ماكيافيللي وابن خلدون مقارنة تاريخية - فكرية

ماكيافيللي وابن خلدون مقارنة تاريخية - فكرية

إن الاطلاع على أفكار ماكيافيللي في عالم الفكر السياسي وفي مجال التحليل التاريخي، تفرض علينا مقارنتها بأفكار المؤرخ العربي عبدالرحمن بن خلدون، على الرغم من التباين في الفترة الزمنية والاختلاف في القيم الحضارية لكليهما.

إن الدارس لفكر الرجلين، والباحث في مساهمتيهما في تطور الفكر التاريخي يلاحظ أوجه تشابه كثيرة بين ماكيافيللي (1468 - 1527م) وابن خلدون (732 - 808 هـ/ 1332 - 1406م) تدفع المرء إلى التساؤل عن مدى اطلاع الأول على آراء الثاني. وحتى إن كان من المؤكد على ضوء الدراسات الحديثة، أن ماكيافيللي لم يطلع على آراء ابن خلدون، فإن مجال المقارنة يظل مطروحًا بين الرجلين، بل يفرض نفسه على قارئ التراث الإنساني فيما يتعلق بالتاريخ وعلم السياسة والاجتماع.

إن القارئ المتأني لمقدمة ابن خلدون والمتتبع لما كتبه ماكيافيللي في كتابيه «المطارحات» و «الأمير»، يلاحظ توارد الأفكار وتشابه المواقف والأحكام بين الرجلين، حتى أن جومبلاوتز لم يتردد في القول إن فضل السبق فيما يتعلق بالنصائح التي قدمها ماكيافيللي في كتاباته يرجع إلى ابن خلدون الذي تقدم عنه بقرن وإن لم يكن قد أخذ تلك الأفكار مباشرة منه.

إن أوجه التشابه وتماثل المواقف والأفكار بين ماكيافيللي وابن خلدون يعود إلى تأثرهما بمكونات ذاتية وظروف محلية وتجارب شخصية متقاربة إلى حد كبير، جعلت مواقفهما متشابهة من قضايا التاريخ وواقع المجتمع ومسائل السلطة، فقد عبر كلاهما بصدق عن المزاج والسلوك الذي طبع عصريهما. كما أن كليهما اكتسب في إطار مجتمعه ومعطيات عصره تجربة غنية في الحياة جمع فيها عمق الثقافة بممارسة الوظائف والقيام بالمهمات والاحتكاك بالحكام، فضلاً عن أن الرجلين خبرا تقلبات السياسة وطبيعة السلطة، وتأثرا بالانقسام السياسي والتدهور الاجتماعي وتنافس الحكام ومؤامرات البلاطات.

الواقعية النفعية

كل ذلك جعلهما يسجلان آراءهما الشخصية ويقيمان الوضع في مجتمعيهما بنظرة واقعية نفعية، مجردة من الاعتبارات الأدبية والميول الذاتية، تقوم على مبدأ العلية والسببية وتستند إلى المصلحة وقوانين الكون وسنن الطبيعة، وتستند في فهمها للأحداث وتقييمها للأشياء إلى نظرة شاملة نابعة عن تحليل وتركيب وتعميم لأبعاد الظواهر البشرية. كل ذلك جعل ماكيافيللي وقبله ابن خلدون يعرضان ملاحظاتهما ويسجلان آراءهما بحياد وتجرد، من خلال تصور واقعي عملي يستجيب لطبيعة الأفراد ويتماشى وسلوك الحكام وواقع المجتمع في إطار تطبيق منهج تاريخي أو إقرار حتمية اجتماعية ومعطيات سياسية، وليس في سياق مفهوم أخلاقي أو تصور مثالي كما اعتاد كتّاب السياسة والأخلاق في العالم الإسلامي صياغته في كتب سير الملوك وآداب الحكم، من أمثال الفارابي والماوردي والطرطوشي. أو كما عملت الكنيسة الرومانية جاهدة على فرض مفهومها لطبيعة السلطة وواجبات الحاكم المسيحي، كما يتضح ذلك جليًا في كتاب «رجل البلاط» لبلدزار كاستليوني (ت 1529م). إن حلقة الوصل بين ابن خلدون وماكيافيللي تتمثل في تنوع ثقافتيهما وفي غنى تجربتيهما وفي احتكاكهما بالحكام وتعرفهما على نوازع وميول العامة في مجتمعيهما. فابن خلدون أغنى ثقافته وشحذ تجربته بفضل تنقله بين بلاطات حكام تونس وبجاية وتلمسان وفاس وغرناطة، وانتقاله بين بوادي ومدن المغرب واضطراره للانقطاع للتفكير في خلواته بقلعة بني سلامة بالمغرب الأوسط. بينما ماكيافيللي أكمل ثقافته وبلور تجربته بتوليه الوظائف الإدارية والمهام الديبلوماسية، قبل أن تصبح قناعات لديه بفعل تحول الحكام عنه ونقمتهم عليه.

وفي هذا الإطار حدد كل من ابن خلدون وماكيافيللي موقفيهما من قضايا التاريخ وشئون الحكم وأوضاع الناس وعلاقة العامة بالحاكم، فنأيا بنفسيهما عن دور الواعظ والمرشد، واكتفيا بإبداء الرأي وتقديم النصيحة وعرض المشورة ولم يسمحا لنفسيهما بأن يقوما بدور كتّاب البلاط ومستشاري الملوك والأمراء، كما لم يرضيا أن يجاريا قناعات العامة وميول الأدباء.

الخشونة والترف

إن أفكار وتصورات وآراء كل من ابن خلدون وماكيافيللي هي عطاء بيئتيهما ونتاج عصريهما، وعصارة حضارتيهما، فابن خلدون فهم بفعل التجربة وعن طريق الملاحظة أن الخشونة من الفضائل، والترف من مظاهر الانحلال، والعصبية من دواعي اكتساب القوة والفوز بالسلطة، وأن التطور التاريخي من خلال ظاهرة الدولة أو الملك يخضع للشروط البشرية وظروف البيئة، بحيث يمر عبر مراحل متعاقبة تبدأ بالعصبية وتبلغ أوجها مع مرحلة «الملك العضود» لتنتهي بالانحلال عندما يشيع الترف وتنعدم القيم وتزول الضوابط التي يقوم عليها نظام الدولة وممارسة السلطة. أما ماكيافيللي فقد رأى في مظاهر السلوك المعتادة ما قد يتسبب في هلاك الحاكم وضياع السلطة، ورأى أن أقرب طريق لضياع الممالك هو الانغماس في الملذات والاعتماد على المرتزقة، وقد خلص إلى التسليم بدورة أخلاقية في حياة الشعوب، فانطلاقًا من تتابع وانتظام الظواهر المرتبطة بالسلوك البشري تأكد لديه أن الفضيلة أو المنفعة المحسوسة (Vertue)، التي كان ينشدها من أجل تغيير أوضاع إيطاليا في عصره، تنتج في حالة توافرها فترة سلم يترتب عنها استرخاء المجتمع وميله إلى الدعة وركونه إلى الراحة، وهذا ما يؤدي بدوره إلى الفوضى التي تتسبب - لا محالة - في الخراب الذي سوف يعقبه حتمًا تجدد وتيقظ، وهكذا يسود النظام في أعقاب الفوضى وتنتشر الفضيلة في كنف النظام، فعهد النمو الأدبي يأتي دائمًا في أعقاب التفوق الحربي، كما أن المحاربين العظام يظهرون عادة قبل الفلاسفة والمفكرين.

إن هذه النظرة الديناميكية للتطور التاريخي والتي تقوم عند ابن خلدون على تفاعل عامل العصبية، وتستند عند ماكيافيللي إلى مبدأ تعاقب فترتي الفوضى والنظام، تعود في الأساس إلى ملاحظاتيهما الدقيقة لأحداث التاريخ وطبائع البشر، هذه الملاحظة التي جعلتهما لا يريان الحياة بغير لون الواقع، وهذا ما جعلهما يسلمان بالواقع وإن كانا يأملان في تغييره، لأنه في نظريهما يتماشى وما يقتضيه العقل وما تقره التجربة التي تقوم عليها الحياة البشرية.

أما جوانب الاختلاف بين الرجلين فهي نابعة من الميول والأفكار الخاصة بكل واحد منهما، وناتجة أساسًا من اختلاف القيم الحضارية التي ينتميان إليها وتباين ظروف العصر وشروط البيئة لكل واحد منهما. فأوضاع المغرب العربي والظروف الاجتماعية والسياسية، وحتى الاقتصادية السائدة به، جعلت ابن خلدون يغلب عليه التشاؤم والميل إلى الانسحاب من الحياة، لينتهي به المطاف إلى ترك بلاد المغرب العربي ليعيش حياة متقلبة مضطربة بالمشرق العربي، فجاءت أفكاره التي اكتملت في بلاد المغرب في شكل تنظير لقضايا التاريخ وشئون المجتمع وطبيعة الحياة، وبذلك ظلت مجرد أفكار شخصية لم يتأثر بها معاصروه من الأدباء والمشتغلين بالثقافة، ولم تعرف التطبيق حتى فيما كتبه هو نفسه في كتاب «العبر»، وهذا ما يجعل منه في مسرحية التاريخ شيخًا هرمًا يقف على عتبة الحضارة الإسلامية وقت الغسق ليشهد غروب تلك الحضارة في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، يتأملها بحكمة، بعد أن كاد يتوقف عطاؤها ويجف ماء الحياة منها بفعل ما لحق بها من أضرار، من جراء العصبية ومن تدمير بسبب نزاعات الحكام وطغيان البداوة، وانكماش الزراعة وتراجع حياة الاستقرار، فانغلق الفكر ليجتر التراث، وغرق الناس في التصوف الذي يبعدهم عن مشاكل الحياة ومتطلباتها، وذهب برق حواضر وبيئات الثقافة بالمغرب، وانقطع معين التجديد لدى الفقهاء الذين استبدّوا بالمعرفة الإسلامية وعقموها بتزكيتهم غلق باب الاجتهاد ومحاربة سبل الإبداع والتجديد، فلم يجد ابن خلدون ما يعزي به نفسه وهو يؤسس لنظرية العصبية القائمة على فكرة التعاقب الدوري للدول ببلاد المغرب، سوى التمعّن في الآية الكريمة: وتلك الأيام نداولها بين الناس .

الغاية تبرر كل شيء

بينما كان مكيافيللي الذي أتى بعد ابن خلدون بقرن وربع القرن يتفاعل مع مجتمع فلورنسا، الذي احتضن عطاء النهضة الأوربية بكل تناقضاتها وإيجابياتها، فكان موقفه في مسرحية التاريخ أشبه شيء بشاب يافع يستيقظ مع نسمات الصباح المنعشة عند بزوغ شمس الحضارة في سماء أوربا بعد ليل القرون الوسطى المظلم، فلم يكن له الوقت الكافي للتأمل كما فعل ابن خلدون في قلعة بني سلامة، وإنما كان كله حيوية وانفعالاً، يتقد حماسة للمشاركة في صنع الأحداث والمساهمة في مسح ما تبقى عالقًا من غشاوة على أعين الأوربيين، فرأى أن الفائدة ليست في الطرق والوسائل، وإنما في الغايات والمكاسب، فجعل من بطله «الأمير» حاجة اجتماعية وضرورة سياسية اقتضاها مجتمعه وتطلبها عصره، فلم يدخل بتقديم الملاحظات التي استقاها من التاريخ حتى ينتفع بها الأمير لنفسه ولمصلحة رعيته، فرأى أن سلوك هذا الأمير الاجتماعي، بالرغم من كونه شيئًا خاصًا به، وأمرًا يتعلق بشخصيته، فإنه يصبح بفعل ظروف العصر عاملاً مؤثرًا في المجتمع ومتحكمًا في سلوك الدولة، وهذا ما جعل ماكيافيللي يعرض أفكاره سواء في كتاب «الأمير» أو «المطارحات» في شكل استنتاجات منطقية، امتزج فيها التاريخ بالفلسفة، وعلم السياسة بقضايا المجتمع، فلم يأبه بالتقاليد المتوارثة والتعاليم المدرسية السائدة، ولم يلتفت إلى الناس ليأخذ مواقفهم فيما يصل إليه من استنتاجات، بل لم يتردد في مصارحتهم بشيء يسلمون بصحته في دواخلهم، ولكنهم يرفضونه في واقعهم، بل يلعنون مَن يتجرّأ على عرضه، ويعتبرونه - حسب قول لسنر (Lesner) - مُرادفًا للشيطان نفسه، وهذا ما جعل رسالة الأمير بمنزلة إنجيل الشيطان حسب قول رمزي موير.

إخفاء الدلالات

لقد عبّر ماكيافيللي عن روح عصره الثائرة وعكس تفاعلات بيئته المتيقظة، فيما اكتفى ابن خلدون بتسجيل ملاحظاته في مقدمته محتفظًا بآرائه لنفسه، بالرغم من كون آرائه تعبيرا عن مفاهيم مجتمعية أكثر تحرّرًا، إن لم تكن أبعد من مفهوم الأخلاق السائدة، وتصور المعتقدات والأديان من آراء ونظرة وموقف ماكيافيللي، لكن ابن خلدون مر بسلام، ولم يتعرض بسببها إلى تشهير المجتمع ونقمة الحكام وغضب الفقهاء، لأن المجتمع الواعي المهيأ للتفاعل معها لم يكن موجودًا في عصره، ولأن أسلوبه ديبلوماسي، وتعبيره اللغوي الجزل والتجاءه إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وترديد عبارات دينية تبعث على الثقة، وتدعو إلى الاطمئنان من قبيل: (الله أعلم، وهو الهادي إلى الصواب والتوفيق)، أخفت الدلالات، التي تحملها أفكاره والمفاهيم التي تستند إليها أطروحاته، فظلت مساهمته وكأنها القطعة الخالصة من الذهب المغطاة بالتراب والمدفونة تحت الأرض بعيدًا عن أيدي الباحثين عن المال والساعين إلىالثروة، فلم تصبح موضوع اهتمام ودراسة في العالم العربي الإسلامي إلا في فترة متأخرة يعود الفضل فيها إلى إعجاب المؤرخ العثماني نعيما (1716م) بفكر ابن خلدون، وسعي المستشرق الفرنسي سلفستر دو ساسي للتعريف بمقدمته، عندما نشر مقتطفات منها (1806م)، وهذا عكس ما عرفته مساهمة ماكيافيللي في تطور المفهوم التاريخي ونظرته إلى السياسة والحكم، فقد ظل حيًا في مجتمعه مؤثرًا في ثقافة عصره، فكان بذلك منطلقًا لتأصل علم السياسة، وأساسًا لتطور النظرة التاريخية لاستقراء الأحداث واستخلاص الأحكام والمفاهيم منها.

ماكيافيللي

(نيقولو ماكيافيللي Nicola Machiavelli 1469 - 1527 نشأ في فلورنسا واندمج في الحياة العامة ببلده، وتولى وظائف عدة، فكان سفيرًا لدى فرنسا وقائدًا للحرس الأهلي، قبل أن يتعرض لغضب أسرة مديشي الحاكمة بفلورنسا (1512)، فاعتزل الحياة العامة، وانزوى في منزله الريفي للتأمل وقراءة التاريخ الرومانسي لـ«تيت ليف»، والتعليق عليه، فأنجز تآليف عدة في التاريخ والسياسة وفن الحرب، فجاءت معبّرة عن نظرته الواقعية النقدية المتفحصة والقائمة على تحليل الأحداث واستخلاص النتائج، والتي ضمنها كتابيه «المطارحات» (1512 - 1518) و«الأمير» (1513 - 1516)، فجاءت ملاحظاته تعبيرًا عن آرائه فيما يتعلق بممارسة الحكم ومعالجة القضايا السياسية والأمور العسكرية.

يعلمُ الله ما ذكرت عهودكم إلا انفجرتُ تفجّعا ونواحا
وإذا ذكرتكم شربتُ مدامعي فكأنّني ثملٌ أعبّ الراحا
إنّي ليحملني الخيال إليكمُ فأجوبُ فيه سباسبًا وبطاحا


بدوي الجبل

 

ناصر الدين سعيدوني