امرأة السيد

امرأة السيد

قدمت امرأة السيد لكي تقطن في شارعنا ذات يوم صيفي.

أرملة سائق مات في سن الشباب، سحقته سيارة أجرة على طرف الطريق ذات فجر نحو الوادي البارد. قدمت وبناتها الثلاث وابنها الوحيد للإقامة في مسكن قديم يجاور مسكن صانع الأحذية.

في البداية لم نعر بناتها أي أهمية. كنّ صغيرات وجميلات، مثلها. حينما يرحن حاملات سطول المياه التي ملأنها من الصنبور العمومي، ويمضين أمام المقهى الصغير، يتوقف بعض الصبية العابثين عن لعب الكارت، وعن مشاجراتهم للنظر إليهن، كن فاتنات.

ذات مرة، أطلق المنفي، الغريب الوحيد الذي يكشط دائمًا حوائط المدينة القديمة ويمشي عاقدًا يديه خلف ظهره والسيجارة في فمه، ضحكة قصيرة لما رأى بنات السيد وضفائرهن مبللة بالمياه. في الغد، حينما راح يجتر مرارة كونه سجينًا قديمًا على امتداد شارعنا الأبيض والأزرق، تلقته امرأة السيد وابنها بصمت ذي نظرة زرقاء كأنها حقل منير.

«اسمع يا منفي - هكذا قالت له - أنت لا تحترمنا. ابني صغير حتى يتكلم معك وزوجي متوفى. أنا امرأة أعرف أن أخفف غضبي. ألا تخجل مما فعلته؟ شيطان بائس مثلك يجب ألا يضحك على اليتامى. يجب أن تطرد من رأسك أي قصد خفي».

برأ المنفي نفسه بصوت خجول، أمام رواد المقهى المجتمعين: «لم أضحك على أي من أيتامك، لك احتراماتي أيتها المرأة. هذا ما اعتقده، ربما كن مرهقات. السطول ممتلئة... إذا وافقت سأذهب شخصيًا لجلب المياه لك من الصنبور. لا أعرف ما أفعله بيدي. أخدمك ياسيدتي!».

في الحقيقة، والحزن يملأ قلوب لاعبي الكارت، أخذ المنفي مكان بنات امرأة السيد في الشارع. كل يوم، يذهب لجلب المياه. سطلان في الصباح، آخران في منتصف النهار وأربعة قبل النوم. قبعت بنات امرأة السيد عند جارة تعلمهن الحياكة. كان الأمر طيبًا. من الآن فصاعدًا، يستطعن بمساعدة الأم المسكينة إعداد ملاءات الزواج لفتيات أخريات.

ذات يوم خريفي، جاء المنفي للجلوس في المقهى، وهو من لم يلجها من قبل أبدًا وطلب زجاجة كوكا كولا. التفت الجمع إليه. كان أنيق الملبس، يرتدي قميصًا أبيض وبنطالا أسود مكويين بعناية. كان حليق الذقن ومعطرًا. بالكاد أمكن التعرف إليه: يدخن سيجارة من نوع جيد. سألوه عما جرى. شرح والدموع تترقرق في عينيه أنه ربح القضية.

«هكذا! اتهمت بالخطأ! الآن، أنا حر. لست قاتلاً، هل تعرفون؟ عرف القضاة الحقيقة، وربحت القضية! هيا! هذا دوري». ويهدي الجميع مشروبات دفع ثمنها من ماله.

«أمي تريد رؤيتك» قال من دون أن يفتح فمه.

في الواقع، أثر هذا الصبي، ولد امرأة السيد، فينا، غير ثرثار، منعزل، صموت، مع ذلك وسيم بعينيه اللتين كما الحقل المنير. شكره سي عبدالقادر، اعتذر لنا وتبعه.. في الصيف التالي، احتفلنا في شارعنا بالعيد. من لم يغن ويرقص؟ خطب سي عبدالقادر كبرى بنات لمرأة السيد. يحكي الجميع عن هذه الخطبة السعيدة. وحتى أصبح الصباح، لم نزل نغني ونرقص.

مع الشتاء، أبحر سي عبدالقادر في قارب صيد. أغلبنا صيادون، والبحر يضمن حياتنا.

يعطينا الليل والنهار صدى ألحانه. علي، ابن امرأة السيد، طرد من المدرسة لتكرار غيابه، وانضم إلى صهره المستقبلي. كل صباح، يمضيان معًا بقصعة طعام «البسيسة»، ورأساهما ثقيلان من النعاس، والأعين شبه مغلقة. ظلت نظرة علي كما هي، كما الحقل المنير. يعمل كلاهما على قارب صيد اسمه «شفيق». على القارب، العمل شاق: «شبكة ملآنة، شبكة خالية». بالكاد، يمتلكان بعض الوقت لتناول «البسيسة» حتى يصيح الريس من الطابق الأعلى بصوته المألوف: «شبكة، شبكة»، ثم في برد الليل، هناك أسماك موحلة في الإناء الكبير. يجب أن ينتقيها نظير أجر ضعيف وبضع سمكات.

يوم العاصفة، نرى امرأة السيد تخطو المائة خطوة، الحجاب تحت ذراعها، على امتداد الرصيف. بعد ذاك، في ليلة قاسية مرعبة، جعلت ريح جنوبية - شرقية البحر هائجًا. ليست هذه أصواتًا مزبدة تحيطنا، لا، إنما هزيم الرعد، بعنف يحطم الحواجز وأعمدة الإنارة، يدحرج الأحجار في المقابر والقطط الميتة على الأسقف المغمورة بالمياه... يتأرجح القارب «شفيق» في قسوة. يأمر الريس بقطع أحبال الشبكة: «تعالوا إلى الأعلى!». يغلقون غرفة في الضفائر المبللة التي داعبتها الشمس. لقد لفحت الشمس الغرفة. تناول الرجل وجهه بين يديه محاولاً إخفاء بكائه. والنهار بقي وقت طويل على قدومه.

حينما زاد عنف ريحه الجنوبية - الشرقية، أصاب هذا النهار المعذب بعض سكان المدينة القديمة بالجنون. على أي حال، لا يستطيع أن يخدم أحدًا! قبل أن ينام، هناك ثمة انفراجة، في الغالب غير منتظرة. ومع ذلك، دمدم البحر بلا رنين: النساء، خاصة، اكتسحن صخور الشاطئ والرصيف الطويل. فاجأت العاصفة خمسة قوارب، ثلاثة نجحت في الوصول إلى الميناء، قارب رابع، كاب إفريقيا، لجأ إلى مدينة سوسة، بما أن البحر، نحو الجنوب، غير آمن. فقط، القارب «شفيق» كان ناقصًا.

قفزنا أعلى الصواري كي نرنو إلى عرض البحر. نأمل رؤية القارب يندفع شطر المدينة، لكننا لم نر شيئًا سوى مرتفعات مزبدة. حارس الفنار خرج بمنظاره، صعد إلى سطح القلعة العثمانية. كنا مسمرين أمام منظاره كطوافة إنقاذ. مضت ثلاث ساعات. أخيرًا، أشار حرس الفنار بإصبعه إلى ألواح خشبية: «أرى شيئا ما، لكنني لا أستطيع أن أقول إنه قارب!».

في الوقت نفسه، دارت الضجة عندما وجدنا، على كتلة من الطحالب، جسدين شبه هامدين للريس نصرالله ومساعده مصطفى الغول. «لنأخذهما إلى الحمام، ندلكهما وندعكهما بالعطور، إنهما باردان»، قلنا لأنفسنا. ثم سمعنا صرخات ممزقة. إنها امرأة السيد تنفث للحاضرين بالصراخ عن ألمها. جثت على حافة الخليج الصغير، حلت شعرها الأبيض وبعثرته «ماذا فعلت أيها البحر، ماذا فعلت؟ علي، يا صغيري... أريد علي، سيدي جابر، سوف أشعل شمعات في مزارك... سيدي فرج، اسمع ندائي، سأحيك راية بيضاء لك.. يا الله... يا الله.. لا تزد عذابي.. ابني! أريد أن أرى ابني!». لكن علي الوديع ظل قابعًا في بطن البحر القاسي، الهائج، الغاضب، الأكول، الغاضب.معه، غرق محمد الغول،علي محجوب، عمر طلبي وعبدالقادر جريدي، المنفي السابق.

منذ ذاك، نرى في كل صباح امرأة السيد تتجه نحو البحر مع سطل ملآن بالمياه. إذا سألناها: «أين تذهب؟»، تجيب: «ابني عائد من العمل، قدماه باردتان. أحمل له الماء الساخن. سأغسل قدمي صغيري». مسكينة امرأة السيد، هي ذي ثانية من دون رجال. ذات مرة، على مدى أيام الخميس، حينما تزور النساء موتاها، تطلق صرخات مؤلمة عندما تنظر إلى البحر وصخوره السوداء.

علمنا أن عمًا جاء يبحث عن الفتيات.توجه الجيران إليه، طالبين ألا يرحل بهن. حتى مالك المقهى أرسل عمته العجوز لكي يخطب الفتاة الكبرى، التي كانت خطيبة عبدالقادر: «أنا خطيبة البحر، أجابت على العجوز، لذا لا أستطيع الزواج من مالك المقهى للأبد...». إذن، يرحلن مع هذا العم نحو مدينة أخرى، حيث ولدن. يجب أن ترحل امرأة السيد أيضًا. لكن بعد أيام، رأيناها تمشي ببطء متجهة نحو البحر بسطلها. لم يطرح أحد عليها أي سؤال. يعلم الجميع أن السطل يحتوي على ماء ساخن كي تدعك قدمي علي ذي العينين كما الحقل المنير. صيادو الصباح يحيدون النظر عنها عندما يسمعونها تطلق صرخات قصيرة عند المياه الهادئة.

«يا للألم! يقولون. امرأة السيد بائسة!».

ذات يوم، لم يرها أحد.

سألوا عنها. هل رحلت لرؤية بناتها؟ لا، أجاب جبالي، الصياد ذو الوجه المنحوت من الليالي وحرارة البحر المريرة. لا! رأيتها ترتدي حجابًا. نادت ابنها الغريق، ثم اتجهت إلى البحر. نعم، بالتأكيد، مشت إليه صارخة في المياه حيث اختفت في البعيد، ناحية الجنوب شرق...».

عرفنا أن امرأة السيد موجودة في هذه البلدة الأخرى، ربما حيث توجد الجذور النارية للعاصفة، قرب أسماك المارو الضخمة، حتى تغني النوارس ببطء أغنية الغرقى والمفقودين.

هكذا، إذا حدث ورأيتم شيئا أبيض على صفحة المياه، لا تقولوا بسرعة إنه لوح خشبي بشراع، لأن هذا هو صيف العاطلين عن العمل... لذا تتجه امرأة السيد لنا ملتحفة بحجابها النظيف.

 

منصف غاشم