فتح ملف كوتشوك هانم

فتح ملف كوتشوك هانم

روايات وأقاصيص وفضائح يرويها المستشرقون الفرنسيون عن صعيد مصر في عصر الخديو عباس. فما نصيب ذلك كله من الحقيقة؟

في مؤلفه المشهور «الاستشراق» رأى المفكر الناقد إدوارد سعيد في الاستشراق نظرة محولة، مختلقة، مركزية للشرق «المغَربن»، أو الشرق المخترع بواسطة الغرب، حيث «الشرق شرق والغرب غرب»، وفق النزعة الذاتية المركزية الغربية.وقد رأى سعيد في «إرادة المعرفة» القائمة على «التمثيل» و«الإنشاء» نوعًا من الاستبناء الخطابي الذي يحوّل المعرفة إلى «إرادة - معرفة»، تعيد قراءة وكتابة «الظاهرة» وفقًا لمعايير الذات المركزية الغالبة - بالمعنى الخلدوني - والمتعالية.

فالاستشراق - حسب إدوارد هو أسلوب من الفكر، يقدم على تمييز أنطولوجي بين الشرق والغرب اعتمدته الدراسات الأكاديمية الغربية في إعادة تشكيل «الشرق» وتمثله وصياغته في إطار «علاقة - القوة» في مرحلة ما بعد الأنوار «عصر الأنوار»، وإعادة التشكيل هذه تدخل في إطارها النزوعات والتكوينات والتهويمات المنتجة من الذات عن العالم والتاريخ والآخرين، وتختلط فيها الحكاية بالمسارد الحكائية، في تشابك المخيلة بالتاريخ، والتاريخ بالسرد التاريخي «الروائي»، وشتان ما بين التاريخ «الواقعي» والسرد الروائي «الحكائي» القائم على «نزعات» تاريخية!

يعيد الدكتور فاروق سعد في كتابه «فتح ملف كوتشوك هانم» ما كان بدأه إدوارد سعيد في محاكماته للاستشراق، ولاسيما الأدب الاستشراقي ليفكك مزاعمه «التأريخية» المركزية، في حال «نموذجية» من حالاته هي «رواية» فلوبير لحكاية «كوتشوك هانم» المزعومة.

فما هي قصة كوتشوك هانم؟ وما هي قصة غوستاف فلوبير معها؟

«بتاريخ 27 مارس 1853 وجه الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير، وقد انقضت سنتان على عودته إلى فرنسا من رحلته إلى الشرق، رسالة إلى عشيقته الأديبة لويز كوليه تحدث فيها عن لقائه بالعالمة كوتشوك هانم في منزلها في «إسنا» في مصر، وما تخلل هذا اللقاء من أفعال فاضحة وفاحشة، منها رقصة التعرّي المعروفة باسم (رقصة النحلة)».

لا يقتصر موضوع المرأة الشرقية «الأخرى» عن كونه «موضوعًا للمقارنة مع المرأة - المركزية عند فلوبير حيث المرأة الشرقية برأيه خالية القلب، لا فرق عندها بين رجل وآخر، ولا هم لها إلا نرجيلة تدخنها، وحمام تختلف إليه، وكحل تكحل به عينيها، وقهوة تحتسيها. أما عن إحساسها بالمتعة الجسدية، فهذا أمر تافه بالنسبة إليها، وأكاد أعزو هذا إلى ختانها في سن مبكرة، (كذا) يتعدى ذلك إلى كونها موضوع «متعة» جمالية (إكزوتيكية) هوامية عند صديقة الشاعر بوييه قائمة على الاستحياء الشعري.

وتشبه «رواية» فلوبير - ورسائله لصديقته (...) وصديقه الشاعر - عن حكاية «مطابقة» كتبها أديب آخر اسمه لويس باسكال حول رحلته إلى الشرق بعد سنوات من رحلة فلوبير في كتابه «المركب - رحلة إلى الشرق» حيث يجد، على زعمه، في العنوان امرأة أخرى تدعى «حسنة» أو «حسنة الطويلة» اللينة العريكة «التي وصفها فلوبير في رسالته إلى لوي بوييه بتاريخ 3 يونيو 1850 بـ«الخنزيرة البدينة»، وذكر أنه التقاها في قنا حيث أغرمت به - بعد أن أوقعته - مرارًا «فيما يذكر فلوبير أنه التقاها في إسنا!

ولا يعني نقد عقلية الاستشراق عدم وجود «العالمات» في مصر، مثل أي بلد آخر في العالم، لكن ما ينتقده الكتاب هو تحويل هذا «الموضوع» إلى «قيمة» استعراضية - مشهدية واستعلائية، من الوجهة النفسانية - الحضارية.

وقد يكفي استعراض «الوقائع» الأدبية، و«الأسماء» والأحداث لكشف لعبة الاستشراق الاستعراضي.

من رحلة صديقة فلوبير كوليه إلى مصر، وكتابها «البلاد المنورة» حيث لم تجد، حقًا، لا كوتشوك ولا حسنة، لا في «قنا» ولا في «إسنا»؟! وحتى أسماء العلم المتضاربة والمتناقضة والمتكوثرة للشخصية الواحدة «كوتشوك أرنيم «آخر الهوانم»، وكوتشوك هانم «دوكان» و«روتشيوك هانم» «فلوبير». سواء أكان الاسم «روشيوك هانم» أو «كوتشوك هانم»، فقد ورد بأشكال مختلفة: Kuchik, Kuchouk, Rouchiouk, Kouchiouk, Ruchiouk, Kuchuik, Kuchiouk - Hanem otc

لماذا لا يكون الاسم والحال هذه - يتساءل المؤلف - تحويرًا لتسمية عربية هي رشيقة هانم، وقد نطقه فلوبير بعبارة Rouchiouk بدلاً من «رشيقة»، ولماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟

ويرى المؤلف - في خلاصة التحليل أن جيرار دي نيرفال في فقرة من كتابه «رحلة إلى الشرق» يتحدث فيها عن جُلاب الجواري وأماكن بيعهن، حيث يذكر كلمة كوتشوك كوصف بمعنى «الصغير» للمكان الذي تباع فيه الجواري، وليس اسم جارية أو امرأة، ولا يستبعد المؤلف د. سعد أن يكون الأرجح هو أن المصور الفوتوغرافي «دون كان» وفلوبير قد اطلعا على هذا الفصل في الكتاب المنشور قبل رحلتهما إلى الشرق، وبما أن صفة Kouchouk وارتباطها بالجواري اللاتي يتاجر بهن في المكان الذي يحمل هذه الصفة، فقد ارتسمت - على ما يبدو - هذه التسمية، أو الصفة في ذاكرتهما؟!

ويذهب المؤلف إلى المعاجم للاطلاع على «منطق التسمية»، فيجد أن عبارة Kocek التركية، هي الأقرب إلى اللفظة المذكورة، وهي تعني بالتركية ببساطة السيدة الصغيرة، أو الأقرب إلى الذهن أيضًا Kocek Hanem، فتعني «الراقص المخنّث»!

هل يقتصر «الفتح الغربي» الاستشراقي على الإثارة الإباحية والهلوسة الشبقية؟ أم أنه ثمة غاية ما وراء الأكمة؟ النتيجة الكبرى الكامنة وراء التفاصيل الصغرى يجدها المؤلف في محاولة التشهير والنيل من الخديو عباس باشا حاكم مصر في الفترة الواقعة ما بين 1848 - 1854، حفيد محمد علي باشا الكبير.

وقد تعرض فلوبير، والحال هذه، إلى كوتشوك هانم، وإلى «صفية» ليس بوصف كل منهما «عالمة» أو «غزية» أو الاثنتين معًا، فحسب، وإنما بوصفهما محظيتين لحاكم مصر. وقد زُعم أن عباس باشا قد عثر على «صفية» العتيدة في سوق شعبي في مدينة طنطا وجعلها محظية لفترة من الوقت ثم نسيها! إلى أن اكتشف وجود نرجيلة كان قد أهداها لها في حيازة أحد ضباطه، وسرعان ما أمر بالقبض عليها حتى إذا أحضرت إليه أمر بجلدها - مع الحكم المخفف لأنها باعت النرجيلة بسبب الفقر والفاقة - بخمسمائة جلدة بالسوط! ومن ثم نُفيت إلى إسنا. وصاحبانا فلوبير ودوكان لم يكتفيا بأن يخلطا بين كوتشوك هانم وصفية، بل أسرفا في «جلد» النساء المصريات وقتلهن بوسائل وطرق «استشراقية» مشهدية - دون أن يلزمنا هذا بالدفاع عن منظومة الحريم الشرقية البطريركية - كإغراقهن بصورة «احتفالية» في اليَم...!

وفي كتابه «رحلة إلى الشرق» يلاحظ جيرار دي نيرفال أنه من النادر أن يطرد السيد إحدى جواريه دون تدبير معاشها، فإذا تخلى عنها أعتقها ووفر لها ما تستعين به على حياتها أو زوّجها من شخص يثق به أو «أهداها» لأحد أصدقائه؟!

عباس المفترى عليه

لماذا النيل من عباس باشا، وهتك صورته و«عرضه»؟ الثابت أن السياسة التي اعتمدها عباس الأول، لم تُرض الدول الأجنبية باستقلاليتها، وتقشفها المالي، وبروتوكوليتها الوطنية. فقد ألغى عباس ضريبة الفرد - وهي ضريبة تفرض على الأفراد من الرجال والنساء والأطفال - بعد أن عذّبت المصريين مدة طويلة. كما ألغى نظام التزام الأراضي، مما أدى إلى إعادة سبع المساحة المزروعة في مصر إلى صغار الفلاحين، الذين أصبحوا يتمتعون بحرية بيع محاصيلهم كما يشاءون، ولم يعد الفلاحون مجبرين على «السخرة»، بل أصبح في الإمكان أن يختار الفلاح بين تسليم المحصول أو بيعه لمن يريد.

وشهد عهد عباس تقدمًا من ناحية الإدارة وتنظيم الميزانية لم يُعرف في عهد محمد علي باشا.

وكان يجول في خاطره ما جال في خاطر عمه إبراهيم باشا من الاستقلال وإقامة «إمبراطورية عربية» على هامش «المسألة الشرقية»، والأخير أجاب حين جرى تذكيره بأصله الألباني قائلاً:

«نعم أنا ألباني ولكن لوحتني شمس العروبة!». وتشهد إصلاحات عباس باشا وأقواله شهادة علنية على معارضته للعوائل الإفرنجية إذ نهى مماليكه وجنوده عن تدخين السيجار والسجائر. ولقد دفعته روح الاستقلال إلى استعادة الزي العربي ببهائه وبساطته الطريفة، واقتدى به المماليك، فارتدوا جلابيب حريرية مطرزة وكوفيات موشاة بالذهب، كان يرتفع ثمن عقالها إلى 600 قرش، وعاد الزي الشرقي إلى أناقته النبيلة الجميلة. ويذكر عبدالله النديم أن عباس أوفد بعثات علمية إلى ألمانيا والنمسا، وليس إلى فرنسا «لئلا تفسد أخلاقهم بكثرة الملاهي ولا يجتهدون في تحصيل العلم». وقد وضع عباس باشا حدًا لسرقات الآثار المصرية القديمة، واشترط على المنقبين الأجانب أن يسلموا كل المكتشفات إلى المسئولين في مصر، وأن يعيّن خمسة حراس في كل موقع من مواقع الحفر للإشراف على العمليات.

بعيدًا عن التدخل

ويقول عبدالرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل». «إن لعباس ميزة يجب أن يذكرها له التاريخ وهي أنه لم يفتح على مصر أبواب التدخل الأجنبي، فلم يمكّن للأجانب في البلاد ولم يمد يده إلى الاستدانة منهم، بل ترك خزانة مصر حرة من أغلال الديون الأجنبية التي كبلها بها خلفاؤه من بعده، وكان يجتهد دائمًا في سد عجز الميزانية دون أن يلجأ إلى القرض». عصر إسماعيل - ص 26 - 27 (كوتشوك هانم - ص 117).

وقد شُنت حملات شديدة على الخديو عباس من قبل الكتّاب الغربيين فوصفه أوجين بواتو في كتابه «شتاء في مصر» المنشور سنة 1860 بالغباء «لأنه استغنى عن خدمات الأوربيين». ص 120 (كوتشوك هانم). وكتب غبريال هانوتو في كتابه «تاريخ الأمة المصرية» (1801 - 1882) أن عباس الأول اتصف بكراهيته الشديدة للأوربيين والحضارة الغربية. وذكر قوله في جده محمد علي «أنه لم يكن حاكمًا مطلقًا على مصر، وإنما في حقيقة الأمر كان عبدًا للقناصل» (ص 121، كوتشوك هانم).

وقد بادروا إلى التشهير بسمعته الأخلاقية إلى درجة الحط من شرفه والطعن بعرضه، فأتوا من عالم الخيال بعشرات العالمات والغوازي والعاهرات بأسماء متنوعة، وزعموا أنهن كن زوجات أو محظيات له، ووزعوهن في أرجاء عدة من مدن مصر العليا وخاصة إسنا وقنا. بل ذهب بعض الرحالة إلى حد الزعم بأن عباسًا أغرقهن في اليم!

والجدير بالذكر أن الإعلان الدستوري الذي أصدره مجلس قيادة الثورة المصري في 18 يونيو سنة 1952، قد استثنى محمد علي وإبراهيم باشا وعباس باشا من حملته على أسرة محمد علي. وقد جاء في الإعلان أن تاريخ أسرة محمد علي في مصر كان سلسلة من الخيانات التي ارتكبت في مصر في حق هذا الشعب وأن أولى هذه الخيانات إغراق إسماعيل البلاد في ديون عرضت سمعتها وماليتها للخراب ... إلخ (ص 117 كوتشوك هانم). وهناك سياسات فرنسية - وما أشبه الأمس باليوم - هي التي تركت أثرًا غير حميد في نفوس الأمراء ضد فرنسا. ففي موقعة «نافارين» عندما تألبت أساطيل فرنسا وروسيا وإنجلترا على العمارة التركية المصرية، وقبيل أن تفتح النار ظلمًا وعدوانًا، انسحب الضباط البحريون الفرنسيون الملحقون بخدمة الأسطول المصري، وتخلوا عن مناصبهم في أحرج الأوقات وأدقها بالنسبة إلى مصر.

هذا والأرجح كما يلاحظ المؤلف أن وفاة عباس باشا في 14 يوليو1854 كانت «غيلة».

ولم يتردد جورج تانج الإنجليزي الحاقد على عباس باشا في كتابه «تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية عباس»، في التشكيك في الرواية التي زعمت بأن عباسًا قد مات مريضًا بـ«ضربة شمس»، وأردف على هذه «الرواية» معقبًا: «إن الضربة لم تكن ضربة شمس، وإنما كانت ضربة حراسه أنفسهم».

 

جميل قاسم 





الكاتب الفرنسي المعروف غوستان فلوبير





كوتشوك هانم كما رسمها الفنان الفرنسي جيرار





لويز كوليه صديقة الكاتب جوستان فلوبير





عباس باشا الأول