الديمقراطية: آلية الرقابة والتوازن محمد الرميحي

حديث الشهر

لم يكن يخطر في بال الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن عندما قال: "إن الديمقراطية الحقة هي الديمقراطية القادرة على الدخول إلى كل بيت"، لم يكن يخطر في باله أن الفضيحة ستكون إحدى وسائل هذه الديمقراطية الحقة في الدخول إلى كل بيت، ولكن هذا ما حدث فعلا عندما قرر الممثل الأمريكي وودي ألن تفجير قنبلته بالإعلان عن زواج من ابنة زوجته بالتبني سوون يي، فالتقط الحزب الجمهوري الفضيحة وأعلن على لسان نائب الرئيس دان كويل، والنائب الجمهوري نيوت جينجر ريدش "أن وودي ألن هو نموذج القيم العائلية التي يبشر بها المرشح الديمقراطي بيل كلينتون"، ودخلت الفضيحة إلى كل بيت وانقسمت الولايات المتحدة حولها إلى معارض للممثل الأمريكي يحسب للجمهوريين، ومؤيد لفعلته يحسب على الديمقراطيين... وشبيه بهذا ما حدث في بريطانيا، عندما نشرت صحف التابلويد صورا، للأميرة سارة فيرغسون الزوجة المنفصلة عن الأمير أندرو ابن الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، وظهرت الأميرة مع من زعمت الصحف أنه حبيبها شبه عارية.. وانقسمت بريطانيا إلى معسكرين: المحافظين الذين يصبون اللعنات على رأس الأميرة التي لا تحترم التاج البريطاني ولا تستحق الانتماء إلى الأسرة الملكية، والليبراليين الذين يبحون حناجرهم دفاعا عن حق الإنسان في تقرير مصيره واختيار حياته الشخصية.

وكما أن الجريمة هي أعلى مراحل المرض الاجتماعي فإن الفضيحة هي أبرز مظاهر الحروب الاجتماعية، وهي حروب تدور في الأساس على جبهة الثقافة بمعناها الاجتماعي الشامل، وتكتسب في لحظات من التاريخ وجها سياسيا. ومع أن الديمقراطية تكاد ترتبط في أذهاننا بالمعارك السياسية والانتخابية فحسب، إلا أنها في الواقع وفي الأساس هي وسيلة الصراع بين عالمين لكل منهما ثقافته وقيمه الممتدة إلى داخل كل بيت والتي تحاول التعبير عن نفسها عبر رموز سياسية. ولعل متابعتنا للانتخابات الرئاسية الأمريكية لا تساعدنا فقط على فهم ذلك المجتمع، الذي يكاد يتحول إلى قطب وحيد في تحديد مسيرة المستقبل، بل وتجعلنا أقرب إلى المصالحة مع الديمقراطية كسلطة ومجتمعات وأفراد، وأكثر قدرة على اختيار وبناء المؤسسات التي تساعد على تطوير هذا الصراع، وهو يقوم داخل كل مجتمع، عبر الحوار الصحي، وبعيدا عن العسف والعنف، وهنا يطرح السؤال الذي نحن بصدده عن الديمقراطية اليوم والعالم يراقب الصراع الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية التي سوف تحسم في الشهر المقبل خاصة بعد أن أصبحت وسائل الاتصال في عالمنا الصغير تتابع هذا الحدث.

من مكارثي إلى الهيبي

يرد المؤلف "الأمريكي"نيل غابلر" احتدام الحرب الثقافية في أمريكا إلى مطلع العشرينيات، وينقل عن الباحثة ديللا كاثر عبارتها التي باتت شائعة: "في تلك المرحلة انقسم العالم إلى اثنين: العالم القديم بدفئه وأمانه، والعالم الجديد بطموحه وعنفوانه". العالم القديم هو عالم المدن الصغيرة، والمجتمع الزراعي، والتجار، عالم الأمريكي الأبيض المولود في أمريكا، وهو عالم الأنجلو - ساكسون، ويقابله عالم ينمو يوما بعد يوم، ويتحول إلى مجتمع صناعي ويعتمد على المهاجرين والأقليات والمدن الكبيرة وأبرزها نيويورك، ولم تقع هذه المواجهة بين يوم وليلة، ولكن انتشار الصحف والإذاعات عجل بظهورها، وبات المجتمع أكثر وعيا بها حيث انقسم إلى ما يسمى أنصار الثقافة الشعبية وأنصار "النخبة". العالم القديم كان عالم النخبة والجديد كان عالم الثقافة الشعبية، الأول كان يدمن الموسيقى الكلاسيكية والثاني يرقص على موسيقى الجاز، ويقرأ روايات د.ه لورنس "الفاضحة" ويستمد ثقافته اليومية من صحف التابلويد ومن السينما. وفي عام 1928 وهو عام قريب من سنوات الركود العظيم عبرت هذه المواجهة عن نفسها سياسيا، عندما رشح الحزب الديمقراطي آل سميث لينافس الجمهوري هربرت هوفر. سميث كان يمثل قيم المجتمع الصناعي كلها، فهو حاكم مدينة نيويورك أكبر مدن أمريكا و "رأس العلة"، كما كان يسميها الجمهوريون المحافظون، وكان كاثوليكيا يدخن السيكار، ويعتمر قبعة رياضية، ويستعمل في حديثه كلمات "بذيئة". وقد اتفق المرشحان على معظم البرنامج السياسي لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي المعلول وقتئذ، ولكن الخلاف في الشخصيتين كان يعكس هذا الصراع الثقافي داخل المجتمع الأمريكي. ورغم أن هوفر انتصر وفاز بالرئاسة إلا أن الحرب الثقافية استمرت. صحيح أنها خمدت في فترة الثلاثينيات مع الركود العظيم الذي وحد الجميع خلف البحث عن العمل والرغيف، إلا أنها عادت لتتجدد بحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث خرج السناتور جوزيف ماكارثي وهو يرفع راية الجهاد ضد "الحمر" في الداخل، وبدأت حملة مطاردة، واعتقالات طالت كثيرين من الرموز الليبرالية "الملحدة" - على حد وصفهم في تلك الأيام - وجاءت الردة في الستينيات مع موجات الرفض التي مثلها الشباب &quo t;الهيبي" وسواهم، وما زالت المواجهة مستمرة في معركة الرئاسة الحالية، وهو ما عبر عنه المرشح ونائب الرئيس دان كويل، عندما قسم المجتمع إلى "أمريكي يؤمن بالقيم الأمريكية وغير أمريكي هدفه تدمير قيم العائلة"، وشن حملة واسعة على أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون والصحافة الرخيصة التي تفسد القيم الأمريكية.

من ينتخب الرئيس؟

الصراع الدائر اليوم بين ما يسمى "الصفوة" أو "النخبة" وبين "الشعبية" أو "الأغلبية" له تاريخ طويل ويصل بجذوره إلى خريف العام 1787م، عندما انعقد أول مؤتمر دستوري في ولاية فيلادلفيا الأمريكية، وكان السؤال الذي حاول الجيل الأول من الدستوريين الإجابة عنه هو: كيف ينتخب الرئيس؟ ومن هو الرئيس الذي نريده: الرئيس الأكثر كفاءة أم الأكثر شعبية؟ فإذا كان المطلوب هو الرئيس الأكثر كفاءة وأهلية للمنصب، فإن الصفوة هي القادرة على انتخابه، أما إذا كان المطلوب رئيسا أكثر شعبية فإن الشعب عندئذ هو من يقرر.

وقد احتدم النقاش، وطرحت سبع وسائل لانتخاب الرئيس، تم اختصارها إلى ثلاث: الأولى سميت بخطة فيرجينيا وتقضي بأن يتولى الكونغرس الأمريكي انتخاب الرئيس، باعتبار أن المواطن العادي عاجز عن اتخاذ قرار عقلاني يحدد مدى كفاءة المرشح، وهذا المواطن يخضع للعواطف والانفعالات الآنية، وكان ذلك بالطبع هو اقتراح النخبة. وقد سقط هذا الاقتراح بعد أن طرح المعارضون مخاوفهم من أن يتحول الرئيس إلى "رهينة" لدى الكونغرس، وتتحول بالتالي الهيئة التنفيذية إلى تابع للسلطة التشريعية وأسيرة لها، بينما ينص الدستور على الفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وخلافا للديمقراطيات الأخرى في سويسرا وفرنسا مثلا حيث تخضع السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية.

الوسيلة الثانية التي تم اقتراحها هي أن يتم انتخاب الرئيس بالتصويت الشعبي المباشر، باعتبار أن الحكم هو للشعب وبواسطة الشعب. ولكن هذا الاقتراح سقط سقوطا مدويا نتيجة عدم ثقة المؤتمرين في قدرة "العامة" على التمييز بين مرشح يغرقهم بوعود يؤدي تنفيذها إلى إفلاس الدولة، وآخر يمنحهم وعوذا أقل ولكن أكثر جدية وقابلية للتنفيذ.

وبعد أن تم طرح هاتين الوسيلتين ثلاثين مرة على التصويت، دون أن تحقق أي منهما الأغلبية المطلوبة لإقرارها، طرح جيمس ويلسون حلا وسطا بين النخبة والشعبية، ويقضي هذا الحل بأن يتم الانتخاب عبر "الكلية الانتخابية" أو "الحشد الانتخابي" (Electoral College) وقد لفي هذا الاقتراح حماسة كبيرة في صفوف المجتمعين وتم إقراره وتطويره في مراحل لاحقة.

"الكلية الانتخابية" بدأت كمشروع فك اشتباك بين أهل الصفوة وأهل الأغلبية، وهي تعتمد على أن تقوم كل ولاية بتسمية عدد من المقترعين لانتخابات الرئاسة مساو للعدد الإجمالي للشيوخ والممثلين لها في الكونغرس، ويحصل المرشح الذي يحوز على أكبر عدد من الأصوات في الولاية على جميع أصوات المقترعين في حين لا يحصل الخاسر على أي منها، ويقوم هؤلاء الفائزون بانتخاب الرئيس، أي أن المواطن الأمريكي لا ينتخب الرئيس مباشرة ولكنه ينتخب من يقوم بانتخاب الرئيس (!). وهذا الانتخاب "بالواسطة" هو اليوم حلقة فحسب في سلسلة طويلة تلعب فيها المشاركة الشعبية دورا أساسيا وبارزا، إذ بات انتخاب الرئيس يتم على ثلاث مراحل، في المرحلة الأولى يقوم المرشح بالإعلان عن رغبته في خوض معركة الرئاسة وعندئذ تبدأ الانتخابات التمهيدية. وفي المرحلة الثانية تبدأ الحملة الانتخابية الأساسية، أو الانتخابات العامة حيث يتم اختيار مرشح وحيد للرئاسة عن الحزب. وفي الثالثة يختار الناخبون ما يسمى مجازا بالكلية الانتخابية، وهي التي تتولى اختيار الرئيس من بين المرشحين المتنافسين.

حماية المواطن من.. حزبه

يكشف قانون الانتخاب الأمريكي للرئيس عن التغييرات التي تتعرض لها المجتمعات ليس في أمريكا وحدها، بل وفي باقي دول العالم، وعن تطور "آلية الرقابة والتوازن في العملية الديمقراطية "نتيجة لهذه التغييرات بحيث لا تخلق الديمقراطية الوحش الذي يفترسها فيما بعد، كما حصل ويحصل في كثير من الدول. فالحزب الشيوعي الذي تسلم السلطة في روسيا عام 1917 ربما كان شعبيا في تلك المرحلة، ولكن عند انهياره قبل عامين كان يجيد حكم "الصفوة" المستفيدة والقادرة على تكريس سلطتها ليس عبر الشعب بالضرورة، بل عبر وسائل القمع. كما أنه في الانتخابات الجزائرية التي تمت المرحلة الأولى منها قبل إلغائها، خرج أبرز القادة الفائزين بالانتخاب ليبشر الشعب "بأنها آخر انتخابات تجري في البلاد لأن فوزنا هو بيعة" (!)، وليس مهما لهذا الفائز أن الناخب ربما أراد تغيير رأيه بعد أربع سنوات، إذا لم تحقق السلطة ما وعدت به، فالفائز يحرق السلم الذي صعد به، كي يمنع الآخرين من الوصول إليه أو الحلول محله. إن المؤسسين الذين وضعوا الدستور الأمريكي وحددوا وسيلة انتخاب الرئيس لم يكونوا أعضاء في أحزاب، ولم يكن هناك وجود للأحزاب في زمنهم، فهم حددوا وسيلة انتخاب الرئيس ولكن لم يضعوا وسيلة ترشيح هذا الرئيس قبل انتخابه. جورج واشنطن كان أول رئيس منتخب من قبل جماعات وكتل، من بعده بدأ الانقسام في الكونغرس بين "فيدراليين" و"معادين للفيدرالية" وبحلول عام 1870 أصبح اختيار "الكلية الانتخابية" يعتمد إلى حد كبير على الانقسام الحزبي. وهذا الانقسام هو ما دفع جورج واشنطن إلى الإحجام عن ترشيح نفسه لولاية ثالثة، وفي تلك الفترة حمل الفيدراليون اسم "الحزب الجمهوري".. وانقسم هذا الحزب بدوره إلى "جمهوريين وطنيين" و "جمهوريين ديمقراطيين" ثم تكرس هذا الانقسام بإعلان قيام الحزب الديمقراطي في مواجهة الحزب الجمهوري... وعندما تكرست سلطة هذه الأحزاب على الناخبين تكرست في الوقت نفسه سلطة قادة هذه الأحزاب على الحزب نفسه، وبات هؤلاء القادة هم الذين يختارون "المرشح" للانتخابات الرئاسية، وصار أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب يجتمعون سرا ثم يعلنون أسماء المرشحين. وأمام هذا التهديد الذي يضع العملية الديمقراطية ف ي أيدي "النخبة" وحدها قامت حركات الإصلاح السياسي بهدف تخفيف سلطة زعماء الأحزاب، وفي عام 1906 أصبحت ولاية ويسكونسين هي أول ولاية أمريكية تسن قانونا ينص على أن يتم اختيار الوفود المشاركة في الاجتماعات أو المؤتمرات الوطنية التي تختار المرشح للرئاسة عن طريق اقتراع شعبي، وذلك ضمن نوع من الانتخابات يطلق عليه الانتخابات التمهيدية أو الأولية، وسرعان ما تبعتها ولايات أخرى، وأصبح اليوم الطريق للترشيح يمر عبر سلسلة من الانتخابات الأولية تبدأ في فبراير (شباط) وتنتهي بالقرب من موعد الاجتماع الوطني للحزب المعني في منتصف الصيف. إن الانتخابات الأولية هدفها حماية المواطن من... حزبه(!).

مواصفات السيد الرئيس

يعاني كثير من الثقافات غالبا من عقدة "الأجنبي" أو "الغريب" وتتفاوت المجتمعات في تصنيفها لهذا الأجنبي، أما في أمريكا، حيث يعتبر النظام نفسه قادرا على استيعاب جميع التناقضات والثقافات غير المتجانسة، فإن الدستور الأمريكي يحدد لشخصية الرئيس ثلاث صفات فقط تؤهله لدخول البيت الأبيض في حال نجاحه بالانتخابات، وهي أن يكون مولودا في أمريكا، وعاش فيها مدة لا تقل عن 14 سنة، وأنه بلغ الخامسة والثلاثين من عمره. ومازال هناك خلاف حول ما إذا كان المولود من أبوين أمريكيين خارج أمريكا يحق له الترشيح للرئاسة أم لا. وباستثناء هذه المواصفات الثلاث فإن سباق الماراثون الرئاسي مفتوح أمام الجميع. ورغم أنه كان من المتعارف. طيه أنه يصعب على الزنجي، أو المرأة، أو الكاثوليكي، أو اليهودي أن يحوز على ترشيح حزبه لمنصب الرئيس أو نائب الرئيس، إلا أن نجاح الكاثوليكي جون كينيدي في دخول البيت الأبيض حطم إحدى هذه المسلمات، كما أن ترشيح المرأة الإيطالية الأصل جيرالد فيرارو لمنصب نائب الرئيس، ومثلها جهود المرشح لنيابة الرئيس الأب الزنجي جيسي جاكسون يكسر الكثير من تلك المسلمات. أما عن الأصول العرقية، أو القومية فإن المرشح الحاكم ميتشال دوكاكيس خاض معركة الرئاسة عام 1988، وفشل فيها، وهو من أب يوناني مهاجر.

ورافق هذا التطور في المشروع الديمقراطي تطور آخر حيث تم حصر المدة التي يستطيع أن يحكم الرئيس خلالها بولايتين فقط، مدة كل ولاية 4 سنوات، وقد تم إقرار هذا التعديل بعد أن نجح فرانكلين روزفلت في أن يحتفظ بمنصب الرئاسة 4 مرات، وهو ما أفزع مجموعة من المحافظين وجدت أن الرئيس يمكن أن يتحول إلى قيصر، وقد أقر هذا التعديل عام 1951، بينما كان قد أقر تعديل آخر في عام 1920 يسمح للمرأة بالمشاركة في الانتخابات، بينما كانت ممنوعة قبل ذلك، سواء من الترشيح أو التصويت.

من هذا التحديد الدستوري لمواصفات المرشح نكتشف أن الأصول العرقية أو الدينية أو الجهوية أو العائلية، أو حتى كون المرشح امرأة، لا تلعب دورا، مهما حيث تطغى "الصفات المكتسبة" على تقرير مصير المرشح ومدى قدرته على اكتساب ثقة الناخب.

الحملة الانتخابية

في عام 1968 سقط روبرت كينيدي مغمى عليه من شدة الإرهاق، وكان في ذروة حملته من أجل إقناع حزبه الديمقراطي بترشيحه للرئاسة، ومن قبله قطع الرئيس ترومان مسافة 48 ألف كيلو متر في حملته الانتخابية بحثا عن تأييد الناخبين.

إن أسماء المرشحين للمؤتمرات الحزبية أو الأولية تعلن بعد رأس السنة الجديدة مباشرة، حيث ينفق المرشحون مبالغ ضخمة ويبذلون جهودا هائلة لجذب أكبر عدد ممكن من المندوبين إليهم، وهم يقومون بمهمة شاقة يجوبون فيها البلاد يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد الآخر، وغالبا ما يزورون 3 مدن، أو أكثر في يوم واحد، ويقفون عند بوابات المصانع في صقيع الفجر لتحية العمال، كذلك يقومون بزيارة المراكز التجارية ومحطات السكة الحديد وقاعات الاجتماعات والمدارس ومراكز الاستماع وجميع المقرات التي يعتقد مستشاروهم أنهم سوف يكونون قادرين على إقناع الناخبين فيها، ويعملون بذلك لمدة 16 ساعة يوميا، ويتناولون طعامهم "على الواقف" وأثناء عملهم، وينامون متى أتيح لهم ذلك، وهو وقت قليل في كل حال. ومن شاهد جورج بوش وهو يركض إلى قلب الإعصار "أندرو" في فلوريدا قبل أسابيع كي يتفقد الضحايا والمنكوبين، يعرف مدى الطاقة الهائلة التي لا بد أن يتمتع بها المرشح، عقليا وجسديا، للوصول إلى نهاية حملته.

ولعل هذا الإرهاق هو ما دفع المرشح وليام ماكينلي في عام 1896 إلى أن يخترع تقليدا جديدا يقضي بأن يأتي الناخبون وأعضاء الحزب إليه بدلا من أن يذهب هو إليهم. وبالفعل فقد استقبل ماكينلي في منزله في ولاية أوهايو ما يزيد على 300 وفد حزبي وصل عدد أفرادها إلى 750 ألف شخص، وخلال حملته الانتخابية كلها لم يكن يغادر منزله إلا نادرا. وقد شعر مستشاروه بالقلق لأن منافسه وليام برايان كان يخوض حملته على متن قطاره الخاص، قاطعا الولايات. غير أن ماكينلي فاز في حملته الانتخابية، كاسرا بذلك إحدى المسلمات الذهبية التي تقول "في الحركة بركة".

وفي باب التجديد أيضا، أن المرشح المثالي قد ينتهك القواعد الصارمة لبرامج الرحلات والتنقلات، ومن ذلك ما فعله إدلاي ستيفنسون عام 1956 عندما كان ينافس إيزنهاور، إذ إنه أمضى ما يزيد على ساعتين وهو يخوض نقاشا حادا مع مجموعة من العمال في محطة للسكة الحديد، متجاهلا نداءات منظمي حملته الذين شارفوا على الجنون.

الاستيعاب والطرد والمناظرة

وصف الرئيس جورج بوش منافسه كلينتون بأنه "رجل طيب على الصعيد الشخصي وهو يستحق الإشادة في المهمات التي اشتركنا في أدائها معا"، ورد كلينتون التحية بأحسن منها، فقال: "لا أحد يستطيع أن يقول عن بوش إنه رجل غير جيد أو قائد غير كفء..". ولكن هذه المحاولة لاستيعاب المرشح المنافس بدلا من محاولة طرده ليست هي القاعدة في الانتخابات الرئاسية دائما، إذ يشير المدير السابق لما يسمى "لجنة ممارسات الحملة العادلة" بروس فيكتور إلى أنه حتى بطل الثورة الأمريكية جورج واشنطن لم يسلم من الطعن، حيث اتهمه منافسوه بأنه يتمنى إقامة نظام ملكي على طريقة بريطانيا، وتلك كانت تهمة حمقاء حيث إن واشنطن لم يكن يرغب حتى في أن يصبح رئيسا. أما خصوم توماس جيفرسون، وهو بطل "إعلان الاستقلال" فقد أطلقوا عليه لقب "توم المجنون" كما وصفوه بأنه سكير وعربيد ورعديد. ومثله إبراهام لنكولن الذي نال أكبر قدر من الصفات التي يطلقها فريق على خصمه، وهي أنه: مقلد وجهول ومهرج ومدمن وغول وقاتل ومجنون(!).

كان هذا قبل أن يتحول التلفزيون إلى وسيلة للمناظرة بين المرشحين المتنافسين. والمناظرة هي تقليد أمريكي قديم سبق اختراع التلفزيون. وأشهر المناظرات في التاريخ الأمريكي هي تلك التي وقعت بين إبراهام لنكولن وستيفن دوغلاس في عام 1858 في أثناء تنافسهما على مقعد في مجلس الشيوخ، ومع أن دوغلاس كسب المقعد إلا أن المناظرة كشفت عن مواهب كبيرة لدى لنكولن هيأته لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في عام 1860، ومع أن خصمه كان دوغلاس نفسه إلا أن لنكولن فاز بمعركة الرئاسة.

وفي عام 1960 كسب جون كينيدي معركته الانتخابية إثر السقوط الذريع لريتشارد نيكسون في أثناء المناظرات بينهما، وبلغ عددها 4 مناظرات. وشاهد الأولى ما يزيد على 70 مليون ناخب، بينما شاهد 50 مليونا آخرين كلا من المناظرات الباقية، وكان أهم ما أبرزته المناظرة هو أن كينيدي السناتور الشاب هو زعيم قادر على أن يتحمل مسئولية الرئاسة، بينما بدا نيكسون مثل "حارس مقبرة" على حد وصف أحد المشاهدين. وهذه النقطة بالذات التي تتعلق بفارق السن اكتشف الرئيس رونالد ريغان مدى أهميتها، إذ إنه ظهر في عام 1984 كرجل كهل أمام منافسه الشاب نسبيا وولتر مونديل، وهنا التفت ريغان إلى عدسات الكاميرا ليبدأ مناظرته بالقول: "إنني لن أجعل من موضوع العمر قضية في هذه الحملة، فأنا لن أستغل صغر سن منافسي وقلة خبرته لتحقيق مكاسب سياسية"، وقد ذكر المعلقون أن هذه اللفتة الذكية كلفت منافسه خسارة 4 نقاط قبل أن يبدأ بالمناظرة.

والمناظرة لا تكون بالضرورة وجها لوجه دائما، ففي مقابلة تلفزيونية، سأل مقدم البرنامج المرشح لنيابة الرئيس روبرت دول عما كان يقصده خصمه روكفلر عندما رفع إصبعه الوسطى في وجوه الصحافيين، فرفع دول يده أمام المشاهدين وهو يقول: "أنا لا أملك أصبعا وسطا كما ترون لأنني فقدت هذه الإصبع في الحرب، وبالتالي فإنني لا أعرف استخداماتها العديدة". وقد ضجت أمريكا كلها لبلاغة الرد. وفي المقابل، فإن المرشح الديمقراطي أدموند موسكي، وكان متقدما على جميع خصومه في الانتخابات التمهيدية، خسر حملته الانتخابية عندما قال المرشح المنافس جورج ماكفرن إن زوجة موسكي تخونه علنا، وانهار موسكي وشرق بالدمع وهو يحاول الدفاع عن شرفه، فخسر حملته وزوجته معا. بينما خرج ماكفرن منتصرا ولكن إلى حين، إذ إنه في نهاية الحملة، وبينما كان يرد على أسئلة الصحافيين في أحد المطارات، ارتعش صوته، وتلعثم، وعندما انتقده أحد الصحافيين فقد زمام أمره، ورد غاضبا بالقول الأمريكي المأثور "يمكنكم تقبيل مؤخرتي" وهي عبارة دفعت به إلى... المؤخرة وأبقت عليه فيها(!).

المرشح تصنيعاً وتسويقا

لعل من أبرز المشاكل التي باتت تواجه الديمقراطيات في الغرب هي إحجام الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم، ومن هنا فإن الماكينة الانتخابية للمرشح تقوم بمهمتين، الأولى إقناع الناخب بأن مرشح الحزب هو أفضل من مرشح الحزب أو الطرف الآخر، والثاني إقناع الناخب بأن يذهب إلى صندوق الاقتراع كي يدلي بصوته. وقد تبين من الإحصاءات الأمريكية أن نسبة الناخبين في عام 1960 بلغت 8. 62 في المائة ممن يحق لهم التصويت، وقد انخفضت في عام 1980 لتصل إلى 9.53 في المائة. والقانون الأمريكي "لا يعاقب" الذين تخلوا عن حقهم في الانتخاب، وهو لا يعتمد قاعدة "التصويت الإجباري" كما في استراليا وبلجيكا والأكوادور، حيث تفرض هذه الدول على المتخلفين عن الانتخاب دفع غرامة معينة، وإذا غاب الناخب أكثر من دورة عن ممارسة حقه في التصويت يفقد هذا الحق نهائياً، ويصبح عملياً ممنوعاً من الانتخاب(!).

ومن هنا، فإن المرشح للرئاسة في أمريكا لا بد أن يعتمد على ماكينة انتخابية منظمة وقادرة على جذب الأصوات للمرشح، وعلى "تسويقه" لدى الناخبين، وهذا التسويق يعتمد على قيام "صناعة" معقدة، يقوم عليها تنظيم يتولى القيام بمهمات هائلة، من جدولة العمل والمواعيد والترتيبات الإعلامية وإعداد الخطط واختراع الشعارات وإجراء استقصاءات الرأي العام وصولاً إلى تمويل الحملة التي تتزايد نفقاتها يوما بعد يوم. ورغم أن الإعلام بها هو صحافة وإذاعة وتلفزيون يبدو وكأنه "الفترينة" التي يعرض فيها المرشح، إلا أن الوصول إلى "الفترينة" يقتضي جهودا كبيرة لا يمكن أن تتحقق دون وجود "الماكينة الانتخابية". وقد اشتهر بعض المرشحين بقدرتهم على تشكيل هذه المنظمات الحديدية، ومن أبرزهم باري غولدووتر المرشح في عام 1964، وريتشارد نيكسون عام 1972 ورونالد ريغان عام 1984، وكلهم من الجمهوريين. وبالمقابل تتميز منظمات الحزب الديمقراطي بالضعف والتراخي والتضارب. وتشكل الماكينة الانتخابية التي شكلها المرشح الديمقراطي وولتر مونديل عام 1984 مثلا صارخا على الوهن والعجز والفشل في التصنيع الذي يتبعه بالضرورة الفشل في "تسويق" المرشح.

وفي السياق نفسه، فإن الماكينة الانتخابية تقوم بتوظيف خبراء بمرتبات مرتفعة ليعلموا المرشحين كيف يحققون أفضل استخدام لوسائل الإعلام والاتصالات، ويقوم هؤلاء الخبراء على تعليم المرشحين استخدام تقنيات جماهيرية ابتداء من المظهر الشخصي وصولا إلى نوعية الصوت وحجم الابتسامة.

إن قرار الرئيس جورج بوش باستدعاء جيمس بيكر من وزارة الخارجية إلى البيت الأبيض ليقود حملته الانتخابية، يكشف أن خبراء صنع الماكينة الانتخابية هم من يملك - في نهاية المطاف - القدرة على تصنيع وتسويق الرئيس.

استطلاعات الرأي

لم يعد السؤال "من الذي سيفوز في الانتخابات؟" من قبيل الفضول أو التنبؤ، إذ إنه بات عاملا مهما في تغيير مسار الحملة الانتخابية للمرشح. وصارت تقوم على طرح هذا السؤال مراكز ومؤسسات ضخمة، من بينها مركز كارنيجي الذي اشتهر بدقته في الإجابة، إذ إنه بين عامي 1948 و 1984، نجح المركز في تحديد ثمانية مرشحين ناجحين، بينما فشل في إجابتين. ففي عام 1948 تنبأ بأن ديوي الجمهوري سوف يفوز، بينما فاز في ذلك العام ترومان الديمقراطي، وفي عام 1976 اعتبر أن فورد الجمهوري هو من سوف يفوز وأخطأ وفاز كارتر الديمقراطي. وفيما أكدت جميع مراكز الاستطلاع في عام 1960 أن كينيدي سوف يسقط لا محالة فإن مركز غالوب أعلن أن كينيدي سوف يكسب وهو بالفعل ما حدث.

وحول الاستطلاعات الكثيرة التي فاقت المتوقع في حملة الرئاسة الأمريكية الحالية، يصف أحد المعلقين هذه الاستطلاعات بأنها صارت أقرب إلى سباقات الخيول التي تجري يوميا، ويقول مدير الاستطلاعات في صحيفة "واشنطن بوست" ريتشارد بورين "إن هذه الاستطلاعات باتت خطرة، فهي بدلا من أن تقدم للمواطن معلومة تفيده، فإنها أخذت تؤثر عليه وتقوده، وهذه مسألة ليست صحية للديمقراطية"، ويرى بورين أن كثرة هذه الاستقصاءات سوف تدفع بها بالنتيجة من الصفحة الأولى إلى الصفحات الداخلية، وعندها تعود هذه الاستقصاءات لتلعب دورها الطبيعي في خدمة الناخب. ويشير بورين في هذا السياق إلى أن الاستطلاع بدلا من أن يركز على الموضوع الذي هو المرشح، فإنه يركز على سير العملية الانتخابية، وهو ما يؤدي إلى قطع العلاقة بين المرشح والناخب، وعلى المدى الأبعد، بين الناخب وعملية التصويت نفسها. وتقوم عمليات الاستقصاء اليوم على معرفة رأي شريحة من المواطنين يتراوح عددها بين 1500 إلى 2000 شخص، بينما كانت في السابق تستوعب الملايين، وسر هذا الانتقال لتوجيه السؤال إلى عدد محدود فقط، هو أن مجلة تسمى "الدليل الأدبي" أعلنت في عام 1936 أن حاكم ولاية كنساس ألفرد لاندون سيفوز على فرانكلين روزفلت، إلا أن روزفلت حقق انتصارا ساحقا ومدويا. وكانت المجلة التي أغلقت بعد ذلك مباشرة، قد أرسلت 10 ملايين اقتراع للناخبين المدرجة أسماؤهم في دليل الهاتف ولمالكي السيارات. والخطأ الكبير الذي وقعت فيه هو أن مؤيدي روزفلت كانوا ناخبين فقراء لا يملكون هواتف ولا سيارات(!).

إن الديمقراطية، بقطع النظر عن مفهومها الغربي، تجد أكثر من وسيلة للتعبير عن نفسها، ولعل انتخابات الكويت التي ستكون نتائجها قد أعلنت وهذا العدد بين يديك، هي دليل جديد على مدى نجاح الحوار الشعبي اعتمادا على آلية الرقابة والتوازن، التي هي أساس الديمقراطية.