مساحة ود

مساحة ود

عطري المضاد للاكتئاب

غبت فترة طويلة ولما رجعت وجدت صديقتي بانتظاري في المطار، وعلى غير طلتها الربيعية المنعشة، وجدت تصدعًا كبيرًا بعينيها أربك فرحة لقائي بها، وفورا بدأت بقعي «تفور»، استرقت النظر إلى وجهها لعلني أعثر على شرح مستتر لما حلّ بها، فوجدت فصل شتاء كاملا يهطل داخلها، وهي شمس سخية، تسكب أشعتها الدافئة على كل من حولها دون استثناء بابتسامتها الصافية وبألحان روحها العذبة، بل وأسميتها عطري المضاد للاكتئاب، لأن حضورها يبدد كل ضجيج تحدثه فيّ عوالمُ هذه المدينة الواسعة والمتوترة ، فتصبح هي مدينتي، ليس لأننا ننتمي لوطن واحد، وليس لأني أكثر غربة منها، بل لأن جذورها مزيج رائع من وطننا، ومن هذا الوطن مسقط غربتي، وكلما انتابتني نوبة حنين أحول موجة انتمائها على أثير الوطن، وكلما أصبت بخيبات وأحزان أحول موجة ضحكتها على أثير هذه المدينة، وكثيرا ما تسافر بي إلى عالمها الذي لا تزال مقيمة وعاشقة دائمة فيه لسنوات، حتى أصبح هويتها وتدخّل في تفاصيل أفكارها ومواعيدها وأكلها وملبسها وطريقة نومها، عالم أوشك أن يكون قدرها.

وفجأة سافر «هو» عالمها موقعا صك (حب يغازله نسيان) ويا لدهشتي كم يسكنها أمل عنيد بأنه عائد إليها محلقا من مدن الربيع بعدما تركها طريحة الوجع في مدن الملح.

غيابه خلّف فجيعة في مقلتيها، لطالما اتهمتني بأنني كثيرة «التبقع» وتحليلها لنظريتها تلك، أنني كلما امتلأت ضِيقًا من مواقف أحزنتني وأثقلت كاهلي، أُخزّن كل شيء في ذاكرتي على شكل بقع دون نسيان لأدنى التفاصيل حتى لأمور لن تحدث لي مجددًا، ضحكت كثيرا من نظريتها ولكني اقتنعت بها في داخلي وأصبحت البقع مصطلحًا لجميع معارفنا وأحيانا شفرة سرية.

سفره أصاب روحك بالعطب وترك الكثير من الخراب التي لا تظهره جسارتك المعهودة ..

سفره أتعب قلوب أحبتك..

سفره اغتيال لأيامك المقبلة وإقامة إجبارية بين ألغام ذكرياته.

وكيف لي أن ألملم كل هذه البقع التي تسكن محارة روحك أيتها الصديقة، بل وكيف لي أن ألملم تلك التي تتقاطر من جسدك - وجميع الأطباء والتحاليل أكدت أن لاشيء بجسدك - فمن أين أتتك هذه البقع؟ ألم نتفق أنها مجرد دعابة مضادة لأحزاننا، ولماذا هي الآن تحاصرك، وتوتر يومك، وتؤرق ليلك، وتزيد لغيابه عنك قلقا إضافيا .هنيئًا لك أيها المسافر، هنيئًا بحب صديقتي لك يا من أغرقت آخر الناجين من أحلامها في مرافىء عينيك الهاربتين، يارجلا تعلم فنون الرماية في سويداء القلب، وفنون القبيلة في اغتيال الحب وتركت لها - غير بقع تعصر جسدها وروحها - لوثة أتمنى أن تزول.

 

ندى مهري