عسكرة الأمم المتحدة هيثم الكيلاني

حيال ما يختزنه العالم من عوامل وأسباب للقلق، يبرز السؤال عن دور الأمم المتحدة الفاعل والعادل في الأوقات الحرجة وهنا يأتي مفهوم عسكرة الأمم المتحدة كخطة جديرة بالبحث وبالتفكير. وهذا المقال يعود بنا إلى أصول الموضوع، ويتتبعه حتى آفاقه.

ثمة إحصائية نشرتها الأمم المتحدة في منتصف العام الحالي 1992، تقول إن المنظمة الدولية منذ نشأتها في العام 1945 حتى 1987، أي خلال 42 عاما، لم تؤد سوى 13 عملية لحفظ السلام، في حين أنها في المدة من 1988 حتى منتصف 1992، أي خلال أربعة أعوام ونصف العام، أدت الكمية نفسها من العمليات، أي 13 عملية لحفظ السلام. وتجذب هذه الإحصائية الانتباه، وتطرح تساؤلا: ترى، هل اشتعلت نيران الحروب والصراعات المسلحة في السنوات القليلة الأخيرة بالكمية نفسها التي اشتعلت بها في أكثر من أربعين عاما ، أم أن الأمم المتحدة، وقد ملت الحروب وخافت سوء المصير للعالم كله، في هذه السنوات الأربع الأخيرة، قد عسكرت نفسها، وانتضت سيفها، واعتمرت كمتها (البيريه) الزرقاء، وامتطت صهوة جوادها، لتجوب الأرض وتقاتل المعتدين وتنصر المظلومين وتطفئ نيران الحروب؟

تأثير الحرب الباردة

تنير الإحصائية نفسها بعض جوانب هذا التساؤل، حين تضيف أن العالم شهد منذ العام 1945 حتى اليوم، أكثر من مائه نزاع مسلح كبير، راح ضحيتها حوالي عشرين مليون إنسان ، وأن الأمم المتحدة عجزت عن معالجة معظم هذه النزاعات بسبب استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الذي تعرضت قراراته للنقض 279 مرة، في حين أنه منذ أن انتهت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ( السابق ) لم يشهد مجلس الأمن أي نقض لقراراته.

لعل الأمر يتطلب منا أن نعود - بعرض سريع - إلى أصول العسكرة في الأمم المتحدة ، بخاصة في ميثاقها، وفي بعض تجاربها التي عاشتها، ثم نلجأ إلى التطلع إلى المستقبل مستعينين بالاجتهاد وحساب الاحتمالات.

في الأصول

"حفظ السلم والأمن الدوليين" كلمات أربع تشكل المقصد الأول في المادة من ميثاق الأمم المتحدة. ومن أجل بلوغ هذا المقصد، كلف الميثاق الأمم المتحدة، في المادة نفسها، بان "تقمع أعمال العدوان وغيرها من الأعمال التي تخل بالسلام". وهكذا ، في الأسطر الثلاثة الأولى من الميثاق، أباح قادة دول العالم كله لمنظمتهم أن تعسكر نفسها وأن تقاتل لصون السلم ونشر الأمن ونصرة المظلوم.

وحتى يسود السلم والأمن أرجاء العالم، أوجب الميثاق على جميع الدول أن تمتنع عن استعمال القوة في علاقاتها، وأن تفض منازعاتها بالوسائل السلمية. فإذا ما فشلت هذه الوسائل. فللمنظمة الدولية أن تقمع العدوان بتدابير عسكرية وغير عسكرية.

ومجلس الأمن هو الأداة التنفيذية للأمم المتحدة من أجل صيانة السلم والأمن الدوليين. وفيه تتجلى امتيازات الدول الخمس دائمة العضوية فيه. امتيازات الدول الخمس دائمة العضوية فيه. وتتعهد جميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بقبول قرارات المجلس وتنفيذها (المادة 25).

وحتى يتمكن المجلس من ممارسة صلاحياته القمعية (أي العسكرية)، وضع الميثاق تحت تصرف المجلس "لجنة أركان الحرب" (المادة 47) المؤلفة من رؤساء أركان الدول الخمسة دائمة العضوية - مهمة هذه اللجنة أن تسدي المشورة إلى المجلس في جميع المسائل والشئون والحاجات الحربية، وفي استخدام القوات الموضوعة تحت تصرفه، وفي قيادتها، وفي التوجيه الاستراتيجي للعمليات الحربية.

غير أن هذه اللجنة، لم تستطع أن تعيش أكثر من عامين في مطلع حياتها، ثم انتهت إلى زوال. فقد بدأت لجنة أركان الحرب هذه أعمالها في العام 1946 بقرار من المجلس خولها أن "تبحث من وجهة النظر العسكرية، أحكام المادة 43 من الميثاق، وتعرض دراساتها وتوصياتها على المجلس".

وتنص المادة 43 على أن جميع أعضاء الأمم المتحدة يتعهدون "في سبيل الإسهام في حفظ السلم والأمن الدوليين، أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه وطبقا لاتفاقات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين". وتحدد تلك الاتفاقات عدد هذه القوات وأنواعها ومدى استعدادها وأماكن وجودها ونوع التسهيلات والمساعدات التي تقدم.

وتأسيسا على هذه المادة، قدمت اللجنة إلى مجلس الأمن في العام 1947 تقريرين عن مبادئ تشكيل قوات عسكرية تابعة للأمم المتحدة، وعن اشتراك الدول الأعضاء فيها - غير أن اللجنة لم تستطع أن تثابر على عملها للاختلاف الواسع بين وجهتي نظر الطرفين الأمريكي والسوفييتي حول تفسير المادة 43 وكيفية تطبيقها. فقد طرح الاتحاد السوفيتي "مبدأ المساواة"، بمعنى ألا تساهم أية دولة عظمى بعدد أكبر من غيرها، سواء من ناحية الجنود أو الأسلحة أو المعدات، وإلا أدى الأمر إلى حصول بعض الدول العظمى على امتيازات، مما قد يؤدي إلى استعمال هذه القوات لخدمة مصالح الدول ذات القوات الأكبر على حساب المصالح المشروعة لغيرها من الدول. وأبدت الدول الأربع الأخرى، الولايات المتحدة وانكلترا وفرنسا والصين (فورموزا) رأيا مختلفا، مفاده أن تساهم كل دولة بأحسن ما لديها وحسب قدرتها، وأن بالإمكان إيجاد نوع من التكافؤ المناسب بين القوات من دون المساس بمصالح سائر الدول. وإلى جانب ذلك شهدت اللجنة اختلافا حول أماكن مرابطة القوات. فقد رفض الاتحاد السوفييتي مرابطة قوات دولة في أراضي دولة أخرى في حالة السلم. بينما أصرت الدول الأربع الأخرى على مرابطتها في أماكن يتفق عليها ليسهل استخدامها عند الحاجة فورا. لقد أنهت هذه الخلافات وجود اللجنة، حينما أخطرت اللجنة نفسها مجلس الأمن في شهر تموز (يوليو) 1948 بأنها غير قادرة على العمل. ولا تزال اللجنة منحلة بقوة الواقع حتى اليوم.

التدابير العسكرية

قبل أن يباشر المجلس أعماله الحربية، طلب الميثاق منه أن يستخدم الوسائل السلمية في حل النزاعات (الفصل السادس، وفيه المواد من 33 حتى 38 ). فإذا فشلت هذه الوسائل، ورأى المجلس أن نزاعا ما قد أصبح يهدد السلم أو يخل به، أو أن ما وقع هو عمل عدواني، جاز للمجلس أن يتخذ تدابير عسكرية وغير عسكرية تهدف إلى "حفظ السلم والأمن الدوليين أو إعادته إلى نصابه". وهذا هو مضمون الفصل السابع من الميثاق (المواد من 39 حتى 51).

وإذا رأى المجلس أن التدابير غير العسكرية لم تحقق الغرض المطلوب منها، جاز له أن يأمر بتنفيذ عمليات حربية، بقوات عسكرية (برية وجوية وبحرية) حدد الميثاق مصادرها، وهي: القوات التي تضعها جميع الدول تحت تصرف مجلس الأمن (إعادة 43)، ووحدات جوية تخصصها الدول باسم مجلس الأمن (يمكن استخدامها فورا لأعمال القمع الدولية المشتركة" (المادة 45).

هذه هي أسس نظام الأمن الجماعي الذي أقامه الميثاق للأمن الدولي وحفظه. ولكن أهم هذه الأسس تعرضت للاهتزاز والتغييب. فقد طويت "لجنة أركان الحرب"، ولم تضع أية دولة تحت تصرف المجلس قوة مسلحة يملك المجلس حق توجيهها إلى الموقع الذي يحدده، ويرجها في عملية حربية قرر إجراءها. ولم تعقد أية دولة مع المجلس اتفاقية بهذا الشأن.

وكل ما استطاع عمله مجلس الأمن منذ العام 1945 حتى اليوم ، في مجال تشكيل القوات المسلحة، هو حيازته قوات رمزية، وضعتها بعض الدول تحت تصرفه، واستخدمها المجلس في عمليات المراقبة، أو فصل القوات المتنازعة عن بعضها البعض، أو تثبيت وقف إطلاق النار، أو أعمال الإنقاذ والإغاثة. وهي قوات غير مجهزة بأسلحة هجومية أو دفاعية ثقيلة. وإنما يحمل أفرادها أسلحة فردية للدفاع عن النفس. ولقد أطلق على هذه القوات تعبير "قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام". وحملت كل قوة اسما معينا ارتبط بنوع المهمة ومكانها وهذه هي العمليات التي أشرنا إليها في مطلع المقالة، والتي بلغ عددها حتى اليوم 26 عملية طوال 47 عاما.

في التجربة

وهكذا لم تسمح الحرب الباردة للأمم المتحدة بأن تمتلك قوات مسلحة، مزودة بمختلف أنواع الأسلحة الهجومية والدفاعية، ولا أن تنشئ قيادة خاصة بها، تأتمر يأمرها وحدها سياسيا وعسكريا، وتحمل علمها وتجارب من أجل أهداف تحددها خطط العمليات التي تضعها القيادة العسكرية الدولية. ولأنها لم تستطع أن تفعل ذلك طوال عمرها، فقد برزت صيغتان - حتى اليوم - للعمل العسكري الدولي، تجسدتا في تجربتين، هما: الحرب الكورية (1950 - 1953)، وحرب تحرير الكويت (1990- 1991).

بدأت الحرب الكورية في منتصف العام 1950، حينما غزت كوريا الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفييتي كوريا الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة. فهرعت واشنطن إلى مجلس الأمن لتستصدر منه ثلاثة قرارات: أولها يطلب من كوريا الشمالية أن تسحب قواتها إلى ما وراء خط العرض 38، وثانيها يعتبر الهجوم الشمالي انتهاكا للسلم والأمن الدوليين، ويطلب من الدول أن تقدم إلى كوريا الجنوبية كل مساعدة "لرد المهاجمين". أما القرار الثالث فقد أوصى الدول التي قدمت قوات عسكرية أن تضعها تحت تصرف القيادة الموحدة التي أنشأتها الولايات المتحدة في كوريا لقيادة العمليات. وطلب المجلس من واشنطن أن تعين قائدا عاما لهذه القوات، وفوض القيادة العامة الموحدة أن تقاتل تحت علم الأمم المتحدة.

لم يكن لمجلس الأمن أن يتخذ هذه القرارات، لو أن الاتحاد السوفييتي كان حاضرا جلسات المجالس، فحق النقض كان سيجهضها. ولكن تصادف، آنذاك، أن الاتحاد السوفييتي كان مقاطعا جلسات المجلس، احتجاجا على رفض الولايات المتحدة أن تحتل الصين الشعبية المقعد الدائم الذي تحتله الصين الوطنية.

قدمت 16 دولة قوات مسلحة، منها ربع مليون جندي من الولايات المتحدة، وحوالي 30 ألف جندي آخر من سائر الدول الأخرى. واستمر القتال سجالا وعنيفا. ثم وجدت الدول المساهمة في القتال ضرورة لإنهاء الحرب، بعد أن اقترح القائد العام للقوات الجنرال الأمريكي ماك آرثر هجوما نوريا على الصين. وهكذا توقف القتال في العام 1953. ولكن علم الأمم المتحدة لا يزال مرفرعا حتى اليوم، يظلل قوات أمريكية رمزية عند خط العرض 38. ولم يستطع الاتحاد السوفييتي السابق أن يستصدر من مجلس الأمن قرارا ينهي وجود هذه القوات، فالنقض الأمريكي كان بالمرصاد.

هذا عن الامتحان الأول. أما الامتحان الثاني فقد كان ميدانه الجناح الشرقي من الوطن العربي، حين غزا العراق دولة الكويت. فاتخذ مجلس الأمن بدءا من يوم 2/ 8/ 1990 مجموعة من القرارات، أولها (القرار 660) أن يسحب العراق قواته من الكويت فورا وبدون شرط أو قيد، وسائرها يفرض جزاءات غير عسكرية على العراق. ولما لم تجد هذه القرارات - وعددها 11 - نفعا، ولم يسحب العراق قواته من الكويت، أذن المجلس للدول المتعاونة مع الكويت بأن تستخدم جميع الوسائل اللازمة لتحقيق انسحاب القوات العراقية من الكويت وإعادة السلم والأمن الدوليين في نصابهما في المنطقة (القرار 678 بتاريخ 29/ 1990/11). هكذا تشكل التحالف الدولي، وقاتلت قواته المسلحة، دون أن ترفع علم الأمم المتحدة، حتى إذا أدت مهمتها وتم وقف إطلاق النار، رفرف العلم الأزرق على "وحدة مراقبة" تنتشر على الحدود بين العراق والكويت، شكلها مجلس الأمن في إطار عمليات حفظ السلام.

نحو عسكرة الأمم المتحدة

لا ريب في أن الحرب الباردة التي استمرت أربعة عقود، وحق النقض في مجلس الأمن، قد سدا الطريق أمام عسكرة الأمم المتحدة. وبزوال الاتحاد السوفييتي من الوجود، وانتهاء الحرب الباردة وانهيار ميزان القوى الذي كان ناجما عنها، تحرر مجلس الأمن من الاستخدام الآلي لحق النقض، وشغلت الولايات المتحدة مكانة الدولة العسكرية الأعظم في العالم بدون منازع. وبذلك شرع الباب أمام الأمم المتحدة لتعسكر نفسها وفق أحكام الميثاق. وهذا ما يفسر تلك المفارقة بين كمية عمليات حفظ السلام التي قامت بها الأمم المتحدة في فترة الحرب الباردة، وكمية العمليات التي قامت بها في الفترة التي أعقبتها.

وإذا كان انقضاء عهد الحرب الباردة قد أطفأ أو جمد أنواعا من النزاعات المسلحة، فثمة أنواع أخرى تفجرت كما يتفجر خزان جوفي من الماء في شكل ينابيع صغيرة كثيرة. فقد انتضت دول وشعوب وأقليات وجماعات السلاح لتسوية خلافات حدودية أو عرقية أو دينية أو طائفية إثنية أو قومية، أو لتؤسس لنفسها دولا مستقلة. وهو ما أثبت أن مصادر النزاع والحرب مازالت كثيرة ومنتشرة وعميقة، بل إنها تتزايد وتتوالد، وأن الأسلحة التقليدية لا تزال تكدس في أنحاء كثيرة من العالم، وأن أسلحة الدمار الشامل تنذر بالزيادة. فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله العوامل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية الأخرى التي تولد النزاعات المسلحة وتثيرها فإن الصورة ستكون مقلقة ومحزنة.

وحتى تخفف الأمم المتحدة من وقع عسكرتها ومن الاندفاع في هذا السبيل بعد أن زالت العوائق فيها، نادت المنظمة - الدولية بتعزيز "الدبلوماسية الوقائية" و "صنع السلم" ، و"حفظ السلام" ، و "بناء السلم" وهي مصطلحات استخدمها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الذي أعده لمجلس الأمن، بناء على طلب قمة المجلس التي انعقدت في اليوم الأخير من شهر يناير (كانون الثاني ) 1992 وفي هذا التقرير اقترح الأمين العام وسائل عسكرية جديدة لم تعرفها الأمم المتحدة من قبل، مثل "الإنذار المبكر" و "الوزع الوقائي" ( وزع الجيش: إذا رتبه وصفه للحرب) ويكون ذلك بإرسال قوات مسلحة إلى الموقع الذي يحتمل أن ينشب فيه نزاع مسلح، فتمنع وقوعه.

ويقترح الأمين العام أن يطبق المجلس النهج الذي حدده الميثاق في إنشاء القوات المسلحة وقيادتها واستخدامها وفي إلزام جميع الدول بتنفيذ التعهد الذي نصت عليه المادة 43 من الميثاق وهو أن تضع تحت تصرف المجلس "ما يلزم من القوات المسلحة"، وفي إحياء لجنة رؤساء أركان الحرب.

لا ريب في أن عسكرة الأمم المتحدة خطة جديرة بالتفكير والبحث، وخاصة أن حدثا عربيا فتح الباب أمام النظر في مشروع العسكرة. وقد لا يكون يسيرا أن نستبعد من تصوراتنا احتمال وقوع اضطرابات في المنطقة العربية وجوارها تقلق السلم والأمن الدوليين، وتستدعي تدخل مجلس الأمن، بشكل ما من الأشكال. فالمنطقة العربية وما يجاورها لا تزال تختزن بعض العوامل والأسباب المقلقة.