فن الرواية

فن الرواية

المؤلف: ميلان كونديرا

يختلف هذا الكتاب فى أن مؤلفه روائى من أهم روائى العصر، ومن هنا تأتى أهمييه، ومتعة قراءته أيضا. ولا يدعي كونديرا أنه ينظر لفن الرواية، فالكتاب كما يقال: " هو ببساطة اعترافات كاتب رواية، حول فكرة الرواية المتأصلة فى أعماله "، فهو يرى أن كل عمل روائي يحتوي على رؤية متضمنة لتاريخ الرواية. وفكرة عما تكون الرواية عموما.

الكتاب سبعة أقسام، نشرها كونديرا فى أوقات متفرقة على مدى سبع سنوات، وفى ذهنه أن يجمعها فى كتاب يعبر عن وجهة نظره فى هذا الفن.

ثلاث دراسات، ربما تكون من أهم الدراسات التى كتبت عن الرواية فى عصرنا الحاضر، اولاها نظرة بانورامية عن تطور الرواية فى عصرنا الحاضر، اولاها نظرة بانورامية عن تطور الرواية الأوربية خلال ثلاثمائة سنة من تاريخها، ودراستان عن اثنين من الروائيين، تأثر بهما بشدة، ويعتبرهما من أهم كتاب القرن العشرين، كافكا وهيرمان بروخ خاصة فى ثلاثيته الروائية " السائرون نياما " وهذا الكاتب الأخير ليس له حظ فى عالمنا العربى، فلم نقرأ له شيئا بل حتى لم نسمع عنه. والدراستان من أكثر الدراسات عمقا وتحليلا وفهما لأعمال هذين الكاتبين.

ويضم الكتاب أيضا حوارين هما في الأصل حوار واحد، أعاد تحريره وقسمه إلى جزأين أحدهما حول فن الرواية والآخر حول التأليف الروائي..

ثم هناك قاموس يتضمن 63 كلمة، يعتبرها كونديرا مفاتيح أعماله كلها، يقدم لها شرحا وتحليلا، بعدما نصحه ناشره الفرنسي بذلك، حين تضاربت وجهات نظر المترجمين لأعماله حول معنى هذه الكلمات، ورأى فى هذا القاموس الصغير حلا قد يساعد المترجمين على فهم أعماله بشكل أكثر دقة.

أما المقال الأخير، فهو كلمة ألقاها عند فوزه بإحدى الجوائز، وهو مقال قصير أضيف إلى الكتاب ليصبح سبعة أقسام، الرقم " التميمة " الذى تحمله جميع أعماله.

الانحطاط والتقدم

يرى كونديرا أن عصرنا عصر ملتبس، فهو منحط من جهة ومتقدم من جهة أخرى، يحمل فى داخله بذرة نهايته منذ بدايته مثل كل ما هو إنساني، وأن الإنسان الذى رفعه " ديكارت " إلى مرتبة " سيد الطبيعة ومالكها " أصبح الآن مجرد شيء فى نظر القوى المختلفة " تكنولوجية " أو سياسية أو تاريخية " فهى تمر به وتتخطاه وتمتلكه، بحث غدا وجوده الواقعى وعالمه الحى بلا قيمة أو أهمية، ولهذا توارى الإنسان الفرد وكأن العالم قد نسيه أو تناساه. ويستشهد بكلمة للكاتب " جومبريفتش " بقدر ما هى كوميدية فهى رائعة يقول: " إن أهمية أنفسنا تعتمد على حجم سكان الكوكب " .

وهكذا فإن " ديمقريطس " يساوى واحد على أربعمائة مليون، و " برامز " واحد على مليار، وجومبرفتش نفسه واحد على مليارين، وبذلك الحساب فإن قيمة الإنسان تصبح أخف وأخف حتى أننا تخطينا الحدود الحاسمة.

كما يرى أن مؤسس العصر الحديث ليس " ديكارت " وحده، بل " سرفانتس " أيض . وهو يعنى إنه إذا كانت الفلسفة والعلم قد نسيتا الوجود الإنسانى بالفعل ، فقد بدا واضحا إنه مع " سرفانتس " قد تشكل فن عظيم لم يكن هدفه إلا البحث فى هذا الوجود المنسى للإنسان، فالأفكار الوجودية العظيمة التى حللها " هيدجر " فى كتابه " الوجود والزمن "، واعتبر أن كل الفلاسفة الأوربيين السابقين قد أهملوها، قد عرضت وشرحت وكشف عنها خلا أربعة قرون من الرواية، فقد اكتشفت الرواية بطريقتها الخاصة ومنطقها الخاص الأبعاد المختلفة للحياة واحدا إثرالآخر.

فمع " سرفانتس " ومعاصريه استقصت الرواية طبيعة المغامرة البشرية، ومع " ريتشاردسون " بدأت فى تفحص ما يجرى داخل الإنسان لتكشف الحياة السرية للمشاعر البشرية. ومع " بلزاك " تكشف تجذر الإنسان فى التاريخ، ومع " فلوبير " ترتاد أرض الحياة اليومية التى كانت خافية من قبل، ومع " تولستوى " تركز على اقتحام غير المعقول فى السلوك والقرار الإنسانى. ثم تسبر أغوار الزمن مع بروست وجويس، الماضي المراوغ عند بروست، والحاضر المراواغ عند جويس. وتتفحص مع " توماس مان " دور الأساطير القديمة فى حكم أفعالنا الحاضرة .. وهكذا.

لقد اصطبحت الرواية الإنسان بإخلاص ودون توقف منذ بداية العصر الحديث، والمبرر الوحيد لوجود الرواية هو أن تكتشف ما يمكنها أن تكشفه فقط، والرواية التى لم تكتشف قطعة مجهولة من الحياة رواية ناشزة، فالمعرفة هى الفضيلة الوحيدة للرواية.

لكن الزمن تغير، فبعد أن كان البطل الروائى يبحث عن مغامرات من اختيار الخاص، أصبح الآن بلا اختيار، تفرض المغامرة عليه وهو فى مصيدة هذا العالم.

تآكل عقلية الشك

لقد تآكلت العقلية الديكارتية فى عصرنا، ومعها كل القيم التى ورثناها واحدة إثر أخرى، فحين يحقق العقل الانتصار، تسيطر اللاعقلانية الخالصة على المسرح العالمى، وتصبح القوة هى التى تختار إرادتها، لأنه لم يعد هناك نظام قيم عام ومقبول يسد الطريق أمامها.

وهو يرى أن الروح العامة التى تسود وسائل الإعلام فى العالم كله، من التبسيط إلى الآراء المبتذلة التى يتقبلها بسهولة أكبر الاعداد من البشر، هذه الروح على نقيض مع روح الرواية. روح الرواية هى روح التعقيد، فكل رواية تقول للقارئ " ليست الأمور بيطة كما تتخيل " وتلك هى حقيقة الروح الخالدة التى أصبح من الصعب سماعها وسط ضوضاء الاجابات السهلة السريعة التى تأتى أسرع من السؤال وتمنعه من القيام بدوره.

روح الرواية هى روح الاستمرارية، كل عمل هو إجابة لأعمال سابقة، كل عمل يحتوى كل الخبرات السابقة للرواية، لكن روح عصرنا مركزة بثبات على الحاضر الذى هو متسع وزاخر بحيث يدفع الماضى بعيدا عن مدى رؤيتنا ويختصر الوقت على اللحظة الراهنة.فى داخل مثل هذا النظام لم تعد الرواية عملا يكتب ليبقى، وليربط الماضى بالمستقبل، بل حادثة عابرة وسط العديد من الاحداث، مجرد ايماءة بلا غد.

لكن ماذا عن رؤيته لطبيعة الفن الروائى الان: هو يرى أن العقد القديم بين الرواية والقارئ قد كسره الكتاب المعاصرون ابتداء من كافكا وموزيل وبروخ وغيرهم، هذا العقد القديم بين الرواية والقارئ قد كسر الكتااب المعاصرون ابتداء من كافكار وموزيل وبروخ وغيرهم، هذا العقد القديم الذى يقول: على الكاتب أن يقدم أكبر كمية من المعلومات عن شخصياته ومظهرها الخارجى وطريقتها فى الكلام والتصرف، وعليه أن يجعل القارئ يتعرف على ماضي الشخصيات لأن فى ذلك تقع كل دوافعها فى تصرفاتها الحاضرة، وعلى الشخصية أن يكون لها استقلالها الكامل، بمعنى أن المؤلف بكل وجهات نظره، عليه أن يختفي حتى لا يزعج القارئ الذى يريد أن يترك نفسه للوهم، ويعتقد أن الخيال حقيقة.

وعلى الرغم من أن " كونديرا " قد اشترك مع الروائيين المعاصرين فى تحطيم هذا العقد القديم بين الرواية والقارئ، فإنه يختلف مع الحداثة الروائية السائدة- التى يسميها حداثة المؤسسة- بقدر ما يتفق مع حداثة " بروخ " المجددة فى هذا القرن.

فالحداثة السائدة تصر على تدمير الشكل الروائي، وهو يرى أن إمكانات الشكل الروائي أبعد ما تكون عن الاستنفاد.

والحداثة السائدة تريد من الرواية أن تتخلص من فكر الشخصية، حيث تفترض أنها ليست فى النهاية إلا قناعا يخفى بلا هدف شخصية المؤلف.. بينما هناك من الروائيين من لا يمكن اكتشاف شخصية المؤلف فى أعمالهم.

كما أن الحداثة السائدة تنفى فكرة الكلية، بينما فى عصر التقسيم المفرط للعمل والتخصص الحاسم فإن الرواية تظل أحد المخافر الأخيرة حيث يمكن للإنسان أن يظل متمسكا بالحياة بكل كليتها.

وترى الحداثة السائدة أن هناك حدا معينا يفصل الرواية الحديثة عن الرواية التقليدية .. مع أن الرواية الحديثة تواصل البحث نفسه الذى شغل كل الروائيين العظام منذ سرفانتس وحتى الآن.

كما أن هناك وهما ساذجا وراء حداثة المؤسسة السائدة وهو أن تاريخا روائيا ينتهى وتاريخا جديدا أفضل يبدأ مؤسسا على قواعد مختلفة كليا.. وكم فى هذا من تضليل.

ولكن يكف يرى كونديرا، الرواية النموذجية من وجهة نظره التى يكتب بها..؟

وما هى الأسس التى يبني عليها رواياتة.

- لا بد أن يكون هناك وضوح معماري فى الرواية.

- لا بد أن تكون الرواية مركبة، تندمج فيها العناصر المختلفة- من سرد وحكمة وريبورتاج ومقال- فى وحدة حقيقة متعددة الأبعاد.

- لابد أن يكون الفن الروائي الجديد متميزا بالتعرية والتجريد، بعيدا عن الثرثرة غير اللازمة، متخلصا من آلية التكنيك الروائي، كي تكون الرواية مكثفة.

- أن يحتوى الفن الروائي على طباق روائى Counter Point يخلط الفلسفة والسرد والحلم في موسيقى واحدة .

- يجب على الفن الروائي الجديد ألا يحمل رسالة نهائية حاسمة بل يظل افتراضيا وساخرا بالدرجة الأولى.

- وأن يكون السرد المتعلق بالأحلام والرؤى أو الخيال متحررا من سيطرة العقل، ومن الاهتمام بالاحتمالات، أن يكون مجازفات فى مشهد طبيعى متعذر على التفكير العقلى، فالحلم هو فقط نموذج نوع الخيال الذى يعتبره الاكتشاف الأكبر للفن الحديث. ولكي يمكن للخيال غير المسيطر عليه أن يندمج فى الرواية، وأن يتحد مع العناصر المتباينة الأخرى، فذلك يحتاج إلى " كيمياء " فنية حقيقية، لأن الحلم الروائي المطلوب ليس تقليدا واقعيا للأحلام من النوع الذى نجده عند تولستوى أو توماس مان، بل سرد يكون فيه الحلم والواقع مترابطين ومختلطين تماما بحيث لا يستطيع المرء تمييزا أحدهما عن الآخر. ولقد حقق " نوفاليس " بعض ذلك، ولكن الذى حقق ذلك بشكل رائع هو " كافكا " الذى تمثل رواياته ذلك الانصهار الكامل للحلم والواقع، وتحديقا واضحا متفوقا على العالم الحديث بأكثر أنواع الخيال المتحرر بالإضافة إلى تقديمه ثورة جمالية هائلة.

ولقد طور كونديرا ذلك فى رواياته، ليس عن طريق صهر الحلم بالواقع بل عن طريق المواجهة بين الأصوات المتعددة المتآلفة، على اعتبار أن السرد الخاص بالحلم هو أحد عناصر إلطباق الروائي. فهو يكتب رواياته على مستويين: أولا يكتب قصة الرواية، ثم يطور الموضوعات التى تتحقق باطراد داخل ومع القصة فى آن واحد.

فهو يرى أنه حين تهجر الرواية موضوعاتها وتستقر على مجرد حكى قصة، فإنها تغدو مسطحة، فالموضع هو تساؤل وجودي، وهو فى النهاية استنطاق لكلمات معينة، كلمات من الموضوع، فالرواية قائمة فى المقام الأول على كلمات أساسية معينة تشبه صفا من النغمات عند شوينبرج.

كونديرا مختلفا

لكن بم تختلف روايات كونديرا عن غيرها من الروايات المعاصرة؟ فكونديرا لا يكتب الرواية السيكولوجية.. لكنه لا يرفضها، ولا يستخدم المونولوج الداخلي فى رواياته .. وهو يرى أن جويس استخدامه بما فيه الكفاية كما أن روابات ليست اعترافات مؤلف.. بل بحث فى النفس الانسانية داخل المصيدة التى أصبحها هذا العالم بما لايتعارض مع البند الأول. ويشبه العالم بالمصيدة لأننا أصبحنا أكثر وأكثر محكومين بشروط خارجية، ومواقف لا يمكن أن يهرب منها أحد، مما يجعلنا جميعا نتشابه بدرجة كبيرة، وهو يعامل الظروف التاريخية- فى رواياته- بأكبر اقتصاد ممكن، ويحتفظ فقط بتلك التى تخلق موقفا حياتيا ملهما للشخصيات، كما أن رواياته فى مجملها بحث عن الإمكانات التي لدى إنسان واقع فى مصيدة، والخطة المعمارية لرواياته- كلها عدا واحدة- قائمة على الرقم " سبعة " ، وهو متأثر جدا بالموسيقى، وقد ظل منجذبا لها أكثر من الأدب حتى سن الخامسة والعشرين.

فهو يقسم الرواية إلى سبعة أقسام، والاقسام إلى فصول، والفصول إلى فقرات، كل منها تشخص بحالة سردية خاصة. مثلا فى رواية " الحياة هى فى مكان آخر ":

القسم الأول: سرد متتابع بارتباط سبيى بين الفصول، والقسم الثالث: سرد غير متتابع دون ارتباط سبيي بين الفصول، والقسم الرابع: سرد متعددد الابعاد.

القسم الخامس: سرد متتابع عادى، والقسم السادس: سرد متتابع عادى، والقسم السابع: سرد متعدد الأبعاد.

وكل قسم له منظوره الخاص، ومروي من وجهة نظر ذات متخلية، وكل له طوله الخاص، وتتابعه الخاص، ففى الرواية نفسها التتابع هو " طويل / قصير / طويل / قصير / طويل / قصير جدا / قصير جدا.

ولكل فصل كيانه المكثف بذاته، ومن هنا إصراره على أن يجعل الناشر الأرقام واضحة والفصول مفصوله عن بعضها بشكل واضح، فهناك تشابه بين الرواية والموسيقى عنده. القسم حركة، والفصول إيقاعات. هذه الإيقاعات قد تكون قصيرة أو طويلة أو مختلفة الأطوال، مما يحدد درجة الحركة فيها، فكل قسم يمكن أن يحمل إشارة موسقية: بطيء، سريع، أسرع.. وهكذا.

إن هذا الكتاب عن فن الرواية الذى كتبه أحداهم. الروائيين فى هذا العصر، يلقي بشكل واضح الأضواء على هذا الفن، أكثر بكثير مما فعهل العديد من النقاد المعاصرين.

 

أحمد عمر شاهين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب