أمريكيون في بلاط الباشا

أمريكيون في بلاط الباشا

الوجود الأمريكي في المنطقة العربية ليس حديثًا كما يعتقد البعض، ولكنه يمتد إلى بداية عصر التحديث في القرن التاسع عشر.

كان النشاط القنصلي أبرز ما تتسم به هذه العلاقات العربية - الأمريكية في بداية الأمر. وبطبيعة الحال فإن المصالح التجارية الأمريكية، شأنها شأن مصالح الدول الأوربية في المنطقة تتطلب رعاية ودعما سياسيا من الحكومة الأمريكية، وبكلمة أخرى نفوذا أمريكيا في المنطقة العربية، غير أن حجم المصالح الأمريكية المحدود قياسا للمصالح الأوربية - خاصة المصالح البريطانية - لم يكن يبرر إقامة نفوذ أمريكي سريع، لذا أصبح تحقيق مثل هذا الهدف مرهونا بتطور تلك المصالح. وبمرور السنين واقتراب القرن التاسع عشر على نهايته وما صاحب ذلك من نمو في التجارة الأمريكية أخذت السياسة الأمريكية تولي اهتمامها بالمنطقة وتمهد لدخولها، وكانت الوسيلة الفعالة والأكيدة لهدف الولايات المتحدة الأمريكية استغلال النشاط التبشيري لكي تقوم بمهمة مزدوجة دينية وسياسية تحقق أهدافها. ومما يؤكد عزم السياسة الأمريكية لأن تلعب الدور الفعال في السياسة العربية منذ ذلك الوقت هو تطور المصالح النفطية السريع في الخليج العربي بشكل عام، وتطور المصالح الزراعية والصناعية في مصر بشكل خاص، ساعدتها في ذلك تلك الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية لكثير من الدول الأجنبية في الولايات التابعة لها.

وقد كانت ولاية مصر من أكبر الولايات العثمانية التي تأثرت بالامتيازات الأجنبية، وذلك يرجع إلى عصر «محمد علي باشا» الذي أوغلت فيه البلاد في اتصالها بالعالم الخارجي، وبالتالي بدأت مصر تشهد وفود الأجانب إليها في ظل سياسة محمد علي، التي اتسمت بالتسامح الديني واستتباب الأمن العام.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية ورعاياها هي إحدى الدول الأجنبية التي حصلت على امتيازات أجنبية في مصر. وفقا لاتفاقية سنة 1830 مع الباب العالي. وهكذا بدأ التمثيل القنصلي للولايات المتحدة في بلاط الباشا المصري وذلك بإنشاء القنصلية الأمريكية في الإسكندرية.

لم تكن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي أقامت هذه العلاقات الرسمية في فترة حكم محمد علي باشا، بل وجدت قنصليات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية أكثر أهمية وانتشارا من القنصلية الأمريكية في بداية تأسيسها. وقبل التمثيل القنصلي للولايات المتحدة وكذلك قبل حصولها على الامتيازات الأجنبية لم يكن للرعايا الأمريكيين نشاط ملموس في مصر باستثناء بعض العاملين في البعثات الاستكشافية الإنجليزية في إفريقيا، مثل «كاتيرين ليديارد» Catherine Ledyard، الذي وصل إلى الإسكندرية في سنة 1788، وكان يعمل مع البعثة الإنجليزية لاستكشاف القارة الإفريقية، وقد توفي بالقاهرة نتيجة المرض.

أيضا هناك - جنرال أمريكي وهو «وليم إيتون» William Eaton، أحد قواد البحرية الأمريكية الذي وصل إلى شواطىء شمال إفريقيا في مهمة بحرية، ومنها إلى الإسكندرية التي أبحر منها أيضا في رحلة نيلية إلى القاهرة، وقد رفع على المركب العلم الأمريكي، وبدأت الرحلة إلى القاهرة في 4 ديسمبر سنة 1804 ولم تطل فترة إقامته وغادر مصر في 3 مارس 1805.

ولم يكن هناك أي نوع من أنواع الحماية الأمريكية المباشرة لمصالح هذا العدد المحدود من الأمريكيين في مصر - كما يحدث الآن - إلى أن وقعت اتفاقية سنة 1830 بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وحصلت بموجبها على الامتيازات الأجنبية شأنها في ذلك شأن الدول الأوربية الأخرى.

امتيازات أجنبية

لقد أوجدت اتفاقية سنة 1830 أنواعا أخرى من التعامل على أساس الامتياز لرعايا الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي حماية مصالحهم المختلفة. وكان يلزم بالضرورة أن يكون هناك تمثيل قنصلي للولايات المتحدة الأمريكية في مصر.

في البداية لم يكن هذا التمثيل القنصلي مكتملا بل، اعتمد على الدبلوماسيين الأمريكيين في تركيا الذين أنابوا عن القنصل الأمريكي أحد رجال الأعمال الإنجليز يسمى «جون جليدون» John Gliddon وعين في الإسكندرية بدرجة وكيل قنصل في سنة 1831، وفي سنة 1832 عين ابنه المستر «جورج جليدون» George Gliddon بدرجة وكيل قنصل في القاهرة.

وفي سنة 1834 شعر «جون جليدون» بعدم الكفاية، وأنه في حاجة ماسة إلى معاون آخر، فطلب من أحد الأمريكيين وهو المستر «لويس مكلان» Louis Mclane، ولم تكن درجة وكيل قنصل معروفة في المصطلح السياسي في ذلك الوقت بين الأوساط الأجنبية، ومن هنا رقي إلى درجة قنصل في سنة 1836.

وهكذا فإن بداية التمثيل القنصلي والدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية ارتبط بتوقيع معاهدة الامتيازات الأجنبية، والتي تعتبر إحدى نتائجها، واعتمد في البداية على رجال الأعمال الإنجليز ممثلين عن الأمريكيين. ونتج عن ذلك أيضا أن بدأت تقوم العلاقات الرسمية بين مصر والولايات المتحدة، وأصبحت هناك ارتباطات ومصالح وحرصت أمريكا على إظهار ذلك.

وفي سنة 1834 أبحرت إلى الإسكندرية بعض السفن الحربية الأمريكية لزيارة مصر بقيادة الكومودور الأمريكي «دانيال باتريسن» Daniel Patterson، والغرض من هذه الزيارة هو أن تثبت الولايات المتحدة الأمريكية لمصر صداقتها، وأن تستعرض أمام الوالي «محمد علي» أمام قطع البحرية الأمريكية، لتؤكد أن أمريكا قادرة على حماية حقوقها أمام حملات القراصنة في البحر المتوسط. وعلى الرغم من أن محمد علي لم يكن موجودا في مصر في ذلك الوقت، فإن القائد الأمريكي استقبل استقبالا طيبا في كل من القاهرة والإسكندرية.

واستمرارا لتدعيم العلاقات المصرية الأمريكية فإن القنصلية الأمريكية قد طلبت من وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1834 أن يمد مصر بآلة ضرب الأرز، وأخرى لاستخراج الزيت من بذرة القطن، وبستة من المهندسين الأمريكيين لإقامة هذه المصانع والإشراف عليها.

وانتهت خدمة «جون جليدون» كقنصل أمريكي في مصر بوفاته في يوليو سنة1844، وعين «إسكندر تود» Alexander Tod قنصلا أمريكيا من بعده وأخبره وزير الخارجية الأمريكية بذلك في 14 أغسطس سنة 1844 وأعلن تمثيله قنصلا للولايات المتحدة في مصر للمسئولين المصريين، وممثلي الدول الأوربية، وحصل من السلطان العثماني عن طريق ممثلي الولايات المتحدة في الآستانة على براءة تعيينه.

ولم يكن «إسكندر تود» مواطنا أمريكيا بل كان أيضا كسلفه مواطنا إنجليزيا، وقد تزوج من ابنة جليدون، ومارس عمله في مكتب القنصلية الأمريكية بمدينة الإسكندرية، واستمر في ذلك إلى أن عين قنصل أمريكي آخر في 23 يوليو 1846 وهو المستر «هنري ب. همفري» Henry B. Humphrey.

وبعد أن زادت أهمية العلاقات المصرية الأمريكية، وظهرت فائدة التجارة بينهما قرر الرئيس الأمريكي رفع درجة التمثيل الدبلوماسي والقنصلي بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية من قنصل إلى قنصل عام لتمثيل حكومة الولايات المتحدة في مصر، وبناء على ذلك عين «دانيال سميث ماكولي» Danial S. Macauley قنصلا عاما للولايات المتحدة الأمريكية في مصر، ووصل ماكولي إلى الإسكندرية في 24 فبراير سنة 1849 على ظهر سفينة حربية أمريكية ودرجة قنصل عام، معروفة في بلاد الشرق بأنها تعطي لصاحبها احتراما أكثر وامتيازات وقوة كبيرة عن درجة قنصل فقط. فيقول «ماكولي» إنه استقبل استقبالا حسنا من الخديو عباس في مارس سنة 1849، وقد ذهب إلى القلعة ممتطيا هذا الجواد مصحوبا بالتعظيم والاحترام إلى الفندق الذي يقيم فيه.

وجاء بعد «ماكولي»، «ريتشارد جونز» Richard Jones في 28 ديسمبر سنة1852 قنصل عام للولايات المتحدة الأمريكية في مصر، وعين «جونز» نوابا له في مدينتي السويس والأقصر لمساعدة السياح الأمريكيين، وقرر «جونز» منذ البداية الاستمرار في عدم حماية غير الأمريكيين، ولم تعط هذه الحماية إلا للموظفين غير الأمريكيين العاملين في خدمة القنصلية الأمريكية وبلغ عددهم خمسة أشخاص.

طرد اليونانيين

ولم تطل فترة «جونز»، ففي العام التالي عين «أدوين دي ليون» Edwin De Leon قنصلا عاما في نوفمبر سنة 1853، واستمر حتي مارس سنة 1861، وفي عهده حدثت أزمة بين الخديو عباس واليونانيين، وحاول عباس توسيط «دي ليون» ليقوم بطرد اليونانيين من الإسكندرية، ولكن «ليون» لم يقم بتنفيذ هذه الوساطة، وكان من رأيه أن مجتمع اليونانيين في مدينة الإسكندرية من أكبر المجتمعات الأجنبية وأقدمها وأكثرها احتراما، ولم يُخرج اليونانيين من البلاد، وهدأت الأزمة وبعدها قدم ملك اليونان شكره واحترامه لـ «دي ليون» تقديرا لموقفه من الجالية اليونانية.

وبعد «دي ليون» تم تعيين «وليم تايير» William Thayer قنصلا عاما حتى سنة 1863 ثم المستر «شارلز هال» Charlés Hale، ويعتبر من أبرز هؤلاء القناصل العامين الذين خدموا في مصر، فقد حضر احتفالات قناة السويس، كما شارك بدور نشط في محادثات تأسيس المحاكم المختلطة، وهي تلك التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ القضاء والعدالة بمصر، ولفترة طويلة بعد ذلك. وكان المستر «هال» ممثلا لدى الحكومة الأمريكية وأحد مؤيدي تأسيس المحاكم المختلطة، فعلى الرغم من قلة عدد الرعايا الأمريكيين في مصر قياسا إلى الأجانب الآخرين، فإنه يلزم وجود نظام قضائي يبعد عنهم العقوبات الصارمة والتي لاتتماشى وشرائعهم، وكذلك لبقية الأجانب في مصر، وهكذا أرست الولايات المتحدة الأمريكية هذا النظام وأقرته مع الدول الأخرى بالرأي والمشاركة بالقضاء ومختلف وسائل التدعيم والتأسيس إلى أن ظهرت المحاكم المختلطة ومارست دورها ابتداء من سنة 1876.

وبذلك كان للولايات المتحدة الأمريكية الدور الأهم في إرساء أكبر دعامة من دعامات الامتيازات الأجنبية التي جعلت لهم وضعا خاصا، وأبعدتهم عن طائلة الشرائع والقوانين المحلية.

ولا توجد إحصاءات دقيقة لحصر عدد الأمريكيين في مصر في القرن التاسع عشر، ومع هذا فقد كانوا بصفة عامة قليلي العدد، وفي بداية القرن العشرين حددت الإحصاءات أعدادهم، ففي إحصاء سنة 1907 كان عددهم قد وصل إلى 521 أمريكيا وهو عدد قليل جدا قياسا إلى جملة الأجانب في مصر في ذلك الوقت. وفي سنة 1917 كان عددهم 415 أمريكيا، وانتشر هذا العدد المحدود في بعض المدن المصرية وخاصة في القاهرة والإسكندرية. وأظهروا فيما بينهم تعاطفا وتماسكا وانتهزوا المناسبات القومية الخاصة بهم للاجتماع والاحتفال، ففي إحدى الصحف المصرية كتبوا يعلنون بأنهم سيجتمعون للاحتفال في عشية 21 فبراير سنة 1882 في ليلة أنس وسمر برئاسة المسيو «سيمون وولف» القنصل الأمريكي العام في قاعة النيل أوتيل، وذلك تذكارا بمولد (واشنطن) محرر أمريكا.

وفي أحداث الاحتلال الإنجليزي لمصر خربت بعض من منشآت الأجانب ومصالحهم، وتعرض بعض الأمريكيين لهذا التخريب، فقدموا طلبات بعد هدوء الأحوال للتعويض عما أصابهم من أضرار. وبلغ عدد هذه الطلبات خمسة وعشرين طلبا، وقدرت تعويضاتها المستحقة بمبلغ 1.061.660 فرنك.

نشاط ديني وتعليمي

لقد مكنت الامتيازات الأجنبية الجالية الأمريكية من الانتشار وممارسة أنشطة مختلفة. وكان أبرز وأهم أعمالهم، نشاطهم التعليمي والديني في نفس الوقت.

ويرجع مجيء الإرساليات الدينية الأمريكية إلى مصر إلى سنة (1851 - 1852) وذلك عندما جاء إلى القاهرة أحد أعضاء تلك الإرساليات الأمريكية في دمشق وهو الأمريكي «ليفي تافسونز» Levi Tavsons، وبعد أن أقام بمصر أدرك أنه من الممكن أن تكون هذه البلاد مكانا خصبا لعمله بما تتمتع به من هدوء واستقرار وجو عام يوافق هذا النشاط. وتحمس «تافسونز» لهذه الفكرة فقام بتقديم طلب كله رجاء وأمل من إرسالية دمشق إلى الكنيسة الأمريكية، لكي تجعل من القاهرة «مركزا تبشيريا» - على حد تعبيراتهم - جديدا إلى جانب دمشق، بل إنه رأى أن تكون القاهرة المقر الأول للإرسالية الأمريكية في بلاد الشرق، ونتج عن هذا أن بدأت وفود الإرساليات الدينية الأمريكية تصل إلى مصر بدءًا من سنة 1854 حيث وصل اثنان من رجال الدين الأمريكيين ومعهم سيدة أمريكية ثالثة تعمل في نفس المجال، وبدأوا نشاطهم وقد تابعهم في المجيء إلى مصر مئات من الأمريكيين لنفس الغرض يعملون لفترات بين القصيرة والطويلة، وكان عملهم وفقا لبرامج ولوائح تحدد هذا النشاط في مختلف أنحاء البلاد، وفي سنة1873 قامت الإرسالية بتأسيس مركز لها في إحدى المنشآت المواجهة لفندق شبرد بمدينة القاهرة. وفي سنة1888 كتب قنصل أمريكا العام «جون كاردول» John Cardwell عن نشاط الإرسالية الدينية الأمريكية واتساعها وأهميتها، وخاصة المراكز التعليمية التي تتبع الإرسالية، كما أشار «كاردول» في حديثه إلى تقرير كتبه رئيس الإرسالية وهو الدكتور «أندرو واطسن» Andrew Watson، الذي ذكر أن نشاط الإرسالية يعتمد على أقسام مختلفة، أحد هذه الأقسام هو قسم (التبشير بالإنجيل)، وقد أقام على رعاية هذا القسم عشرة من القساوسة الأمريكيين، واختص بتوزيع نسخ من الكتاب المقدس، وقد وصل عدد النسخ التي وزعت في عام واحد إلى 30.000 نسخة، وقسم آخر يتبع الإرسالية هو القسم التعليمي وهو الآخر منقسم إلى فروع وأقسام متعددة لخدمة الغرض نفسه.

ومنذ البداية أخذت الإرساليات الدينية الأمريكية في تأسيس المدارس بمختلف أنحاء مصر، فقبل سنة1870 أسست الإرساليات ست مدارس بالوجه القبلي، وثلاث مدارس بالقاهرة ومدرستين بالإسكندرية، فكانت جملة مدارسها التي أسست قبل سنة 1870 إحدى عشرة مدرسة. وتدرجت الإرساليات في زيادة عدد المدارس إلى أن وصل عدد المدارس الأمريكية في سنة1878 إلى ثلاثين مدرسة.

لم يكن الغرض من هذه المدارس تعليميًا تربويًا فحسب، وإنما كان أساسا لخدمة أغراض الإرساليات الدينية التبشيرية في مصر، وكانت الإرسالية تمد هذه المدارس بالكتب والمدرسين. وكان المدرس في هذه المدارس عضوا بالكنيسة يشارك في اجتماعاتها المسائية وأيام الآحاد، وذلك حتى تكون المدارس مركزا للنشاط الديني البروتستانتي المحض. وفي سنة1907 وصل عدد هذه المدارس إلى 271 مدرسة منتشرة في كل محافظات مصر بين مدارس ابتدائية وتحضيرية وثانوية للبنات والبنين، وبلغ عدد الطلاب المصريين والأجانب في تلك المدارس 12640 طالبا وطالبة، وأكثرهم من المصريين إذ بلغ عددهم 12356 مصريا، وأكثر المصريين من المسلمين إذ بلغ عدد المسلمين منهم 2500 طالب مسلم.

لقد تناقص عدد مدارس الإرسالية الأمريكية بعد ذلك بدرجة كبيرة حتى أنه وصل إلى 30 مدرسة فقط سنة 1914 / 1915، وعدد تلاميذها تناقص بالتالي إلى 5061 تلميذا وتلميذة، وكان ذلك راجعا إلى استحداث شهادة الدراسة الثانوية في المدارس الحكومية ابتداء من سنة1887، فأثر ذلك على تلاميذ مدارس الإرساليات الأمريكية والأجنبية الأخرى التي تحولوا منها إلى المدارس الحكومية التي تؤهلهم للوظائف الحكومية، وذلك لأن برامج مدارس الإرساليات الأمريكية كانت مختلفة ولها وضعها الخاص وطابعها الديني، وتركز نشاط مدارس الإرسالية الأمريكية في أوقات ازدهارها بمدينة أسيوط بالذات حيث أسس هناك عدد كبير من مدارسها، وكان لذلك أثره الكبير في الأقباط الذين رأوا في نشاط الإرساليات محاولات تحويل تلاميذها إلى المذهب البروتستانتي وحركت هذه العوامل بطريرك الأقباط، فقام برحلة إلى أسيوط في سنة1867 بغرض الحد من نشاط الإرسالية الأمريكية، وبعد وصول البطريرك إلى الكنيسة القبطية جمع المسئولين الأقباط وبدأت مقاومته لمدارس الإرسالية, ومن ذلك أنه أمر بتجريد أحد القساوسة بمديرية أسيوط من منصبه الكنسي لسماحه لأخيه وهو أحد خريجي مدرسة اللاهوت بالإرسالية الأمريكية بالقيام بالخدمة في الكنيسة القبطية، وكان ذلك أثره في تناقص عدد التلاميذ الملتحقين بمدارسها.

وحاول القنصل الأمريكي بعد ذلك الحد من مقاومة المصريين وبالذات الكنيسة القبطية رئاسة وجمهورا للإرسالية الأمريكية وأن يقنع بطريرك الأقباط بالعدول عن مقاطعة الإرسالية، ذاكرا لهم أن الإرسالية تعمل في خدمة الدين ونشر الإنجيل ولكن محاولاته باءت بالفشل أمام إصرار المصريين على الرفض والمقاطعة.

وكان لهذه العوامل أثرها الكبير في الإقلال من عدد مدارس الإرسالية الدينية الأمريكية مع بداية القرن العشرين بدرجة كبيرة.

النشاط الثقافي والتنقيب الأثري

كان للولايات المتحدة وجاليتها المحدودة في مصر اهتمامات أخرى غير ميدان الإرساليات الدينية والتعليم، مثل حقل الآثار المصرية، وقد بدأت هذه الاهتمامات منذ سنة1856، وذلك بمجيء بعض من المهتمين بالآثار من جامعة بنسلفانيا.

وبدأت أهم أعمال الأثريين الأمريكيين في سنة 1899، حيث قامت بعثة جامعة كاليفورنيا في الحفر والتنقيب جنوب مصر عن المقابر والآثار ولمدة ثلاث سنوات بعد ذلك، كما عملت البعثة أيضا في منطقة الأهرامات وشارك في هذه المهمة جامعة هارفارد ومتحف بوستن في سنة 1905، واستمر عمل هذه البعثة لفترة طويلة، وفي سنة 1906 شارك متحف متروبوليتان بنيويورك في أعمال البحث عن الآثار والتنقيب في مصر، وكان له دور كبير في ذلك وقام بنسخ ونشر عدد من الصور والرسوم عن التاريخ المصري القديم، ونتج عن البعثات الأمريكية للتنقيب عن الآثار أن تمكن أحد هؤلاء وهو المستر «دافيز» الأمريكي من اكتشاف قبر الملكة «تي» في مدافن طيبة. وقد وجد في هذا القبر حليًا وأدوات بديعة الصنع عظيمة القيمة.

واستمرت اهتمامات علماء الآثار الأمريكيين بالآثار المصرية وجمع التحف التي لها فائدة تاريخية كبيرة، وعلى جانب كبير من الروعة والجمال ولفترة طويلة بعد ذلك. كما شارك الأثريون الأمريكيون في مصر مع علماء الآثار الأوربيين في مؤتمر الآثار الدولي الذي عقد بمدينة الإسكندرية في ربيع سنة 1908، وبفضل هذا المؤتمر وجهود الأمريكيين والأوربيين تمكنوا من الوصول إلى نتائج مهمة تخدم الآثار في مصر والعالم.

الأمريكيون والجيش

وغير الأنشطة والمجالات السابقة للولايات المتحدة ورعاياها في مصر فإن لها أيضا دورا كبيرا في الجيش المصري، فقد استعان الخديو إسماعيل ببعض الضباط الأمريكيين، بعقود فردية لتدريب الجيش وتنظيمه وقد استعان إسماعيل بالأمريكيين بالذات لصلتهم الطيبة بمصر والتي تخلو من أي مطامع استعمارية بخلاف الدول الأوربية الأخرى.. ومن ناحية ثانية لكفاءة الأمريكيين الحربية. واختير الضباط الأمريكيون من بين المسرحين القدامى من الجيش وبلغ عددهم في سنة 1870 عشرين ضابطا ووصلوا إلى خمسين في سنة 1878، وفي العام نفسه بدأ الاستغناء عنهم بسبب اشتداد أزمة مصر المالية والتدخل الأجنبي.

وهكذا يتضح أن الامتيازات الأجنبية قد سمحت للولايات المتحدة الأمريكية بممارسة أنشطة مختلفة في مصر، ولكن أبرز هذه الأنشطة هو نشاط الإرساليات الدينية الأمريكية التي انتشرت بوسائلها المختلفة من مدارس ومستشفيات في مختلف أنحاء البلاد. وخلف هذا يقف السلك القنصلي الأمريكي حاميا للعمل الديني ومطبقا لنظام الامتيازات.

 

وائل إبراهيم الدسوقي