الدراما السورية استنساخ وتكرار

الدراما السورية استنساخ وتكرار

تزداد تخمة شهر رمضان كل عام بالأعمال الدرامية السورية، فلا تخلو قناة تلفزيونية من عمل أو اثنين لمخرجين وكتاب لمعت أسماؤهم وآخرين جدد، وفي جميع الأحوال يبقى التقييم مؤجلاً إلى حين إعادة عرض المسلسلات كل على حدة، دون أي اختلاطات جراء الزخم الذي يمنع شرط المشاهدة السليمة، خصوصاً مع تشابه بعض القصص والحبكات والأدوار، واشتراك أغلب الممثلين في أكثر من عمل ( كأن نشاهد الممثل ذاته في تسعة أعمال مثلاً).

ومع ازدياد الأعمال التلفزيونية المنتجة للعام 2006 تجاوزت الأربعين مسلسلا، ازدادت المنافسة كما ازداد تخوف شركات الإنتاج من إمكان الحصول على رءوس أموال عربية وخليجية على وجه التحديد ، كذلك محلية، ومن ثم عملية البيع للقنوات الفضائية بسعر جيد.

وعلى الرغم من جميع التخوفات استطاعت الدراما السورية فرض وجودها على القنوات الفضائية - على اختلاف توجهاتها- وبيع كل الأعمال بسعر متفاوت يتناسب مع سوية العمل إضافة إلى اسم الكاتب أو المخرج أو النجم الذي يتم على أساسه تسويق العمل.

لكن هل رافق هذا الكم الكبير الذي لم يحول الدراما إلى صناعة حتى الآن، نوع جيد وسوية فكرية وفنية أكثر تطوراً مما سبق؟ أم يصعب إيجاد عمل متميز في كومة المسلسلات المستنسخة والقصص المكررة؟ ومع تراجع سوية الأعمال السورية نتيجة تقييم مبدئي لهذا العام- ما الذي يضمن استمرارها، خصوصاً مع وجود عوامل أخرى تساهم في انحدارها مثل الإنتاج غير المنظم، وعدم حماية الدولة له وتسويقه، بدلاً من اعتماد المنتج أو المنتج المنفذ على العلاقات الشخصية التي تجعل المنافسة غير نزيهة أحياناً. أضف إلى ذلك أزمة النصوص الجيدة وغياب الكوادر الأكاديمية المختصة نتيجة عدم توافر معاهد لتدريس الكتابة، الإخراج، التصوير...الخ؟

لا ينفي هذا وجود خبرات استطاعت رسم خطوط ومعالم للدراما السورية، وخلقت رؤىً ووجهات نظر وتيارات متنوعة.

انتظار غودو

على الرغم من قلة الأعمال الجيدة نسبة إلى الكم المنتج، استطاع بعضها فرض تميزه، سواء على صعيد النص، أو الإخراج، أو أداء الممثلين...وتحديداً الأعمال الاجتماعية التي تحظى عادة بأعلى نسبة مشاهدة، خصوصاً تلك التي تلامس الإشكاليات الحياتية البسيطة والمعقدة لبيئات مختلفة وشرائح اجتماعية متنوعة، وتتناولها بجرأة أكثر واقعية مما سبق، بشكل مباشر دون مواربة ضمن حدود الرقابة المسموح بها والمتغيرة وفقاً للرقيب أو المرحلة أو التوجه السياسي السائد.

ويعتبر مسلسل « انتظار» للكاتبين نجيب نصير وحسن سامي يوسف، ومخرجه الليث حجو واحداً من أهم الأعمال لهذا العام، حيث اختار السكن العشوائي في سورية وعلاقته مع الخارج (خارج الحارة)، باعتباره مكاناً على هامش المدينة شبيها بشخوصه، كما نقل أدق تفاصيل هذه البيئة بشخصياتها وأنماطها وما يحيط بها من فقر وحرمان وطموح دائم في الخروج منها. بالتالي تأثير المكان وانعكاسه على طبيعة علاقة الشخصيات بعضها بعضا وكيفية تعاملها داخل المكان وخارجه.

وأي محاولة خروج من هذا العالم الذي تحكمه منظومة أخلاقية واجتماعية مختلفة تبوء بالفشل، وغالباً ما تترافق الخيبة بعواقب تجعل واقع الشخصيات أكثر سوءاً. بالمقابل يصعب على الدخيل التأقلم مع قوانين هذا المجتمع وإن كان لا يدينها بل ويبررها، لكنها تبقى مختلفة عنه.

على طول الأيام

في مستوى آخر وضمن إطار علاقة الشخصيات بالمكان المحيط، يأتي عمل المخرج حاتم علي الذي بدأ شارته بأغنية للشام وأخذ اسمه منها فكان «على طول الأيام» لكاتبه فادي قوشقجي. يعرض من خلاله شخصيات متعددة مثل: (المثقفين من الطلبة وخريجي الجامعات، الأثرياء من أصحاب الشركات والمشاريع، المرحين والطيبين، أصحاب الشخصيات المتوازنة والهشة...) تجمعهم شبكة من الصلات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية الحميمة التي تتصارع مع عالم المال فيشوهها. واللافت هو طبيعة العلاقة بين الأصدقاء وحبهم للشام، والمستوى الحضاري الفكري والاجتماعي والأخلاقي المسيطر على علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين. لكن الكاتب وصف الشام على لسان إحدى الشخصيات بالأم القاسية على أبنائها مما دفعه للهجرة إلى كندا، وإن كانت أكثر قسوة فهي بمنزلة زوجة الأب، فهل تقسو دمشق على أبنائها حقاً؟ أم هي قسوة شريحة مسيطرة تشوه العلاقات الإنسانية التي تميز مدينة دمشق؟

وعلى الرغم من وجود لغة متكلفة بعض الشيء بين الشخصيات بعيدة عن الحوار الحياتي اليومي ومثاليات ونظريات مطروحة، فقد استطاع المخرج حاتم علي جذب المشاهد بأسلوبه الإخراجي وحلوله البصرية التلفزيونية التي اعتمدت دوماً مضمون العمل وحققت وظيفتها الفكرية والجمالية، كأن يستخدم صفحات الروزنامة تعبيراً عن مرور الأيام. كذلك تقسيم الشاشة لنرى في الوقت ذاته ردود الفعل لأكثر من شخصية، ورصد الأحداث أو عرض شوارع دمشق بما يتناسب مع المشهد والحوار.

أسلوب حاتم علي وخياراته وحلوله تجعل العمل أكثر واقعية مع الحفاظ على العنصر الجمالي، وهذا ما افتقر إليه المخرج الجديد زهير قنوع في عمله الأول « وشاء الهوى» مستحدثاً مشهدية بصرية تبعد العمل عن واقعيته وعن المتفرج، لدرجة يظن فيها المشاهد أنه يستمع إلى مسلسل إذاعي وليس تلفزيونيًا، فالمخرج له ولع بالأشياء أكثر من الشخوص كأن يحتل الكرسي أو الطاولة... المساحة الأهم من الكادر، أو أن نسمع حواراً حميمياً طويلاً لا نرى فيه وجه الممثل بل رأسه إلى الأعلى.

وإن كانت السينما طموح أغلب مخرجي التلفزيون فهل يبرر ذلك أساليب يعتقدون أنها سينمائية وحلولاً إخراجية لا تصلح للشاشة الصغيرة، متجاهلين أنها مختلفة تماماً عن السينما، لكل تقنياته ومفرداته وحلوله.

على الرغم من ذلك فقد استطاع العمل لكاتبته يم مشهدي جذب المشاهد لواقعية حواره وقرب شخصياته ولغتها وعلاقاتهم من حياتنا اليومية ومن الشباب وإشكالياتهم التي طرحت بجرأة ومباشرة. فالحياة أيام الدراسة تبدو أكثر بساطة على الرغم من صعوبتها أحياناً، لكن الحياة العملية أكثر قسوة بحيث تغير الشخصيات ومصائرها وتجعلها أكثر تعقيداً مع الزمن، بهدوء دون وجود حدث جلد بل عن طريق التراكم.

تراجع تاريخي

وقياساً لعدد الأعمال الدرامية المنجزة هذا العام، حظي العمل الاجتماعي بالحضور الأكبر، خصوصا مع تراجع سوية الأعمال التاريخية وابتعاد المشاهد عنها منذ زمن، باستثناء ماتميز منها في السنوات الماضية، تحديدا أعمال الكاتب د.وليد سيف والمخرج حاتم علي. وبسبب غياب تعاونهما هذه السنة لم نشهد عملاً تاريخيا سوريًا قادرا على جذب المتلقي سواء على صعيد النص أو الاخراج، وخالياً من أخطاء الديكور أو الأكسسوار أو الملابس التي لاتتناسب أحيانا مع المرحلة.

وإن كان حضور العمل التاريخي قد تقلص إلى هذا الحد فما هو حال الفانتازيا التاريخية التي شكلت في مرحلة سابقة تيارا جديدا مختلفا، برع في تقديمه المخرج نجدت أنزور، وأضاف إليه هذا العام عملا آخر اسمه «المحروس»، إلا أن هذا النوع لم يعد مرضياً للمشاهد سواء على الصعيد الفكري أو الفني، لمباشرته والتفافه في طرح أي مقاربة سياسية للمجتمع الحالي.

أما ما يتعلق بالتاريخ القريب إن صحت التسمية، فيأتي مسلسل «باب الحارة» للمخرج بسام الملا ضمن السلسلة ذاتها (أيام شامية، الخوالي، ليالي الصالحية...) وإن كان «أيام شامية» أكثرها جودة وعمقاً على صعيد الشخصيات وعلاقاتها وواقعية الحدث، كذلك جاء أداء الممثلين بعيداً عن المبالغة التي اعتبرت سمة الأعمال اللاحقة. كما أن هذه الأعمال تشابهت من حيث الحكايات و الحبكات، في جميعها مثلا هناك شيء مفقود (شارب محمود في أيام شامية، الأمانة في ليالي الصالحية، ليرات الذهب في باب الحارة...) إضافة إلى الجانب النضالي من خلال الثورة على المحتل وتأمين السلاح والمال للثوار. أما العنصر السيئ فيعذبه ضميره دوماً وينتهي به الأمر إلى الاعتراف والتوبة. أما شخصيات «أيام شامية» (الحلاق،الزعيم، بائع الفول، المختار، وجهاء الحارة...) فقد تحولت من كونها شخصيات لها تفاصيلها وسماتها وعلاقاتها إلى أنماط في الأعمال الأخرى، مع الاحتفاظ بالخطوط العامة والسطحية مثل جلسات النساء ورقصهن وثرثرتهن، وشهامة وكرم الزعيم ووجهاء الحارة...

واللافت في الأعمال التي تلت «أيام شامية» هو كم المفاهيم المغلوطة والصورة المتخلفة والساذجة التي يتم تكريسها كل عام حول هذه البيئة التي كانت أكثر انفتاحا وتنورا في علاقاتها الاجتماعية تحديدا داخل العائلة الواحدة، أضف إلى ذلك علاقة الشخصيات مع خارج الحارة وهذا مايتم إغفاله دائما وكأن الحارة مجتمع معزول عمّا يحيطه من أحداث وتغيرات اجتماعية وسياسية... أما فنياً فهي تدور في الفلك ذاته والأدوات دون جديد، بل على العكس مع تراجع الاهتمام بتفاصيل المكان والإكسسوار والملابس، فالمكان مثلا في «باب الحارة» كان واضحا وبشدة، أنه استديو حتى للمتفرج العادي الذي يرغب أن يرى في هذه الأعمال مصداقية عالية تصور موروثه وتفاصيل بيئته شكلا ومضموناً.

كوميديا سوداء

على الرغم من توق المشاهد إلى الأعمال الكوميدية فإنها في تراجع مستمر، والسبب هو غياب النصوص الجيدة منذ سنوات، فما يظهر عبارة عن أعمال متشابهة ومستنسخة عن أخرى سبقتها مثل «بقعة ضوء،عالمكشوف...» كذلك «مرايا» الذي يكرر نفسه كل عام.

تخطت هذه الأعمال الخطوط الحمراء في السابق قدر الإمكان، وعالجت بجرأة إشكاليات المواطن السوري تحديدا ومن ثم العربي، لذا تمتعت بخصوصية سورية لايُعنى بها المشاهد العربي. ومع التكرار بدأ بريق هذه المسلسلات يخبو، على الرغم من ذلك برزت بعض الأعمال هذه السنة تحت تسمية الكوميديا السوداء، مثل «مشاريع صغيرة» تأليف ممدوح حمادة، وإخراج مثنى صبح، عمل يصور معاناة أسرة كبيرة من الفقر الذي يجعل الأخ الأكبر يعمل ليعيل والدته وإخوته السبعة ليتخرجوا ويتزوجوا، ليكتشف أنه بلغ الأربعينيات وأن قطار العمر قد فاته، وخسر علاقته بالفتاة التي أراد الزواج بها، وانتهت قصته بالفشل بعد إخفاقات متكررة.

كذلك مسلسل «الوزير وسعادة حرمه» الذي حقق مشاهدة عالية نسبة إلى الأعمال الكوميدية المعروضة، من تأليف محمود الجعفوري، إخراج سامر برقاوي، وهو من بطولة: أيمن زيدان، رنا الأبيض، عبد المنعم عمايري...إلخ. يحكي المسلسل قصة عائلة متوسطة المستوى مكونة من الأب (حمدي) وهو محامٍ يمر بظروف مهنية صعبة نتيجة شرفه وأخلاقه، وزوجته( أمل) مدرسة الابتدائي وابنهما مجد، كذلك غسان وعليا ولدا حمدي من زوجته الأولى المتوفاة، إضافة إلى العديد من الشخصيات التي تشكل البانوراما الاجتماعية للأحداث من موظفين ومسئولين وآخرين على اختلاف طبائعهم ومصالحهم.ونتيجة ملابسات طريفة يتولى حمدي منصب الوزارة لتنقلب حياة الأسرة رأساً على عقب وتتبدل مواقف الناس تجاههم. وبينما يحاول الوزير محاربة الفساد المحيط به، ترتكب زوجته المتطلعة إلى محاكاة المجتمع المخملي مجموعة من التجاوزات تسبب جملة من الإرباكات. يتناول المسلسل بشكل طريف سلوك عائلة المسئول العربي وتحويل المنصب من جوهره كمسئولية إلى ميزات ومكتسبات شخصية.

أداة موجهة

أما «مرايا 2006» المكرر دوما، فقد حوّل جرأته وبدلاً من حديثه بلسان المواطن العادي بدأ يتحدث بلسان السلطة في بعض حلقاته، ويتبنى ذات الخطاب والطروحات، ويقدمها بطريقة ساذجة وسطحية، كأن يصور أمريكا أو إسرائيل شيطانا يرتدي معطفا جلديا وله عينان زرقاوان، يوسوس بين الإخوة أي لبنان وسورية ويقسم الأرض... وذلك في حوار مباشر وساذج. فهل بدأت مثل هذه الأعمال في طرح إشكاليات السلطة بدلاً من هموم المواطن؟

فقر إنتاجي

يصعب إحصاء ومتابعة جميع الأعمال المنتجة لهذا العام، لكن يسهل ملاحظة الفقر الإنتاجي في أغلبها وهو أمر لم نعهده في الدراما السورية سابقاً ، فكانت المسلسلات فقيرة في تفاصيلها (الديكور، الاكسسوار،الأزياء...)مما أثر في مصداقيتها. وكأن ذهنية الاستسهال والربح السريع بدأت تسيطر على شركات الإنتاج، وبدلاً من إنتاج عملين بسوية جيدة أصبحت الشركات المنتجة تنتج أربعة بنفس الميزانية والتلفزيون من وجهة نظرهم يستهلك، أما المتفرج فهو أقل ذكاءً من أن يلاحظ هذا الفقر. فهل يعتمدون آلية التفكير هذه في تطوير الدراما السورية والحفاظ على استمراريتها؟

اختراق مصري

لم تتحول الدراما السورية حتى الآن إلى صناعة مع أنها تملك المقومات اللازمة لذلك، والكوادر المبدعة التي أثبتت تفوقها وحضورها محليا وعربياً، من مخرجين وممثلين مثل حاتم علي، أيمن زيدان جمال سليمان... ورغبة البلدان الأخرى مثل السعودية ومصر في استقطابهم لإخراج بعض الأعمال الدرامية، أو المشاركة في التمثيل، وخير مثال هو مشاركة النجم جمال سليمان في بطولة المسلسل المصري «حدائق الشيطان»الذي مثل فيه دور الصعيدي، وتخوف كثيرون قبل العرض من صعوبة الشخصية واللهجة الصعيدية التي لايتقنها بعض المصريين أحيانا، لكن جمال سليمان أقدم على التحدي وأثبت براعته في أداء الشخصية وإتقان اللهجة. ويبقى السؤال: لو لم يشارك جمال سليمان في العمل هل كان سيحقق هذا النجاح والمشاهدة العالية؟

يرى البعض أن استقطاب مخرجي وممثلي الدراما السورية إلى مصر، مخطط مدروس لإفراغ الدراما السورية من كوادرها، والعمل على تراجعها عن طريق تغييب هذه المواهب عن الدراما السورية، والظهور في أخرى لاتعنيهم ولن تحقق لهم أي مكسب إضافي على مستوى الحضور أو الخبرة سوى كسب الساحة المصرية التي لم تكن معنية سابقا بشكل أو بآخر إلا بالإنتاج المحلي. أضف إلى ذلك الأجر المادي المرتفع الذي يتمتع به النجم المصري والذي لايقارن بأجر النجم السوري.كذلك الاستفادة من الفورة الإعلامية المتوفرة في مصر.

من جهة أخرى يعتبر البعض أن ما يحدث هو اختراق سوري للدراما المصرية.

وربما كان السبب الحقيقي في جذب الكوادر السورية هو الاستفادة القصوى من هذه الطاقات لإعادة ألق الدراما المصرية، وجمهورها، ورءوس الأموال المنتجة، وتحقيق فرص تسويقية أكبر للفضائيات العربية. ويبقى الحكم النهائي للمشاهد الذي ينتقي ويختار، كلٌ حسب توجهه وثقافته وذائقته الفكرية والفنية التي يجب ألا نستهين بها ونمعن في تشويهها.

 

ليلاس حتاحت 





من مسلسل «باب الحارة»





من مسلسل «نزار قباني»