التوافقية الحديثة:

التوافقية الحديثة: "جن" تكنولوجي جديد

من عمليات رياضية بسيطة يستنبط العلم طريقه لاكتشافات علمية وتقنية عديدة وجديدة

تعلمنا في المدرسة ضمن مبادئ الرياضيات أن التباديل والتوافيق طريقة حسابية لعد الأشياء، ولم يكن من الممكن أن نظن أو نحلم أن هذه الطريقة نفسها ستكون وسيلة تكنولوجية راقية جدا تجمع وتؤلف بين تكنولوجيا راقية أخرى لتصبح بمنزلة جن تكنولوجي Technological Genie يدفع بواحدة من أرقى الصناعات (صناعة الدواء) إلى قفزات طويلة للأمام لم تكن في الحسبان- ربما- حتى الثمانينات. إننا نعني تحديدا استخدام التوافيق Combinations كطريقة للتوصل إلى أدوية جديدة وهو أمر قد بدأ شيوعه في التطبيق فقط في التسعينات، وستصل آفاقه- في تقديرنا- إلى صنع منهج علمي تكنولوجي جديد تنتشر تطبيقاته في مختلف مجالات الحياة. ما هي الحكاية؟ وماذا يمكن أن تكون أبعادها؟ هذا هو ما سنتطرق إليه في السطور التالية.

في التوافيق والتباديل

لن نزعج القارئ بتفاصيل في حسابات التوافيق والتباديل، لكننا فقط نود جذب انتباهه إلى الجوهر المهم لهذه الحسابات. فإذا كانت التوافيق والتباديل طريقة لإحصاء العدد الممكن للتتابعات المختلفة لأشياء ما "مثل طرق عرض سيارات مختلفة اللون في فاترينة معرض لسيارات، أو مثل اختيار عدد اثنين أو ثلاثة مهندسين للقيام بمهمة معينة وذلك من مجموع عدد ثلاثين مهندسا (مثلا) يعملون في شركة ما.. فإن الأكثر مدعاة للانتباه هو أن التوافيق والتباديل تعد "مصدراً" أو "طريقة" للوصول إلى حجم هائل لهذه التتابعات، فعلى سبيل المثال نجد في مثال السيارات أن عدد طرق عرض ثلاث سيارات مختلفة اللون "أحمر وأصفر وأزرق" هو ست من الطرق المختلفة أو التتابعات المختلفة والتي يمكن ذكرها كالتالي:

1- حمراء- صفراء- زرقاء

2- حمراء- زرقاء- صفراء

3- زرقاء-صفراء- حمراء

4- زرقاء- حمراء- صفراء

5- صفراء- زرقاء- حمراء

6- صفراء- حمراء- زرقاء

أما في المثال المهندسين، فإن عدد التوافقات "أو الطرق" الممكنة للاختيار عندما يكون المطلوب اثنين من المهندسين "من مجموع عدد ثلاثين مهندساً" هو 435 طريقة ( !) وأما عندما يكون المطلوب اختيار ثلاثة مهندسين، فإن عدد الطرق الممكنة للاختيار يقفز إلى 4060 طريقة، وإذا افترضنا أن العدد المطلوب اختياره من المهندسين هو أربعة فإن عدد طرق الاختيار يقفز أكثر وأكثر ويزداد ليصبح 27405 طرائق.

هذا الحجم أو التعدد "الهائل" للاختيارات الممكنة هو "سر" التوافيق وهو القوة الكامنة فيها. إن هذه القوة تنبع من وجود عدد هائل من البدائل كنتيجة "التوافيق" أو "الاتحاد" أو "التغيير" في تتابع عدد محدود من الأشياء "مثل السيارات والمهندسين في المثالين السابقين".

من الرياضيات إلى الدواء

إذا انتقلنا من الأمثلة بعدد السيارات وعدد المهندسين.. إلخ، ووصلنا إلى مجال المركبات الكيميائية، فإن القوة الهائلة الكامنة في التوافق ستنتقل إلى مجال خطير وهو التصميم الكيميائي Chemical Design. فمثلا إذا كانت هناك مادة "س" لها عشرة مشتقات متباينة وكانت مادة "ص" لها هي الأخرى عشرة مشتقات متباينة، وأجرينا تفاعلا كيميائيا بين المشتقات العشرة الأخرى من المادة "ص"، فإن التفاعل الناتج يؤدي إلى إنتاج خليط من مائة مركب جديد، وإذا أخذنا المائة مركب الناتجة وعرضناها للتفاعل نع المشتقات العشرة الخاصة بالمادة "س" (أو تلك الخاصة بالمادة "ص") ثانية فإن حصيلة المركبات الناتجة ستزداد إلى 1000 مركب. وهكذا نرى أن التوافقات الممكنة في التفاعل الكيمائي بين "بلوكات" مختلفة من مادة ما، وبلوكات مختلفة من مادة ما أخرى تنتج أعدادا هائلة من المركبات الجديدة. هذا هو "السر" التكنولوجي الذي نقلته "التوافيق" إلى بحوث الدواء. وبدلا من أن يعكف الكيميائي في معمله ليل نهار طوال عدة أشهر من أجل تشييد مركبات كيميائية جديدة في حدود عدد أصابع اليد الواحدة، فإن استقدام التوافيق إلى الكيمياء، أي إجراء التفاعلات بطريقة التوافيق صار نهجا يوفر القدرة على الوصول إلى عشرات ومئات وآلاف ومئات الألوف من المركبات في غضون دقائق أو ساعات قليلة. إن النهج المذكور، إن النهج المذكور، والذي يطلق عليه حاليا الكيمياء التوافقية Combinatorial Chemistry قد بدأ فعلا في إحداث ثورة في عالم الدواء.

وإذا كانت القوة الكامنة في التوافيق "والتي هي سرها" تكمن في العدد الهائل من التتابعات الممكنة في ترتيب الأشياء سواء كانت هذه الأشياء سيارات أو مهندسين أو ساعدت ومكنت من تطبيق التوافيق على طرق التوصل إلى أدوية جديدة. ومن أهم هذه العوامل والقوى يمكن الإشارة إلى ما يلي:

1- تطور المعارف الكيميائية إلى الحد الذي يمكن معه للكيميائي المتخصص في التشييد (أو التخليق) العضوي Organic Synthesis أن يقوم باشتقاق عدد من المركبات من مركب أصلي واحد بحيث يمكن لهذه المركبات المشتقة أن تكون بمنزلة بلوكات تدخل في تفاعل كيميائي توافقي مع مركب أو أكثر مع عدد من المشتقات الأخرى.

2- ارتقاء تقنيات الأتمتة Automation والنمنمة Miniaturization والروبطة Robotization (عمل إنسان أوتوماتيكي) وأنظمة المعلوماتية Information Systems وذلك إلى الحد الذي يمكن معه إجراء تفاعلات الكيمياء بين المركبات المختلفة بطريقة توافيقية Combinatorial Chemistry مع متابعة أحوال ومسار المركبات الناتجة سواء وهي في خليط أو عندما يكون كل مركب منها مثبتا على دعامة في صورة خرزة bead خاصة به. والجدير بالذكر هنا أن الخرزة المذكورة هي من المواد الصناعية، وهنا يأتي دور تكنولوجيا المواد الجديدة New Materials

3- تطور كيفي وكمي هائل في البيولوجيا الجزيئية Molecular Biology أمكن معه التوصل إلى استخلاص (أو بناء) مواد بيولوجية دقيقة يطلق عليها مستقبلات Receptors ويكون لارتباط المركبات الكيميائية معها دلالة مباشرة عن مدى الفاعلية البيولوجية لهذه المركبات. إن اكتشاف هذه المستقبلات Receptors من حيث بنائها ودورها بالنسبة للمرضى جعل لاتحاد المركبات الكيميائية معها (ودرجة هذا الاتحاد) معنى بخصوص احتمالية نفع هذه المركبات في علاج الأمراض. وهكذا مع ارتقاء البيولوجيا الجزيئية والتوصل إلى المستقبلات في أشكال يمكن إخضاعها للاستخدام في غربلة المركبات الكيميائية من حيث نفعها البيولوجي، صارت هناك إمكانية كبيرة لعمل غربلة بيولوجية سريعة لعشرات ومئات وآلاف المركبات الناتجة من التوافقية الكيميائية ، وهذا هو ما يعرف بمصطلح Hegh- Throughput Screening أو الغربلة البيولوجية السريعة وهو ما يعرف اختصارا بـ HTS

4- وبالإضافة إلى العوامل الثلاثة السابقة والتي هي أساسية فإن العامل الرابع لا يقل عنها أهمية وهو طبيعة صناعة الدواء نفسها حيث هي صناعة تعتمد على البحث العلمي وتنتج عنها قيمة مضافة عالية جدا. إن الارتكاز على البحث العلمي في تطور الدواء وتمتع هذه الصناعة بالقيمة المضافة العالية كانا الأساس في توجيه قيادات صناعة الدواء إلى الاستثمار من أجل تقصير زمن اكتشاف أدوية جديدة وكذلك من أجل ترشيد الجهد اللازم لإجراء هذا الاكتشاف، وربما تجدر الإشارة هنا إلى أنه فوق نشأة العملاق الدوائي الأكبر "جلاكسوويلكوم" من اتحاد اشتراكي جلاكسو وباروز ويلكوم عام 1995، فإن هذا العملاق قد سارع بشراء أكبر شركة بحثية لعمل تفاعلات بالكيمياء التوافقية وهي شركة أفيماكس Affymax

منهج علمي جديد

وعندما نخرج من مجال تحليل وعرض التوافيقية من منظور اكتشاف أدوية جديدة إلى منظور أعم وأرحب فإنه يمكننا أن نتنبأ بأن التوافيقية تتحول (أو ستتحول) إلى منهج عام، وفي هذا الخصوص نورد الملاحظات التالية:

1- إن ارتقاء التوافيقية من طريقة للحساب إلى مستوى بين التكنولوجيات الراقية في إطار يقفز بالإنتاجية وبالبحث العلمي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "التوافيقية الحديثة"، لم يكن ليحدث إلا في إطار درجة من التسارع في تطور العلم والتكنولوجيا حيث بلغت حد التأثير المباشر في تطورات العالم والعولمة وهو ما يطلق عليه العولمة التقانية Technoglobalism

2- إنه قد بدأ أخيراً دخول منظم للتوافيقية (كمنهج تكنولوجي) في البيولوجيا، وذلك حيث قد أعلن وبالتحديد في فبراير 1996- عن شركة في سان دييجو اسمها كروماكسوم Chromaxome تقوم بإحداث توافيق في مسارات أيض في ميكروبات مختلفة (أي تفاعلات كيميائية تخليقية في عدد من الميكروبات)، وذلك من أجل الحصول على منتجات طبيعية Natural Products لم تكن على الإطلاق موجودة في الطبيعة من قبل. لقد أطلق القائمون على الشركة مصطلح "البيولوجيا التوافيقية" لوصف العمل الذي يقومون به.

3- إن التوافيقية، بارتكازها على العلم والتكنولوجيا لن تقف عند حد الحساب والبيولوجيا،و لكنها ستتقدم أكثر وأكثر، وتخترق التطبيق في كل مجالات الحياة. وفي تقديرنا فإن الاستخدام المنهجي (الذهني أو الإنتاجي أو الخدمي) الذي ستقدمه التوافيقية سيرتكز على قدرتها على الإفصاح عن كل الممكنات في التوافقات بين الأشياء، واستعراض هذه الممكنات في إطار كلي، ثم اختيار الشيء الأمثل بين هذه الممكنات طبقا لقواعد الاختيار التي يضعها الإنسان (بنفسه أو بمساعدة الكمبيوتر). ومثلما تساهم التوافيقية في إحداث تقدم أسي بالنسبة لعدد المركبات واستخدام الزمن في مجال الكيمياء (اقرا التقدم الأسي طريق لعبور التخلف ومنافسة المتقدمين- "العربي" يوليو 1996)، فإنه من المتوقع أن تساهم التوافيقية في إشعال جذوة أكثر وأكثر في عموم مجالات الحياة.

وختاما يمكن القول إن التوافيقية تمثل نقلة كيفية في طرق ومناهج الإنتاج والبحث العلمي والخدمات، وكذلك نقلة كيفية في إدارة التعاملات والتكاملات بين المنظومات المختلفة. وأن هذه النقلة الكيفية ترتكز وباختصار شديد على حسن استيعاب وتحليل التنوع مهما بلغ مداه ثم المرونة والدقة في الغربلة والانتقاء عبر أكبر تنوع ممكن، وذلك من أجل الوصول إلى الأمثل The Optimum.

 

 

محمد رءوف حامد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات