القوى الدينية بين تكفير الدولة ولعبة السياسة

القوى الدينية بين تكفير الدولة ولعبة السياسة

يعد هذا الكتاب من الكتب المهمة التي تعرضت للتيارات الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي، ولعبت دورا مؤثرا في تحديد سياسته. فهل لاتزال تلك القوة مؤثرة؟

إذا كان من الشائع أن الحركة الصهيونية، التي تزعّمت وخطّطت لتجميع يهود العالم في (مكان ما) يكون بمنزلة وطن لهم (سيناء، أوغندا، فلسطين)، بدأت على يد هرتسل (1860 - 1904) وبصفة خاصة عند محطة المؤتمر الصهيوني الأول العام 1897، فإن المؤلف يؤكد أن التفكير في الاستيلاء على أرض الشعب الفلسطيني بدأ قبل ذلك بأكثر من خمسمائة عام، إذ عندما زار الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون القدس العام7231 «وجد بها يهوديين اثنين فقط. وقرر آنذاك الدعوة للاستيطان اليهودي في فلسطين» (ص 95)، ومن بين الصهيونيين الذين كانوا يأملون في إعادة بناء طائفة يهودية في فلسطين الحاخام عقيبا يوسف من مدينة براسبرج الذي هاجر إلى فلسطين العام 1870 من أجل أن يقيم فيها طائفة يهودية (ص 27)، وفي العام 1904 هاجر الحاخام (إفراهام يتسحاق) إلى فلسطين، وأصبح حاخامًا لمدينة يافا (ص 333).

لحزب المفدال خريطته

وعن تأثير المرجعية التوراتية فإن حزب (مفدال)، الديني عارض في برنامجه الانتخابي أي مشروع «يتضمن تنازلا عن أجزاء من أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي التاريخية، أرض أجدادنا» (ص 109). ومحاور هذا الحزب السياسية والدينية تتضمن أن «لا تقوم بين البحر ونهر الأردن إلا دولة واحدة هي دولة دولة الاحتلال الإسرائيلي أي رفض إقامة دولة فلسطينية، وأن القدس هي من الآن وستبقى إلى الأبد عاصمة لدولة دولة الاحتلال الإسرائيلي واستمرار حركة الاستيطان في كل أجزاء أرض فلسطين، بما في ذلك الضفة الغربية (يهودا والسامرة)، وقطاع غزة، وأن هضبة الجولان جزء من دولة الاحتلال الإسرائيلي غير قابل للسلخ عنها، وشجْب الحكم الذاتي الفلسطيني، واعتباره خطرًا على دولة الاحتلال الإسرائيلي لأنه يمكن أن يؤدي إلى نشوء دولة فلسطينية» (ص 112 و 113). ولذلك فإن حزب المفدال الديني يعارض بشدة حزب العمل، لأنه انحرف يسارًا في مجال الدين والدولة، وعقد حلفًا مع الإصلاحيين، ويقف متساهلاً من قضايا الاستيطان في الأراضي المحتلة (ص 229 و 230).

ومن الأمثلة العديدة، التي ذكرها المؤلف عن تيارات الصهيونية الدينية القائمة على التوسع الاستيطاني، موقف الحاخام (صموئيل حاييم لانداو) الذي كتب العديد من المقالات هاجم فيها موقف اليهود الأرثوذكس السلبي من الصهيونية، وأكّد على أهمية الاستيطان في أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي لأن الإقامة في الأرض المقدسة هي أحد الأوامر الدينية، وأن «القبس الإلهي لا يؤثر في الشعب اليهودي إلا وهو في أرضه، وعليه لا يمكن اعتبار دولة الاحتلال الإسرائيلي أمة حية وهي تعيش في المنفى»، وأن الحاخام موشيه بن نحمان (1194 - 1270) في تفسيره للتوراة أضفى طابعًا من القداسة على أرض فلسطين، فاعتبر أنها (مركز العالم)، وأن أورشليم هي مركز (أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي)، وأن هذه الأرض هي المكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا الدينية المنصوص عليها في التوراة. وأن الاستيطان في أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي واجب ديني. وأن هذا الاستيطان يوازي كل فرائض التوراة. ووصل تأثير رجال الدين على عقول اليهود في أوربا إلى درجة أن «أصبح رفض أحد الزوجين الذهاب إلى (أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي)، والعيش فيها مبررًا كافيًا، حسب الشريعة، للزوج لطلب الطلاق. وأن مثل هذه الاجتهادات كانت من الأسباب التي دفعت بعض اليهود للهجرة إلى فلسطين» (ص 85 و 86).

وهؤلاء الأصوليون هاجموا (هرتسل) وأمثاله من دعاة الصهيونية السياسية، لأنهم نادوا بأن الوطن المنشود لليهود لابد أن يقام على أسس علمانية، وبالتالي فإنهم لم يغفروا لــ(هرتسل) أنه «عندما زار القدس انتهك العديد من الشعائر الدينية اليهودية، ليؤكد تمييز نظرته اللادينية عن العقيدة الدينية.

أرض الميعاد أسطورة للشعب

وقد يتساءل البعض عن هذا التناقض الظاهري بين دعاة الصهيونية السياسية ودعاة الصهيونية الدينية. وعن تفسير هذا التناقض كتب د. رشاد الشامي «إن القارئ لفكر هرتسل، ودعاة الصهيونية الآخرين، يصطدم بين الحين والآخر، بعبارات تنضح بالعواطف الدينية، وتؤكد على الإيمان بطريق الآباء والأجداد والحنين إلى أرض التوراة. كما تكثر في خطب هؤلاء الاقتباسات التلمودية، مما يوحي ببعض التناقض واللبس مع ما تبين لنا من علمانية هؤلاء القوم دعاة الصهيونية. فإذا علمنا أن هذه الاقتباسات والتصريحات الرنّانة كانت من أساليب دعاة الصهيونية، التي تطلّعت إلى الاستثمار الأقصى للدين، واستغلال القيمة الدعائية، والرصيد العاطفي الذي تمتلكه العقائد الدينية عادة، في سبيل أهداف الصهيونية، زال اللبس واختفى التناقض»(ص 29).

وفي هذا الاتجاه، كتب المفكر الصهيوني يعقوب سيركيد أن «إنكار التعاليم اليهودية لا يضع الفرد خارج الجماعة، كما أن قبولها لا يجعل الشخص يهوديًا. باختصار ليس من الضروري أن يؤمن الفرد بالدين اليهودي أو بالنظرة الروحية العامة لليهود لكي يصبح جزءًا من الأمة». وعلّق المؤلف قائلاً: «ومعنى هذا أن الصهيونية العلمانية نظرت إلى اليهودية باعتبارها «فولكلور الشعب اليهودي» المقدس الذي لايمكن أن تخضع قيمه لأي نقاش أو تساؤل. ففكرة العهد بين الله والشعب الذي منح الخالق بمقتضاه الشعب (أرض فلسطين المقدسة) كانت بمنزلة الأسطورة الشعبية لـ (بن جوريون)، ولكنه مع هذا استخلص منها برنامجًا سياسيًا، وقرر حدود دولته مسترشدًا بمفاهيم العهد القديم، التي لايؤمن بها هو نفسه، ولكنه كان يتقبّلها كـ«أساطير شعبية يهودية».

وقبل إعلان دولة الاحتلال الإسرائيلي بثلاثة أيام في 12 مايو 1948، ثارت مناقشات حول صياغة مسودة إعلان قيام الدولة، حيث طلب بعض الحاخامات أن يتضمن النص فقرة توضح «أننا حصلنا على الاستقلال بمساعدة الرب وبقوته الكبرى، وأن يتضمن النص الأخير اسم الرب والتأكيد على أن «أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي خاصة بالشعب اليهودي بمقتضى الدين اليهودي ووعد الرب لإبراهيم أبينا»،

للصورة وجه آخر

في مقابل التيارات الدينية، التي تؤيد الاستيطان الدولة الاحتلال الإسرائيليي، وترفض أي حق للشعب الفلسطيني في أرضه، هناك تيارات دينية أخرى تخالف الأولى، بل وترفض الصهيونية السياسية، إلى درجة الهجوم العنيف على مؤسس الصهيونية السياسية هرتسل وأنصاره (ص 23). وفي الباب الثالث يركز د. رشاد على الأحزاب الدينية المسيحانية المعارضة لدولة دولة الاحتلال الإسرائيلي. وهذه الأحزاب تنتمي إلى اليهودية الأرثوذكسية المتشددة. وهم يؤمنون بأن الخلاص المسيحاني لا يمكن أن يتم بوسائل بشرية، سواء كانت هذه الوسائل المال أو السلاح. وأن الذين يسمّون أنفسهم بالصهيونية ومساعيهم الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية في فلسطين، تتنافى مع العقائد المتعلقة بانتظار مجيء المسيح في اليهودية. وأن بناء مملكة دولة الاحتلال الإسرائيلي لابد أن يتم على يد المسيح المنتظر، لدرجة أن يكتب أحد الحاخامات رسالة لصديق له العام 1898 تضمنت هجومًا شديدًا على هرتسل، وصفه فيها بأنه قادم من «الجانب الملوث»، وأعلن المجلس الأمريكي لليهودية - وهو تنظيم مناوئ للصهيونية - «إننا نعترض على إقامة دولة يهودية في فلسطين أو في أي مكان آخر، فتلك فلسفة انهزامية، لا تقدم حلاً عمليًا للمشكلة اليهودية»، كما أن الأجيال المتتابعة من هذا التيار الديني الرافض للصهيونية السياسية كانت ترى أن «تحقيق هدف العودة سيكون على يد (يهوه القدير) نفسه، الذي سيرسل المسيح المخلص للقيام بهذا العمل، وليس ذلك من عمل شعب الله المختار كما نادت الصهيونية».

وبعد حرب يونيو 1967، طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية، حيث اعتبرت هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية لبداية الخلاص المسيحاني، وبالرغم من ذلك انطلق صوت أحد الحاخامات ليؤكد أن «دولة دولة الاحتلال الإسرائيلي ككيان صهيوني هي تعبير عن الكفر والتمرّد على إرادة الله، ولذلك فهي ليست تعبيرًا عن الخلاص. ولكن من ناحية أخرى فإن (أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي) تحت السيادة اليهودية تنطوي على مغاز دينية ذات أهمية. ولذلك تدعو حركة (حبر) إلى عدم التنازل عن أي من الأراضي التي احتُلت العام 1967 وذلك من منطلق أحكام الشريعة الدينية.

ويصل التناقض داخل التيارات الدينية إلى درجة أن زعيم حركة (حبر) الحاخام مناحم شنيورسون ميلوفافيش الذي يعيش في بروكلين بنيويورك «لم يقم بأي زيارة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ولم تطأ قدماه أرضها، ويرفض بشدة الهجرة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي بالرغم من اعتقاده أن التوراة قد سبقت العالم»، كما يركز في تعليماته على «حب أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي»، ويرى أنه من دون هذا الحب لا يمكن على الإطلاق فهم وتطبيق التوراة وإقامة الفرائض. ويرى معارضوه من العلمانيين أن امتناعه عن الهجرة يعود إلى عدائه للصهيونية ومعارضته لوجود دولة يهودية قبل مجيء المسيح، وإنكاره أن تكون دولة الاحتلال الإسرائيلي ممثلة ليهود العالم. وأن حبه لــ«أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي» لا يعني اعترافه بدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تخالف أغلب نشاطاتها أحكام الشريعة». وهذا الحاخام مثله مثل أي أصولي في أي دين «يسعى دائمًا إلى التوفيق بين التوراة والعلم، ويؤكد على غياب أي تناقض بينهما، لأن الله خلق العالم حسب التوراة»، ومثله مثل أي أصولي في أي دين أيضًا، يعارض هذا الحاخام الإجهاض وتشريح جثث الموتى.

وكتب د. رشاد أن هذا الحاخام بالرغم من رفضه الهجرة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي فإنه يعتبر من «الصقور السياسية». إذ يعتقد أنه بالنسبة للأراضي المحتلة لابد من استيطانها دون أن تؤخذ في الحسبان ردود فعل العرب أو غضب الولايات المتحدة الأمريكية. ومن رأيه أن على دولة الاحتلال الإسرائيلي ألا تعيد بوصة واحدة من هذه الأراضي. ويعتب على المسئولين في دولة الاحتلال الإسرائيلي أنهم لم يستثمروا حرب يونيو بصورة أفضل، إذ كان يجب عليهم الشروع فورًا بعملية استيطان واسعة في هذه الأراضي الجديدة. وأن يغزوا أراضي عربية جديدة واحتلالها «لأنها ضرورية للمفاوضات المستقبلية ولأمن الدولة». وقد تنبأ هذا الحاخام بحرب العام 1973، إلا أن تحذيراته لم تؤخذ على محمل الجد في دولة الاحتلال الإسرائيلي. وذكر يوسي ساريد العضو اليساري في الكنيست إثر تدخل هذا الحاخام لإسقاط الائتلاف برئاسة حزب العمل العام 1988، أنه من الجنون أن يتحكم هذا الحاخام في مصير الحكومات في دولة الاحتلال الإسرائيلي من خلال سيطرته على طائفته». وهذا الحاخام يعارض منح حكم ذاتي للفلسطينيين بشدة. وقال «إن مجرد التحدث عما يتصل بالحكم الذاتي فيه تدنيس للرب وتدنيس للمقدسات». وردد المقربون منه أن «شامير لم ير بعد نهاية المعركة التي ستدار ضده بوحي من هذا الحاخام إذا ما استمر في المضي قدمًا في مشروع الحكم الذاتي». ويكثر هذا الحاخام من الاقتباس من التلمود، ويقول «سوف تمتد أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى كل بلاد العالم». وترجع أهمية التناول العميق لهذه الشخصية من جانب مؤلف الكتاب د. رشاد، إلى أنه على الرغم من هذه المكانة الأسطورية لهذا الحاخام، فإن دعوته لاقت معارضة شديدة خاصة عندما أعلن أنه (المسيح المنتظر) وأن هذه المعارضة لم تأت من العلمانيين فقط، بل كذلك من بعض الأوساط الدينية الذين انفجروا في الضحك وقالوا: لقد أصبح هذا الحاخام مهووسًا، وأن لديه خيالا خصبًا، فهو مقتنع بأنه المسيح. وزادت السخرية منه عندما صرّح بأنه يئس من محاولاته لاستقدام المسيح، وأنه قام بما يجب عليه عمله. ولذلك، فإنه هو الأنسب ليكون هو المسيح المنتظر. وعندما سئل البروفيسور يشعيا هوليفوفينش عن رأيه في هذا الحاخام قال إنه «إما مريض نفسيًا أو محتال. وهو يزرع آمالا كاذبة في قلوب الجماهير، لأن الإيمان بأيام المسيح كان يؤدي دائمًا للإبادة. وكل مسيح هو مسيح كاذب. (من ص 270 - 290).

ومن الأمور التي يتوقف الباحث أمامها أن حركة (نطوري كارتا) أدانت غزو دولة الاحتلال الإسرائيلي للبنان العام 1982. كما أنه بعد أن صدرت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988 والتي أعلنت قيادة فلسطينية في الضفة والقطاع والاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي عمليًا، فإن جماعة (نطوري كارتا) أيّدت الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه احتجت على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الاحتلال الإسرائيلي.

وإذا كانت الغالبية العظمى من الأحزاب الدولة الاحتلال الإسرائيليية تعتبر الكفاح الفلسطيني المسلح إرهابًا، فإن (نطوري كارتا) ترى أن هذا الكفاح مشروع. ويقول الحاخام موشيه هيرش «نحن ضد سفك الدماء. وأيضًا منظمة التحرير الفلسطينية ضد سفك الدماء. ونحن نؤيد حق الفلسطينيين في استرجاع ما أُخذ منهم بواسطة القوة (ص 320 - 321)، وقال أيضًا «إذا كان هناك اهتمام وحرص من جانب الصهيونية تجاه اليهود، فعليها إصلاح الظلم الذي سبّبته للشعوب الأخرى». وانتقد بقوة الحركات التي تحاول إجبار (أتباعه) على الخدمة في الجيش الدولة الاحتلال الإسرائيليي، وقال «إنهم يريدون انضمامنا إلى آلة الحرب ضد العدو الذي أوجدوه خدمة لمصالحهم، ولتوسيع سيطرتهم على مناطق تابعة لشعوب أخرى» (ص 324).

مخاطر الأصولية اليهودية على دولة الاحتلال الإسرائيلي

هذه التناقضات داخل التيارات الدينية في دولة الاحتلال الإسرائيلي يواكبها تناقضات أخرى بين الأصوليين اليهود وبين العلمانيين. ويتمثل الصراع بين الطرفين في الموقف من طبيعة الدولة التي ينشدها كل فريق. فبينما يرى العلمانيون أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، يرى الأصوليون العكس، ويحرصون على التميز الذي يهدد أي مجتمع. ومن أمثلة ذلك الموقف من المرأة، حيث لا يجوز زيارة النساء لحائط المبكى (ص 78) ورفض السماح للمرأة باستخدام حمامات السباحة المشتركة (ص 163) ويحظر على النساء لبس الملابس القصيرة أو الشفافة أو الخروج دون جوارب تغطي الساقين. وعلى المرأة حلق رأسها، وعدم خروج صوت غناء النساء خارج البيت (ص 294) وعندما تكون الزوجة في فترة الطمث فلا يجوز أن ينام زوجها معها في سرير واحد. وإذا ناما في سريرين منفصلين، ولمس أحدهما الآخر، فهذا محرم (ص 311).

وقد أخذ التطرف الديني مداه إلى درجة الضغط على الحكومات المتعاقبة في دولة الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة لاستصدار تشريع يحرم تربية الخنازير. وقانون آخر ينص على قداسة يوم السبت، حيث لا يجوز تشغيل المواصلات العامة وإغلاق المحلات العامة (عدا المطاعم والملاهي) وعدم القيام بأي عمل مهما كان في مشروعات حيوية كثيرة، مثل الموانئ وغيرها، والمحافظة على الطعام الديني (الكاشير) وعدم تشريح جثث الموتى، وعدم زواج أي كاهن من أي مطلقة (ص 61 و 62) ووصل الأمر إلى درجة أن تشكّل داخل حزب (المفدال) الديني تشكيل خاص بالمرأة أطلقوا عليه (كتلة المرأة المتدينة) (104)، وعلى الرغم من أن كل الأفراد في دولة الاحتلال الإسرائيلي ملزمون بأداء الخدمة العسكرية الإجبارية لمدة ثلاث سنوات، فإن أعضاء المدارس الدينية التابعة لمجلس كبار علماء التوراة معفيون من أداء الخدمة العسكرية. وأيضًا الوقوف بكل حزم ضد تجنيد النساء في الجيش (ص 150 و 238) وفسّر كثيرون من السياسيين والعلمانيين الإصرار على الإعفاء من الخدمة العسكرية على أنه هروب من خدمة الوطن بحجة دراسة الدين، وهو الأمر الذي جعل بن جوريون يردد دائمًا «إننا نريد أمة من الجنود لا أمة من الكهنة» (ص 158).

مقاومة الأصولية الدينية

في مقابل التطرف الأصولي اليهودي، فإن المجتمع الدولة الاحتلال الإسرائيليي يشهد أشكالاً من المقاومة لتحجيم دور هذه التيارات التي تسعى إلى إقامة دولة دينية في دولة الاحتلال الإسرائيلي معادية للسلام وللعلم ولحقوق الإنسان، من أمثلة ذلك كما ذكر المؤلف «فإنه تُبذل محاولات دائمة من أجل إفراغ الشريعة الدينية من مضمونها، مثل عقد الزواج المختلط في جزيرة قبرص. وعقد الزواج دون اشتراك أي حاخام في حالة المنع الديني. أو في حالة رفض عقد طقوس الزواج الدينية. وتقوم المحاكم المدنية بدور مهم جدًا في هذا الصراع. حيث تتعرض أحكام الشريعة اليهودية (الهالاخاه) للانتقاد. ويتم التساهل مع كل محاولات الالتفاف حولها وتجنبها. والمثال الواضح على ذلك أن محكمة العدل العليا (في دولة الاحتلال الإسرائيلي) أقرّت بمبدأ تسجيل من تزوجوا زواجًا مدنيًا أو مختلطًا أو في احتفال مدني في سجلات الزواج. كما حدّد المشرع في القوانين المتصلة بالأحوال الشخصية أن أحكامه ملزمة لكل من المحاكم المدنية والمحاكم الدينية. مثلما حدث بالنسبة لقانون (المساواة في الحقوق السياسية للمرأة)، الذي صدر عام 1951، حيث لم يلتفت إلى حكم المحكمة الربانية التي أقرّت بعدم توافق هذا القانون مع أحكام الشريعة اليهودية. كما أن هناك قطاعًا من الجمهور الديني نفسه لا يعترف بالصلاحية الشرعية اليهودية لهذه المؤسسة الدينية بصورة نسبية. كذلك اعتراف الدولة بـ (الحاخامية الرسمية) هو نوع من تحويلها إلى تنظيم تابع للدولة. وبالتالي فهي خاضعة لإشراف محكمة العدل العليا، التي تتدخل كثيرًا في أحكام (الحاخامية) وفي انتخابات الحاخام الأكبر، وتُخضع أعمال مجلس الحاخامية لإشرافها. وبالنسبة للقوانين التي تتصل بأحكام (منع) وفقًا للشريعة اليهودية، مثل أحكام يوم السبت وتربية الخنازير، توجد قوانين تسمح بتجاوزها. كما أن الدوائر الطبية اعترضت على الأصوليين الذين يرفضون تشريح جثث الموتى، واعتبرت أن هذه المطالب فيها مساس بمستوى البحث العلمي والخدمة الطبية والمغالاة الأصولية أدّت إلى ارتفاع الأصوات التي تطالب بأن يكون الزواج مدنيًا، وضرورة فصل الدين عن الدولة. وهذا المطلب يريد مؤيدوه، ليس الفصل الرمزي بين دولة دولة الاحتلال الإسرائيلي كدولة يهودية وبين التقاليد الدينية اليهودية، بل يطالبون أساسًا بالفصل على المستوى الرسمي والقضائي. وقد ترتّب على ازدياد التوتر الديني وازدياد تدخل رجال الدين أساسًا بالفصل على المستوى الرسمي والقضائي. وقد ترتّب على ازدياد التوتر الديني وازدياد تدخل رجال الدين في شئون الأفراد في حياتهم اليومية - ترتّب على ذلك تكوين رابطة لمنع (الإكراه الديني) تأسست العام (1950)، وقد أقامت هذه الرابطة فروعًا لها في المدن الثلاث الكبرى، وفي العام (1960)، جدّدت الرابطة نشاطها بعد سلسلة من الأزمات الدينية وعلى الأخص بعد طرح مشكلة (من هو اليهودي؟) وكثّفت الرابطة عملها في خريف (1963)، حيث نظّمت مظاهرة في القدس ضد العنف المتزايد من المتدينين. وسارت في هذه المظاهرات جماعات كثيرة من الشباب (العلماني)، وهم مسلحون بالعصي إلى حدود الأحياء الدينية، وإذا كان نشاط هذه الرابطة قد تعرّض لاهتزازات كثيرة. فإن تأثيرها كان كبيرًا، وكان رمزًا، إلى حد ما للاتجاه المتزايد من أجل خلق ثغرات عميقة بين المعسكرين الديني واللاديني في دولة الاحتلال الإسرائيلي.

الشباب أحمق

وكتب الأديب الدولة الاحتلال الإسرائيليي (عاموس عوز) عن الشباب المتدين ووصفهم بأنهم «حمقى ومجانين تحرقهم أنوار النبوءة، أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم خُلقوا ليصلحوا العالم. وكان كل واحد منهم يعتقد أنه هو نفسه (المسيح المخلص) المنتظر الذي سيخلص اليهود من آلامهم. وفي سبيل هذا الاعتقاد فهو على استعداد دائم لصلب معارضيه، ليصلب هو نفسه في النهاية». وكتب أيضًا «من مفارقات القدر أن مليارات الدولارات التي تُقدّم سنويًا إلى تلك الدولة، التي تقول بطاقة هويتها إنها ديموقراطية ومستنيرة وتقدمية، تصل إلى هذا المجتمع المغلق الذي زرته (زار حي جيئولا بالقدس الغربية) والذي يوجد على غراره مجتمات أخرى في دولة الاحتلال الإسرائيلي تنتمي إلى عصور سحيقة. وتبدو - بالنسبة لها - القضايا اليومية في الحياة الدولة الاحتلال الإسرائيليية. كالحرب والتضخم والرقابة وحزب العمل والهستدروت (اتحاد العمال).. إلخ، وكأنها رمال متحركة. أما الثابت لديها فهما هتلر والمسيح (ص 308 - 310) هذا المشهد الذي رصده الأديب عاموس عوز الذي يتأسى فيه من تغلغل الأصولية الدينية، يستدعي إلى الذاكرة كما قال د. رشاد النظرة التي سادت دولة الاحتلال الإسرائيلي في سنواتها الأولى، التي كانت ترى أن الدين هو أمر متخلف لابد من محاربته (119) ولعل هذا ما دفع الصحفي في دولة الاحتلال الإسرائيلي شالوم كوهين إلى أن يناقش خطورة الأصولية الدينية التي تهدد المجتمع في دولة الاحتلال الإسرائيلي في كتابه (الرب برميل بارود. دولة الاحتلال الإسرائيلي ومتطرفوها) (ص339).

هذا الصراع بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية المؤجج داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي، غائب تمامًا عن خريطة الإعلام العربي. إذْ بينما يحذر كثيرون من كتّاب دولة الاحتلال الإسرائيلي من أن «دولة الاحتلال الإسرائيلي قد تتطور إلى دولة تفرض فيها المؤسسات الدينية والدوائر الدينية طابعها بشكل عام في مجالات الحياة»، فإن كاتبًا آخر يخالف تلك النظرة وكتب: «على الرغم من كل الادعاءات بشأن (الصحوة الدينية) فليست هناك دلائل وحقائق تشير إلى ازدياد حجم القطاع الديني. كذلك فإن البيانات الخاصة بعدد التلاميذ في التعليم الديني لا تشير إلى هذا التحول (ص 40 و 41) وكتب آخر: «إن الدولة - في دولة الاحتلال الإسرائيلي - ليست دينية وليست لا دينية، ولكنها معروفة بين الجمهور على أنها لا دينية، ومن الناحية الوظيفية فإن الدولة ومؤسساتها وخدماتها تدار بشكل عام بما لا يتوافق مع شرائع الدين اليهودي. والجدير بالذكر أنه ليس في الشريعة ولا لدى أصحاب الشريعة طريقة لإدارة خدمات الدولة المعاصرة مثل الجيش والشرطة والمواصلات... إلخ، كما أنه ليس لعلماء الدين أي اهتمام بهذه الأمور« (ص 46) أما الباحثان (موشيه ليسك) و(دان هوروفيتس) فقد كتبا: «إن أخطر صدع يهدد الهوية الثقافية للمجتمع - دولة الاحتلال الإسرائيلي - هو الصدع الديني/ العلماني، وهو من شأنه أن يزداد حدة في المرحلة المقبلة أكثر من أي مرة في الماضي. إن القطاع الحريري وصل إلى قوة ديموجرافية واقتصادية وأخلاقية، جعلته قطاعًا مستغلاً ذاتيًا.

وهو يوجد بصورة استبدادية ويتلقى أموالا من الحكومة، وأن هذا القطاع أصبح دولة داخل الدولة، وبالتالي فإنه يوجد في دولة الاحتلال الإسرائيلي شعبان لا يمكن أن يعيشا معًا. والخطر الذي ينطوي عليه هذا الأمر هو إدخال الدين في السياسة (ص 311 و 312).

 

رشاد الشامي