مستشرق أمريكي في قلب غرناطة.. بندر عبد الحميد

مستشرق أمريكي في قلب غرناطة.. بندر عبد الحميد

لمع اسم واشنطن أرفنج في نيويورك بعد أن نشر أعماله الأولى، فاجتمع حوله لفيف من أبرز العاملين في فنون الرسم والمسرح والكتابة، وكانت نيويورك آنذاك مركزاً مزدهراً للثقافة الموروثة عن الثقافتين الهولندية والإنجليزية، بقدر ما كانت ميناءً تجارياً مهماً يشد إليه أنظار العاملين في التجارة في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوربا.

ولد أرفنج في نيويورك في حي قريب من موقع «وول ستريت»، حي المال، حالياً، وكان والداه معجبين بالبطل القومي الأمريكي الجنرال جورج واشنطن، ولهذا أطلقا اسمه على ابنهما.

الرحلة الطويلة

اتخذت عائلة أرفنج من تجارة الحديد مهنة لها، ولكن واشنطن أرفنج لم يرتبط بهذه المهنة المهددة بالخسائر أحياناً، وكان أبوه من أصل أسكتلندي بينما كانت أمه إنجليزية وبالرغم من أنه لم يكن منتظماً في دراسته فإنه استطاع تحصيل شهادة المحاماة، ولم يمارس هذه المهنة إلا نادراً، فقد انصرف إلى الكتابة والتثقيف الذاتي، وحينما أصيب بمرض صدري، وهو في الحادية والعشرين من عمره، اضطر إلى السفر إلى أوربا فقضى عامين متجولاً بين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وعاد بعدها ليشارك في تحرير مجلة اجتماعية تصدر في نيويورك، وكان عام 1809 منعطفاً حاداً في حياته، حيث توفيت خطيبته الجميلة ماتيلدا هوفمان، فعزف عن الزواج طيلة حياته، وفي هذا العام نفسه صدر كتابه الأول «تاريخ نيويورك» واتخذ أرفنج لنفسه اسماً مستعاراً في هذا الكتاب «نيكر بوكر». سافر أرفنج إلى إنجلترا في مهمة تجارية في عام 1815، ولم يدر أن رحلته هذه ستطول سبعة عشر عاماً، حيث انتقل إلى ألمانيا وكتب « حكايات مسافر» وفي زيارته إلى فرنسا وإيطاليا راودته رغبات في ممارسة الرسم والكتابة المسرحية، ولكنها كانت رغبات عابرة، ثم قضى العامين الأخيرين من هذه الرحلة الطويلة في إسبانيا، وصحب دبلوماسياً روسياً في جولات على ظهور البغال بين الآثار والمدن الأندلسية، ثم سكن في شقة كانت مقراً لحاكم المدينة، وتقع إلى جانب قصر الحمراء الذي كان مسكوناً بخليط من العائلات الفقيرة والمتشردين في غرناطة.

كتاب الحمراء

كان أرفنج يبحث عن كنوز الآثار والحكايات العربية في الأندلس في مصادرها القديمة والجديدة فجمع مادة غنية صاغها في كتاب «الحمراء The Alhambra» وهو من أفضل كتب الرحلات التي صدرت في القرن التاسع عشر.

يعتبر كتاب «قصر الحمراء» من أهم مؤلفات واشنطن أرفنج، وهي مؤلفات تتسم بالتنوع، فإلى جانب كتاب «تاريخ نيويورك» نشر أرفنج كتابه الثاني المثير «الرسوم القلميّة» الذي ضم كتابات منوعة ورسوماً، مزج فيها بين الذكريات والمشاهدات اليومية والخواطر، وبعد أن حقق هذا الكتاب نجاحاً واسعاً لدى القرّاء كتب أرفنج على منواله «قاعة بريسيرج» الذي دون فيه انطباعاته ومشاعره بعد زيارة قام بها إلى بيت ريفي إنجليزي، ونشر أخيراً كتاباً في خمسة مجلدات عن السيرة الذاتية لجورج واشنطن. ويقال إن الكتابات القصصية لواشنطن أرفنج أرست دعائم القصة الأمريكية، إذ صارت مثالاً يُحتذى به في الكتابات القصصيّة التي جاءت بعدها والتي حملت معها تأثراً واضحاً بالرومانسية في الأدب الأوربي.

جاء كتاب «الحمراء» في واحد وثلاثين فصلاً، وتنوعت هذه الفصول بين وصف رحلات المؤلف في الأندلس، ووصف الآثار الباقية من الحضارة العربية، إضافة إلى قصص وحكايات عن شخصيات عربية وقليل من الحكايات الإسبانية، وأفرد المؤلف بعض الفصول عن الحمراء، مثل (في داخل الحمراء- برج قمارش- الحمراء في ضوء القمر- سكان الحمراء- قصة وردة الحمراء...).

وتتميز كتابة أرفنج عن الأندلس وعن الحمراء بحرارة خاصة وشغف وحنين إلى الماضي.

لم يكتف أرفنج بالكتب والمخطوطات والوثائق التي وُضعت تحت تصرفه، فراح يتجول ويعاين المواقع التي قرأ عنها، ويقارن بين ما كانت عليه وما آلت إليه، ويدون الحكايات الشعبية عن الشخصيات العربية، والكنوز الدفينة هنا وهناك، ولعب الخيال الشعبي بها وأضاف إليها مسحة من الغرابة والأجواء السحرية التي تقترب من حكايات ألف ليلة وليلة، وهذا ما أشار إليه أرفنج، وأوحى إليه أن يكتب هذه الحكايات بأسلوب ألف ليلة وليلة، وليس بأسلوب المؤرخ الذي تقيده الوثيقة المكتوبة، أو تحد من خياله السجلات الرسمية، وهذا هو الأصل في علاقة الكتابة الإبداعية، في القصة والرواية، بالأحداث التاريخية، أو بالماضي القريب أو البعيد، والحاضر، أو المستقبل، وقد ترجم كتاب «الحمراء» الأستاذ ابراهيم الإبياري في الستينيات، وصدر عن دار المعارف بمصر، ولكنه لم يثر انتباه الدارسين بما يكفي. من الشخصيات التي تحدث عنها الكتاب في فصول منفردة أبو عبد الله الصغير والأمير أحمد الكامل ومحمد بن الأحمر مؤسسة الحمراء، وثمة حكاية لطيفة عن الأميرات الثلاث الجميلات، ارتبطت ببرج الأميرات، فكل أثر أو ركن أو بهو أو ساقية أو باب له حكاية قد لا تكون مكتوبة أو صحيحة، لكن أرفنج استطاع أن ينقل بعض هذه الحكايات كما سمعها، وهو يؤكد أن الذين التقى بهم وسمع منهم كانوا ينسجون حكاياتهم على الطريقة العربية.

والذين يزورون الأندلس اليوم قد يلمحون اسم واشنطن أرفنج على بعض الشوارع أو المنشآت احتفالاً بما كتب عن إسبانيا والأندلس.

كتابات أخرى

كان أرفنج مولعاً بالكتابة والطبيعة، ثم الهندسة المعمارية التي جذبته لتأليف كتاب عن تاريخ نيويورك وعن أحياء المهاجرين الهولنديين الأوائل، وكتب عن رحلاته في بريطانيا (1822) وعن «حياة ورحلات كريستوفر كولومبس» (1828) وكانت ذكريات طفولته في نيويورك حاضرة في كتاباته ورسائل إلى عائلته وأصدقائه في أوربا والولايات المتحدة، «كتاب المقاطع»، الذي نشره باسم مستعار آخر هو «جوفري كريون» وحظي بشهرة واسعة في بلده وفي أوربا، في نهاية العشرينيات من القرن التاسع عشر، وبعد أن نشر كتابه «هذه إسبانيا» انتخب عضواً في أكاديمية التاريخ في إسبانيا، ومنح عام 1880 الميدالية الذهبية من الجمعية الملكية البريطانية للأدب، كما منح شهادات فخرية من جامعات أكسفورد وكولومبيا وهارفرد، ثم عينه الرئيس الأمريكي سفيراً للولايات المتحدة في إسبانيا وسفيراً متجولاً في أوربا عام 1842.

«ريب فان وينكل»

مع أن واشنطن أرفنج يضفي على شخصيات قصصه مسحة رومانسية إلا أنه يحرص على واقعية سحرية مدهشة، كما هو الحال في قصة المهاجر الهولندي «ريب فان وينكل» الذي صورّه كإنسان بسيط وطيب وطبيعي، وهو جار لطيف وزوج مطيع يرعى الدجاجات وهو الأفضل بين كل الأزواج في الحي، فهو جاهز دائماً لمساعدة الجيران في تقشير عرانيس الذرة، وبناء الأسيجة، وهو الذي تعتمد عليه كل الزوجات في توصيل الرسائل الشفهية، وهو الذي يجيد مهارات عملية لا يجيدها الأزواج الآخرون.

«بعد أن أمضى «ريب» ساعات في ممارسة هوايته المفضلة، في صيد السناجب بين الجبال، أراد أن يستريح بعد الظهر فرمى نفسه على تلة تكسوها الأعشاب الجبلية، ومن بين جذوع الأشجار كان يتأمل المناظر البديعة للغابات والبيوت في السهول التي تحيط بنهر هدسون ومن فوقها تتحرك الغيوم الأرجوانية، وهناك التقى ريب بمجموعة غريبة من الرجال، كان لأحدهم رأس كبير ووجه عريض وعينان صغيرتان، بينما كان رجل آخر يرتدي قبعة من قش قصب السكر، يتدلى منها ذيل ديك أحمر، وكان لدى هؤلاء الرجال شراب مسحور، احتسى ريب جرعة منه فغاب في سبات عميق استمر عشرين عاماً، وحينما استيقظ عاد أدراجه إلى بلدته، وهو كهل عجوز، فلم يعرف أحداً، حيث مات كل أصدقائه وزوجته، وكان ابنه وابنته قد كبرا، ولم يكن «ريب» العجوز يعرف شيئاً عن المعارك التي قادها جورج واشنطن ضد الإنجليز، حتى فاجأته احتفالات الاستقلال...».

في عام 1832 عاد أرفنج إلى نيويورك، وبنى بيتاً مدهشاً في ضاحية المدينة وعاش في هذا البيت على مدى ربع قرن، بصحبة أخيه «ابنزر» وبنات أخيه الخمس.

كان بيت أرفنج تحفة فنية ومعمارية معاً، ومزاراً للفنانين والكتاب وكبار الشخصيات السياسية، وانتشرت صورة هذا البيت في اللوحات الفنية والمجلات والخرائط السياحية، ورسمه الفنانون على أغلفة الأسطوانات الموسيقية وعلب الحلوى وصناديق السيجار وصحون السيراميك: وحينما توفي أرفنج في هذا البيت «المتحف»، دفن في مقبرة المهاجرين الهولنديين الذين عاش بينهم وكتب عنهم، في منطقة «سليبي هولو» التي استعار اسمها لعنوان روايته «أسطورة سليبي هوك».

تطوّحني الأسفار شرقًا ومغربًا ولكنّ قلبي بالشام مقيمُ
وأسمع نجواها على غير رؤيةٍ كأنّي على طورِ الجلالِ (كليمُ)
وما نال من إيماني السّمح أنّني أصلّي لها في غربتي وأصومُ
ولا نال من قدري اغتراب وعسرةٌ يصانُ ويغلي الدرّ وهو يتيمُ


بدوي الجبل

 

بندر عبد الحميد 





الكاتب الذي عشق الأثار الاسلامية ووضع كتابا عن الرسول الكريم





جانب من ابهاء قصر غرناطة التي تعبر عن زهو الحضارة الاسلامية في الاندلس





قصر الحمراء تحيط به الحديقة التراثية التي اطلق عليها جنة العريف