي كنت أراه فيها يدب نحوي على ساقيه، متعثرًا، فأهرع إليه أناغيه، ,اقبل شفتيه المنفرجتين عن سن صغيرة بيضاء، وخيط رفيع، لامع، من رضاب شهي، أو كنت أنهز من نومي، على صوت بكائه، وأسارع إلى تفقده، فارتطم بليل معتم، بارد، لا دبيب فيه ولا رضاب رغم جرف هاجس الجنون هذا، فقد ظلت في ذبالة من أمل. ذبالة تنوص وتنوص، لكنها لا تنطفيء

وظلت كذلك، إلى أن جاء أخي باقتراح دلني به على درب جديد:

- ولِمَ تتبنيان طفلاً؟ وليدًا صغيرًا يصير، مع الأيام، ابنك؟

راقت الفكرة لزوجي، وراقت لي أيضًا، بل وشعرت لحظتها، بأنني طوال الفترة الماضية، كنت أكابر بالمحسوس فعلاً! أصارع وهمًا آملة الانتصار عليه، أو كأنني كنت أسعى، في دروب مغلقة، للوصول!

وفي خلواتي مع نفسي، التي تلت اقتراح أخي، راحت الفكرة تتلون في قلبي، وتلونه مثيرة في الدهشة مني: لم يحدث حقًا أن يلوب المرء، أحياناً، بعيدًا جدًا، وفي السبل الوعرة، عما يرنو إليه فلا يرى ما هو لصيق به، في متناول يده؟

وليلة بعد ليلة، ملأ الطفل سريري، وغرفتي، وعتمها، ودفأ حضني الأجوف الذي كثيرا ما كنت أملؤه وأدفئه بوسادة أمسح عليها، وألاعبها، مربتة على ظهرها لتكف عن البكاء، وحين كانت تتمادى، كنت أبعدها عني، وأركنها جانباً لترتدع وتطيعني، فتطوع، ولا يبقى من بكائها غير شهقات خفيفة، متصلة، تذيب قلبي، فأضمها إلى صدري، وأحنو عليها، ماسحة دموعها، ودموعي، إلى أن نغرق، معاً، في نوم عميق.

فيما بعد سأعرف أنني خسرت الوسادة ولم أكسب الطفل.

وفيما بعد سأعرف أن الدرب الذي اقترحه أخي، ومشيت عليه حتى نهايته، كان أكثر وعورة من كل الدروب والسبل التي سلكتها وحاولت فيها. حين سنجهز أنا وزوجي كل الوثائق المطلوبة، ونجمع التواقيع الرسمية على أوراقنا، ونحصل على الموافقة النهائية، ونتجه إلى المعهد، ونلتقي المشرفة عليه، وتقول لي بنبرة هادئة حيادية، كأنها حكم قضاء مبرم:

والآن تفضلي معي، واختاري.

حين سننهض، ونسير خلف المشرفة، في الممر الضيق للمعهد، ويدهمني، لا أدري من أين، رعب لم أجربه من قبل، رعب غامض، مشوش، يدفع بقلبي للفرار، فأتأبط ذراع زوجي، وأجر ساقي جرًا، كأنني مسوقة عنوة إلى المقصلة!

لم يراود خيالي أن المشرفة حين ستفتح بابًا كبيرًا ستهب منه رائحة أرحام كثيرة، مختلطة بعبق أجساد وليدة، وزعقات رفيعة، متماوجة، حادة، يعلو بعضها، ويئن بعضها، متدفقة كهياج حقل من عصافير

لم يراود خيالي أنني، ما إن أدلف، حتى أغرق في أمواه من عيون صغيرة، تشع، وترنو نحوي، لهوفة، وفي سلاميات، كحبيبات الكرز، تنشد إلي متشوقة لملامستها وضمها وفي أقدام بالغة الصغر ستدب وتحبو فوق الأسرة كسلاحف وليدة، لتتطاول على أطرافها تواقة للوصول إلي، وإنني سأتحول في ومضة، إلى أم لكل واحد من تلك العصافير، طالما انتظرها طويلا، طويلا، وعادت للتو.

ومن الثلم الغائر بين عقمي العقيم، وحلمي الذي شخص آنها، انبثقت أمومتي وتدفقت، ومعها، راحت تهبط المقصلة نحو عنقي رويدًا رويدًا لا لتقطعه بل لتضغط عليه فحسب، تضغط عليه وتخنقني فأحار، وأنا أرفع بنتاً صغيرة هنا كانت تصرخ، فكفت، وصبياً هناك كان يحبو ويتعثر، فاستراح، فيمن سأختاره وأضمه إلي، وفيمن سأخذله فأتركه للسرير!

ورحت، أنا التي ذللتني سنوات اشتهائي لطفل واحد، أتخبط في هياج بحرهم حولي: أهرع نحو رضاعة طفل سقطت فأعيدها، وإلى وسادة آخر أكبت على وجهه فأرفعها، ونحو لاجئة إلى صدري فأضمها إليه، وإلى متشبث بأطراف ثوبي فأحضنه، وإلى آخر وآخر وآخر، ممن كانوا يندهون لقلبي الذي وهن من تسابقهم إليه وانهار.

وما كان لي أن أعرف أن حتفي يتربص بي خلف الباب، حين سأغادرهم جميعًا، خاوية، عزلاء، وحيدة، لا أنا أحمل طفلا منهم، ولا أنا بقادرة، بعد، علة ضم وسادة محشوة بالقطن لأهدهدها كلما بكت، وأهدهد روحي المدحورة كلما أنَّت.

 

إبراهيم صموئيل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات