مذكرات "رستم" خادم نابليون

مذكرات "رستم" خادم نابليون

ذكرى مرور مائة عام على الحملة الفرنسية على مصر لم تنته بعد.ويقدم هذا المقال ضوءاً على الحملة من منظور جديد.

خلال ترددي على مكتبات الإسكندرية التي تعرض الكتب القديمة، وعلى باعة الكتب المستعملة، الذين يفترشون ببضاعتهم أرصفة شارع النبي دانيال، والذين تطاردهم شرطة المرافق عادة، وقعت عيناي- عقب إحدى المطاردات البوليسية- على إحدى المجلات الإنجليزية القديمة، مهلهلة الصفحات ومنزوعة الغلاف، وبها صورة لنابليون بونابرت، وأخرى لرجل بدين قصير شرقي الملامح، يرتدي الملابس الشرقية، وعلى رأسه عمامة بيضاء، ويحمل على جانبه الأيمن خنجرا. ولا حظ بائع الكتب اهتمامي واستغراقي في الإطلاع على بعض عناوين الموضوع، الذي كان لحسن الحظ لم تنله أقدام الشرطة. فمنحني البائع المجلة الممزقة دون مقابل علاوة على ما اشتريت من كتب قديمة.

وكان هذا الموضوع الذي أنقله إلى القراء. والذي أعتقد أنه رغم اطلاعي على الكثير من المجلات والصحف العربية والأجنبية طوال سنوات طويلة، ورغم اهتمامي الخاص بكل ما كتب عن نابليون وحملته على مصر والشرق، والذي يتصادف في يوليو من هذا العام ذكرى مرور قرنين عليها، لم أتعرف على شخصية حارسه الأمين بابا تام أو رستم، التي انقلها إليك كما جاءت في المجلة، غير معروفة السنوات أو التاريخ.

عربة نابليونن تمرق بجيادها وأصواتها المعروفة في شوارع باريس وهي محفة مغلقة، تكاد تشاهد من نافذتها وجه الإمبراطور المهموم الذي يكسوه القلق والحزن، ويحرس العربة من جانبيها ثمانية من الفرسان الأشداء يمتطون جيادهم الضخمة، وهم ذوو وجوه مخيفة مرعبة، بشرتهم سوداء وصفراء مما يعطي الانطباع أنهم غير أوربيينن يلفون رءوسهم بعمامات بيضاء ويرتدون السترات الشرقية ويحملون خناجرهم وسيوفهم، ويمر هذا الموكب المهيب أمام الباريسيين مرتين في رواح وغدو الإمبراطور، ويهتف الباريسيون.. انهم المماليك. إنهم المماليك. وهم.. أشداء مفتولو العضلات من أجناس مختلفة، يونان وماليطون سوريون وأقباط مصريون اصطحبهم الإمبراطور معه عقب عودته لفرنسا عندما فشل غزوه لمصر والشرق عام 1800.

وكان نابليون لا يخفى عليه، أن موكبه الرهيب وحراسه الأشداء بهيئتهم الغريبة على الباريسيين، ضرورة لدب الفزع في قلوبهم. وجعلهم يعتقدون أنه صعب المنال على أعدائه.. وحتى يستتب الأمن وينتشر الهدوء في ربوع فرنسا.

ورغم ذلك فقد نسج أهل باريس قصصا وهمية وحتى خرافية عن هؤلاء الرجال الأشداء الذين يحرسون الإمبراطور ويحيطون به ويسيرون بجواره دائما وأبداً في غدوه ورواحه في شوارع باريس.

وكان هؤلاء الحراس حقيقة من أفضل الرجال فهم هادئون ومطيعون مقدامون لا يهابون شيئاً، وكان كثير منهم يحملون أسماء مؤنثة روزيت ستيفاني، نيكول، إيدا.. كما كانوا يتكلمون الفرنسية بلهجة ركيكة، غير مفهومة وغير واضحة للباريسيين، ولذا كانوا لا يتكلمون مع الآخرين، وكان كل منهم يحمل ترسانة حربية، متنقلة، فهو يحمل سيفا وعدة مسدسات ورمحا وبارودا وغيرها من السلاح، وكل ذلك من أجل حماية الإمبراطور، ومن بين هؤلاء الحراس، كان واحد فقط يحظى باهتمام الإمبراطور ورعايته لم يكن فارع الطول ولكنه قصيرا وبدنيا ذا عضلات بارزة، كما كانت ملامحه تنم عن شرقيته إلى حد كبير، إنه رستم الذي كان يستعرض قوته وهيبته وهو يمتطي صهوة جواده العربي وهو يسير في خيلاء بجوار عربة الإمبراطور وبالذات بجوار الشباك الذي يطل منه وجه الإمبراطور وهو جالس داخل العربة. وكان رستم عادة يلقي بنظراته المخيفة والمرعبة للجمهور الذي ينتظر على أرصفة الطرق لمشاهدة موكب الإمبراطور.

كان رستم بحق.. هو الأثير لدى الإمبراطور. يبذل كل ما لديه من ولاء وحب وتفان لسيده، ويمكن تشبيهه بكلب حراسة وفي!

ولقد حكى رستم بنفسه قصة أول لقاء له مع نابليون قبل مغادرته القاهرة سراً إلى فرنسا بعد فشله في عكا وقضاء واليها الجراز على جيشه، وبعد أن أصابه الطاعون ومات أكثر جنوده هناك.. وتكليف كليبر بالإشراف على حكم مصر نيابة عنه. ولقد نظر نابليون إلى رستم طويلا، وفحصه بعينيه مليا، وقال له بعد أن شد أذنه بلطف. هل تجيد ركوب الخيل، فأجابه نعم يا سيدي.. لقد قاتلت العرب كثيراً، وانتصرت عليهم وأطلعته على جرح كبير في يدي وقال لي نابليون ما اسمك يا ولد؟

قلت له ابجاهيا.. وتعجب وقال لي هذا اسم تركي.. ما هو اسمك الحقيقي؟، فأجبته: رستم، إنني ولدت في جورجيا وخطفت من قريتي صغيراً.. ولا أعرف لي أسرة وقد باعوني في عدة بلدان عربية، حتى وصلت إلى القاهرة.. ثم نظر لي نظرة فاحصة طويلة ثم نطق أخيراً.. حسن يا رستم ستعمل معي بعد أن يوافق طبيبي عقب فحصك، وأخذوني إلى طبيب الإمبراطور.. الذي قرر بعد الكشف علي أنني ذو صحة جيدة.. واستدعاني الإمبراطور إلى مقصورته.. ودخل حجرة جانبية.. وخرج حاملا سيفا مرصعا بست ماسات ومسدسين محليين بالذهب.. وقال لي بسعادة غامرة: رستم خذ هذا كله لك إحرص عليها لحمايتي. وكن أمينا وصادقا.. وسأعتني بك.. ويجب أن تكون أمينا وصادقاً!

وفي المساء.. كنت أخدم على مائدة عشاء الجنرال وقد أمضيت الليل ساهرا على باب حجرته.. وبعد ستة ايام أبحرنا إلى فرنسا.

وبالرغم من ابتهاج رستم بالعمل مع الإمبراطور وسعادته بالمال الذي سيحصل عليه بعد الفقر الذي عاناه، فإنه كان قلقا من المستقبل. أما أقرانه من الحرس والخدم فكانت تغمرهم السعادة من فكرة السفر إلى فرنسا، وكانوا يداعبون رستم ويتظاهرون بالرثاء له من قدره السيئ حيث قالوا له، إن الفرنسيين يصطحبونه معهم إلى باريس لقطع رقبته! وأكدوا له أن ذلك يحدث دائما، فأحزنت تلك التنبؤات الحزينة رستم وجعلته قلقا.. متوجسا وحزينا.

ومضت عدة أيام لم ير فيها الإمبراطور خلال عبور الباخرة البحر إلى طولون.. فطلب بإلحاح شديد لقاء الجنرال. وعندما رآه نابليون قال له: ها أنت يا رستم؟ كيف حالك؟ فأجاب رستم الحمد الله ولكني قلق وحزين! فأجابه نابليون.. لماذا أيها الحارس الأمين؟ قال رستم.. يقول الجميع هنا على هذه الباخرة، إنكم سوف تقطعون رأسي عند وصولنا إلى فرنسا! فإذا كان ذلك صحيحاً فأريد أن يتم ذلك الآن.. حتى لا أظل أتعذب.. فضحك نابليون كما لو يضحك من قبل وقال لرستم.. الذين قالوا لك ذلك الكلام بلهاء.. يداعبونك. لاتخش شيئا يا رستم.. سنصل قريبا إلى باريس وستجد هناك الكثير من الحسناوات والكثير أيضاً من الأموال، كل ما هو مطلوب منك أن تكون أمينا وصادقا وواعيا على حراستي.

ومنذ ذلك الحين وبعد أ اطمأن رستم إلى مستقبله بدأ يأخذ مكانته في حاشية الجنرال حيث كان يعامله بكثير من الدلال.

وكانت على الباخرة "مويرون" عنزتان لتوفير لبن الفطور لبونابرت وكان فيشر خادم حجرته الخاصة، يستولى يوميا على قدح من اللبن مما أثار غيرة المملوك رستم وعندما اشتكى للجنرال من ذلك أمر له بكوب خاص من النسكافيه!

وعادة كان الجنرال إذا لم يقرأ في مقعده الخاص على سطح الباخرة تحت ضوء الشموع.. فإنه كان يلعب الورق مع الضابطين ديروك ولافايت.. وعندما يفوز الجنرال- وهو غالبا ما يفوز- فإنه يتقاسم ربحه مع رستم.. وذات مرة سأل الجنرال رستم عن تخيله لفرنسا التي سيراها لأول مرة فأجاب رستم- الذي لايمضي وقت فراغه إلا في الأكل- في بساطة شديدة.. إنه بلد جميل.. فرد عليه الجنرال عندما نصل إلى فرنسا سيكون الأمر مختلفا.

وبعد انقلاب (برومير) الذي تولى السلطة فيه نابليون، كانت تقام دوريات سريعة في شوارع باريس يوميا، فيركب الإمبراطور نابليون عربة الخيل يتقدمها رستم الذي يذهل مشاهدي موكب الإمبراطور بعمامته البيضاء الجميلة، وسترته المخملية وجبته الواسعة الفضفاضة وفرسته الرشيقة ذات الأصل العربي والفريدة بين خيول باريس.

وأصبح رستم في معية الإمبراطور أينما ذهب، في زيه المملوكي المصنوع من القطيفة والكشمير المطرز بالذهب والذي صممه له الرسام "إيزابي" وتكلف 9000 فرنك.. وسريعا ما اصبح رستم شهيرا في الأوساط الفرنسية الراقية.. حتى أن صورته وهو على ظهر فرسته طبع منها الاف النسخ، وأصبح مزارا للاجانب الذين يفدون على باريس كما قالت جريدة "مونيتور" الفرنسية التي كانت تصدر في باريس حينذاك ووصفته بالرجل ذي الوجه الخرافي!

وقد شغفت به أسرة الإمبراطور.. وكانت جوزفين بوهارنيه زوجة الإمبراطور تستمع إلى تظلماته وتبرمه من أي امتياز أخذ بغير حق. وفي كل المناسبات كان الإمبراطور ينحاز إليه وكان يغمره بالهدايا والأموال.

وذات مساء لعب الإمبراطور الورق مع أصدقائه وضباطه فنادى رستم.. الذي ظهر فجأة من خلف إحدى الستائر وإحدى يديه فوق مقبض خنجره والأخرى يحيى بها سيده.. وقال له الإمبراطور: خذ يا رستم هذا هو مكسبي من لعب الورق.. ثم القى نابليون إليه بكيس من الذهب يحوى 600 فرنك، كما تكرر نفس الشئ في اليوم التالي ونال رستم 700 فرنك أخرى.

ثقة بلا حدود

وثق به الإمبراطور، فقد كان رستم ينام في مدخل غرفة نوم الإمبراطور، وأحيانا بجانب باب الغرفة. وكان في أوقات المؤامرات والمكائد التي تحاك ضد الإمبراطور. يرقد في سرير ميدان.. في وسط الصالون الذي يسبق غرفة نوم الإمبراطور وفي "سان كلود" كان ينام في فراش يثنى بالنهار ليصبح كرسيا. أما زوجة الإمبراطور. فكانت تسري عن رستم خلال غياب الإمبراطور.. بالقيام برسمه حيث كان قد سمن نتيجة تراخيه ومرضه وسقوطه من على فرسته.. وكان النوم يداعبه دائما خلال رسم الإمبراطورة له.. فكانت تلاطفه وتغني له مقاطع من أغنيات فرنسية شهيرة حتى يظل موديلها مستيقظا.

وفي عام 1806 فتن رستم بالآنسة دوفيل ابنة حاجب الإمبراطور وكانت فتاة جميلة عمرها 19 عاما فقد ولدت في باريس في 21/1/1787. وكانت هناك عقبات أمام إتمام هذا الحب بالزواج. فرستم ليس كاثوليكيا. وقد رفض هذا الزواج كبير الأساقفة رغم موافقه الأب بناء على إصرار دوفيل! وشكا رستم للإمبراطور قصه حبه والعقبات التي تقف أمام زواجه.. وتدخل الإمبراطور لصالح مملوكه وبكلمة منه انتهت جميع المصاعب وتبرع نابليون لحفل الزواج الذي اقيم في ملهى حديث وتكلف 1341 فرنكا.

وأصبح رستم موضع ثقة كاملة لأسرة الإمبراطور.. فهو الذي يحضر الفطور للإمبراطور والإمبراطورة في فراشهما، وعندما علم الإمبراطور بمولد "أشيل رستم" خلال إحدى غزواته الأوروبية سر وقال في ابتهاج "لقد أصبح لي مملوك جديد".

وعندما عاد نابليون باريس عقب فشله في اقتحام موسكو.. كان أول من سأل عنه مملوكه رستم الذي كان مريضا فاعتنى به وأمر أطباءه بعلاجه. وعندما كان يراه وهو في دور النقاهة. كان يقول لحاشيته (المسكبن رستم وجهه مازال متعبا). بعد أن كان يناديه من قبل مداعبا (يالئيم) أو (أبينا البدين).

دجاجة ذات فخذ واحدة!

رفرفت السعادة وراحة البال على حياة رستم وتوردت وجنتاه وارتفع كرشه!! وكان الإمبراطور عادة يتعشى في السادسة مساء وكان يعد له عادة في كل ليلة دجاجة مشوية مستقلة عن العشاء. وكانت توضع في سلة صغيرة مغطاة بقماش مشمع.. وكانت غالبا لا يأكلها الإمبراطورن ولكنها كانت دائما تحت طلبه.

وذات ليلة.. رأى رستم سيده مازال نائما..وتأخر في الاستيقاظ.. فظل ينظر إلى السلة بعين شرهة.. وقال لكوستن خادم غرفة نابليون الجديد كوستن أنا جائع.. سوف آكل فخذ الدجاجة لأنني أعتقد أن الإمبراطور لن يأكلها كعادته في بعض الأحيان. فنهاه كوستن عن ذلك وحذره من الاقتراب من دجاجة الإمبراطور.. ومع إصرار رستم واعتقاد كوستن أن الدجاجة ستعود إلى المطبخ حيث الإمبراطور مازال مستغرقا في النوم سمح لرستم بأخذ فخذ منها وأعاد الباقي منها إلى السلة بينما يدق الحرس من حجرة الإمبراطور الذي كان مستيقظا وأمره بإحضار الدجاجة!. وارتعد كوستن بينما كان يخرج لإحضارها وأخبر رستم بالمصيبة التي ستحدث، وأمره أن يتبعه عندما يقدم الدجاجة للإمبراطور في فراشه. وفتح كوستن السلة ووضعها مرتجفا على المائدة الصغيرة بجوار سرير نابليون ونظر نابليون إلى الدجاجة متعجبا وقال لكوستن ورستم وهما يرتجفان مرحى .. مرحى. متى كان للدجاجة فخذ واحدة. هل كانت عرجاء من الذي أكل الفخذ؟ فأطرق كوستن إلى الأرض وأشار بإصبعه المهتز إلى رستم الذي نطق بعد هنيهة بصوت خفيض.. كنت جوعان يا سيدي.. فنظر إليهما نابليون نظرة غاضبة ثم تحولت إلى ضحكة من القلب.. وقال لهما وهو يأكل باقي الدجاجة عن طيب خاطر.. أخرجا أخرجا أيها الشقيان.. أما أنت يا رستم فلي حساب معك! وخرج رستم البدين من حجرة الإمبراطور وهو كاسف البال.. ولكن لم يفعل له الإمبراطور شيئا، وكان يناديه بسارق الأفخاذ.

وهكذا نشأت علاقة حميمة من خلال اللقاءات المتسمرة والاختلاط الدائم بينهما.. بين الإمبراطور القوي الذي دوخ أوربا والمملوك البدين الذي بيع خمس مرات.

كان رستم قد ازداد وزنه وثقلت قدماه.. وبدأ يسأم كالآخرين من حاشية الإمبراطور، البطولات وملاحم الانتصارات والهزائم التي حاقت بنابليون وفي الأول من يناير عام 1814 حصل رستم على ربح كبير من اليانصيب كما منح مبلغ خمسة آلاف فرنك منحة عيد الميلاد.

وبعد 3 شهور إثر الانقلابات السياسية التي حاصرت نابليون، سئل رستم إن كان يتبع الإمبراطور المخلوع! ففكر لفترة من الوقت وأجاب إنه سيرتب أولا بعض أموره الخاصة!

وفي صباح تنحى الإمبراطور.. اختفى يومين من القصر.. حتى يتأكد من الجانب الرابح في هذه المعركة الحاسمة، وأخيرا عاد إلى (فونتبلو) وكانت مفأجاة للجميع وخاصة نابليون الذي تعود تخلي الآخرين عنه وقت الشدة.. ونظر إليه نابليون بحسرة وقال جملة واحدة (ها أنت) ثم أطبق في صمت مضن تشاءم منه رستم وقد صدق حدسه ففي الليلة التالية ترددن الأنباء في فونتبلو بأن نابليون أراد الانتحار بالسم ثم خرج نابليون من حجرته وطلب من رستم إحضار مسدساته. فارتعب رستم وتخوف من إجابته إلى طلبه.. وتعلل بأنه سوف يحضرها من منزله.. وعندما طلب النصيحة من تيرينيه أحد كبار رجال الحاشية هذا الأخير (هذا أمر لا يعنيني). وعاد رستم إلى غرفته بالقصر حزينا.. حيث كان بعض رجال الحاشية الذين يحيطون بالإمبراطور يتهامسون عن رغبته في الانتحار.. وكانوا في أعماقهم يتمنون له ذلك.. كحل مريح! وفجأة طرق أحد الخدم حجرة رستم وقال له.. هل تعلم يا رستم أن هذا الحدث الفظيع لو تم هذه الليلة.. سيعتقد أنك تحالفت مع القوى الأجنبية التي أجبرت الإمبراطور على التنحي لإرتكاب جريمة الانتحار فذعر رستم وأصفر وجهه وأغلق باب الغرفة في وجه الخادم.. وأخذ يفكر.. ويفكر وفي منتصف الليل تسلل من القصر على أطراف قدميه إلى منزله حيث استقبلته زوجته مندهشة لحضوره في مثل هذه الساعة. وترك باب غرفة الإمبراطور الذي رقد بجوارها 14 عاما حارسا أمينا عليه! وتم نفي الإمبراطور إلى جزيرة (البا) ورفض رستم الذهاب في صحبته!! وبدأ حكم جديد في فرنسا.

البعد أضمن!

رستم الميكين، البدين والمتعب، كان بمثل للنظام الجديد.. شيئا من الرعب فوجوده في باريس كان يسبب لهم القلق.

وفي الرابع عشر من أبريل وفي هأة منتصف الليل كان رستم يغلق نافذة منزله.. فشاهد شبحين يلجان من شارع ريفولي، وسمع أحدهما يقول للآخر في إيطالية ركيكة لقد انتظرت رستم حتى يعود، إنني قلق عليه!! وأتم رستم غلق النافذة في هدوء. حتى لا يشعران بوجوده.. إذ إنها مؤامرة على حاشية الإمبراطور المنفي لقد أخذت شرطة الحكم الجديد في مراقبته بعد أن نفت إلى الريف الفرنسي بعضا من أنصار نابليون.. أما رستم الذي لا يتمنى سوى العيش في هدوء بعيداً عن المشاكل والمتاعب، أحس بأن وجوده في باريس في هذه الفترة القلقة يهدد النظام الجديد، لذلك فكر في أن يطمئن السلطة الجديدة بحسن نواياه تجاها. فرجا صديقين له أن يضمنا حسن سلوكه. ولكونه حامل مسدسات الإمبراطور السابق، وحيث لا يعرف عنه هذه الصفة غير "لي باج" صانع أسلحة الإمبراطور- ارتكب رستم خطأ جسيما، إذا اختار لي باج ضامنا له فأصبح هذا الموضع أكثر سوءاً فاسم "لي باج" وحده كان كفيلا بإثارة الشكوك حول حجم ولاء المملوك رستم للإمبراطور السابق! وعندما فتح ملف أسلحة نابليون السرية والالات الجهنمية التي استعملها في حروبه، انقلب كل شئ إلى الأسوأ، وبات رستم معرضا للقبض عليه، فنصحه أحد أصدقائه القريبين بترك باريس هو وأسرته.. والعيش هناك بعيدا عن شكوك النظام الجديد. وهذا ما فعله فعلا.

ومع ذلك لم تنته بعد مغامرات رستم البدين، فعندها هرب نابليون من منفاه في الألب وعاد وحكم فرنسا مرة أخرى مدة مائة يوم فقط ثم نفي نهائيا إلى سانت هيلانة حيث مات مسموما هناك. في يوم عودة نابليون ودخوله باريس كان رستم يعتقد أنه على حق في تمسكه بالولاء والإخلاص لنابليون وكان يأمل أن يضمه إلى حاشيته مرة أخرى وكلف رستم مارشان أحد المخلصين لنابليون أن يقدم طلبا مكتوبا للإمبراطور يلتمس فيه العودة إلى خدمته.. وعندما قرأ نابليون التماس رستم.. صاح في وجه مارشان وألقى بالطلب في نار المدفأة، وقال لن يعود هذا الجبان البدين إلى حاشيتي مرة أخرى.. رغم أن نابليون كان في فترة المائة يوم يسامح الجميع عن كل شئ.. فعلوه ضده!

ولكن تأنيب الضمير أعجز الخادم البدين عن فهم مجرى الأمور جيدا فهو لا يشعر بالخجل عندما يفكر أن مكانه الطبيعي كان يجب أن يكون بجوار سيده في منفاه.. والذي تبعه بإخلاص مملوك آخر ولد بفرساي وهو من أصل عربي ويدعى "إيتان سان دوني" واسمه الحقيقي علي.. ورستم لم يحمل من الشرق سوى بعض ملامحه، الأنف الأفطس والشفاة الغليظة، وطريقته الركيكة في التحدث بالفرنسية، والآن أطلق رستم لحيته، واصبح كرجل ثري هادئ الطبع ولكنه حذر. كان يتحدث قليلا وكان جيرانه الجدد لا يعرفون عنه شيئا سوى أنه رجل مرتاب دائما وحذر أيضا.

رحلة غريبة

في عام 1824 أقام رستم في شارع (سان مارتان) في المنزل رقم 228 في شقة إيجارها السنوي يبلغ 428 فرنكا، وكان لا يبغى حينذاك إلا الهدوء والراحة ولا يشغل نفسه إلا بالاستمتاع بالصيد وتربية كلابه وحاصرته ذكريات أيام الصيد المثيرة مع الإمبراطور في كومبياني أو فونتبلو.

كانت السلطة الجديدة وتولي الملك الحكم قد اطمأنت تماما إلى رستم بعد أن كادت الشرطة تحيل ملفاته وتقارير المخبرين عنه إلى الأرشيف.. لولا أن اسمه بدأ يتردد مرة ثانية بعد هذا العمر الطويل في أروقة وزارة الداخلية، عندما طلب جواز السفر إلى إنجلترا وكلف أحد رجال القصر الملكي المنوطين بعمل التحريات بإيقاف رستم واستجوابه وكم كانت المفاجأة عندما وقف هذا الشجاع البدين المسالم أمام هذا الرجل الذي يقوم بالمهام الوضيعة والشرسة للقصر الملكي شارحا له أن ماضيه مع نابليون قد محي تماما من تاريخه وأنه الآن رجل أعمال صغير وأن وجوده في لندن سيكون مرتبطا بانجاز بعض المصالح، وبعد فترة سمح له بالسفر وحده دون أسرته.

وها هو رستم في كاليه في الثامن والعشرين من مارس وقد أبحر على السفينة "دوك دويوردو" وعاد بعد شهر وهو مطمئن وسعيد، جاهلا تماما مدى القلق الذي يسببه للسلطة. وبعد عام وفي نفس الميعاد تقريبا يرحل ثانية إلى إنجلترا، وهو يقول هذه المرة لرجال الشرطة إنه يسافر للترفيه والترويح عن نفسه.. ياله من غموض.. وتحير رجال الشرطة ولم تعرف أسباب هذه الرحلات عبر البحار إلا متأخرا عندما سافر وراءه أحد رجال الشرطة الفرنسية متنكرا إلى إنجلترا.. واكتشف أنه يقدم نفسه لأهل لندن في ملابسه الشرقية،كمملوك للإمبراطور السابق ويعرض نفسه في الأسواق والملاهي مقابل أجر! وعندما عاد رجل الشرطة الفرنسي إلى باريس.. اطمأنت الشرطة وبدا واضحا أن هذا المملوك البدين لم يعد خطرا على النظام الجديد.

متقاعد شجاع

عقب عودته من إنجلتر وجمعه لبعض المال.. قرر رستم الابتعاد عن باريس.. والعيش في هدوء، بعيدا عن المؤامرات والدسائس السياسية التي تحاك هناك، فاستقر في مدينة دوردان الهادئة.. فهو يحب الصيد ومدينة صغيرة كهذه تسهل له الاستمتاع بهذه الهواية، ولم تكن دوردان حينذاك إلا بلدة قليلة السكان ولكنها كانت أيضا بلدة نائية، ولم يكن يربط بينها وبين باريس سوى عربة مسافرين صفراء وقديمة تقطع مسافة 48 كيلو مترا في ست ساعات ومع ذلك فهي بلدة نظيفة والوقت بها يمر ببطء والسعادة فيها غامرة لرجل بدين بدأ الشيب يخط وجنته.

وقطن رستم وأسرته الصغيرة في منزل الدكتور دياز عمدة المدينة، وكان حريصا دائما وأبداً على ألا يذكر خيانته له بعدم اصطحابه إلى جزيرة ألبا أو سانت هيلانه.. ولعل ذلك هو سر بكائه وحزنه الدائمين أكثر من دموعه على وفاة سيده العظيم.

عصا الإمبراطور

كان الناس في دوردان اجتماعيين ومن عاداتهم أن تقدم الأسر الثرية فيها عشاء جماعيا لأهل البلدة وكان هذا يوما عظيما وطيبا لرستم فقد كان يأكل ويشرب، وبعد العشاء، يتدثر في مقعده ويضع عصاه بين قدميه، وكانت هذه العصا، سميكة وذات عقد وفي أعلاها رأس عبد، فكان رستم يضع ذقنه على الرأس ويغط في نوم عميق. ولهذه العصا التي كان يتكئ عليها رستم واشتهر بها بين سكان دوردان حادثة شهيرة وقعت في دوردان فقد تصادف أن سكن في هذه البلدة أيضا رجل شرطة كان يعمل في قصر نابليون، وأصبح بعد عودة لويس الثامن عشر إلى حكم فرنسا وطرده من عمله مدرسا لآلة الفلوت الموسيقية. وكان نابليون بالنسبة لهذا الرجل معبودا، وأعظم الأبطال الذين أنجبتهم فرنسا، وكان حريصا على عصاه ويتجه إلى طريق آخر محمر الوجه، جاحظ العينين. وذات ليلة فوجئ وهو في طريقه إلى منزله برستم أمامه وجهاً لوجه يسيؤ ينحني يمينا وشمالا على عصاه كالبطة العجوز فلم يكن بد أن صاح في وجهه صارخا (خائن للإمبراطور.. وخائن للوطن.. يا جاحد). فنظر إليه رستم وسار في طريقه دون أن ينفعل أو يغضب.

ولكن ذات يوم سكر الشرطي السابق سكرا بينا.. ومشى في شوارع دوردان يترنح، وفجأة رأى رستم أمامه ودون أن يفكر انتزع العصا من يد رستم وانهال بها على راسه وضربه عدة ضربات صرخ رستم على أثرها وسالت الدماء منه واختفى الشرطي السابق في أزقة دوردان.. وعندما بحث رستم عن العصا، بعد أن تجمع حوله الصبية يحاولون تضميد جراحه.. وبحث عن العصا فسلمها له أحد المجتمعين حوله قطعتين، وازداد بكاء رستم.. وقال والدموع والدماء تغطي وجهه: لقد ضاعت عصا الإمبراطور التي أهداها لي لقد كانت عصا جميلة وكنت أتخذها كمقعد لرأسي الثقيل.. لقد أصبحت قطعتين ولا سبيل إلى إصلاحها.

الأسطورة

وفي السابع من سبتمبر عام 1945 توفي رستم عن 64 عاماً وبعد 24 عاما من وفاة سيده الإمبراطور، وعلى النصب الذي يعلو مقبرته في دوردان، التي أعدت حسب وصيته على الطراز القوطي. كتب (هنا يرقد رستم رازا والمسمى أيضا بإبجاهيا وبابا تام، المملوم القديم للإمبراطور بونابرت ومن مواليد تفليس بجورجيا). ولأن هذه المقاطع البسيطة من الكلمات فوق مقبرة رستم التي تحيطها الزهور والحشائش والأشجار تحمل قصة لرجل بدين قصير جاء من الشرق البعيد ليعمل في خدمة أحد عظماء التاريخ.. كان كل همه وحرصه أن يأكل ويشرب ويسعد بالحياة البسيطة. بعيدا عن مؤامرات ودسائس السياسة والتحولات الخطيرة التي سادت حقبة عظيمة في تاريخ أوربا منذ قرنين من الزمان.

 

إبراهيم العربي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رستم.. خادم نابليون!