الطرق يصنعها المشي

الطرق يصنعها المشي

(أيها المسافر ليس هناك طريق, الطرق تُصنع بالمشي), عندما قرأت هذه النصيحة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو كان الوقت قد فات, كنت صنعت وأنا أمشي, بل أطير حول العالم طريق (سندباد علمي), أخذتني هذه الطريق خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين إلى عشرات الجامعات والمراكز والمعاهد والمتاحف العلمية والمؤتمرات والمعارض والحاضنات التكنولوجية, ومتنزهات العلوم, والمستشفيات التعليمية, ومختبرات الطب والزراعة والفيزياء والكمبيوتر, ومصانع التكنولوجيا المتقدمة, والطيران, والمطارات الفضائية. وكتبت وأنا في حل وترحال نحو نصف مليون كلمة سنوياً عن العلم والعلماء, وتحدثت في التلفزيون والإذاعة, وألقيت محاضرات, وساهمت في مؤتمرات, وأعددت دراسات وكتبت عن أحدث التطورات في العلوم والتكنولوجيا واللاعبين الرئيسيين فيها, وشرعت بمساعدة جامعة إيلينوي في إنتاج مسلسل تلفزيوني عن العلماء العرب في الخارج لم أنته منه حتى الآن.

لكني كنت في جميع الأحوال سندبادا يحلق محمولاً على ما يسمّيه عالم الفيزياء الألماني ألبرت أينشتاين (أجنحة الدهشة الدائمة, التي تشكّل أساس الاكتشافات العلمية), هذه الأجنحة حملتني إلى جامعات موسكو ولندن وإمبريال كوليج وكيمبردج وأوكسفورد وهارفرد وكولومبيا وتافت ولوس أنجلوس وكالتيك وإم آي تي, وإيلينوي وغرب أونتاريو, وسنترال فلوريدا وعمان والقاهرة, والملك سعود, والملك فهد, والعين, والخليج العربي, قضيت أياماً ممتعة في الأقسام الداخلية لبعض هذه الجامعات, وزرت بعضها مرات عدة, ومكثت في أخرى ساعات, لكني لم أرجع من أيّ منها خالي الوفاض أبداً.

حافة الأحداث

معظم العلماء, الذين التقيتهم يعملون على ما يسمّيه العالم الأمريكي جيرالد إيدلمان (الحافة المتحركة للأحداث), أكثرهم تواضعاً كان يعلمني ما لم أعلم, وعلماء قديرون يشرحون لي العلم, ويصوّرون ما يعسر عليّ تصوّره, وعلماء مرموقون كانوا يلهمونني.

الشيء الوحيد الذي افتقدته في التعامل مع العلم والعلماء هو الوقت, وأسوأ شيء في الحياة, كما تقول النجمة السينمائية كاترين دينوف (هو ألا نجد الوقت الكافي للاهتمام بالناس الذين نحبّهم, والأشياء التي نحبّها), هذا هو سر المذاق اللاذع لحكايات سندباد علمي عن العلماء والمهندسين الذين كشفوا لعينيه لؤلؤ عقولهم وقلوبهم, ففي اللقاءات الخاطفة خلال الأسفار, تضيء الذاكرة والقلوب كما لنجم عابر في سماء الحياة قد لا تُتاح رؤيته مرة أخرى, لآلئ مضيئة عدت بها من لقاءاتي بمحمد عبدالسلام, الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء, والياس خوري, الذي نال نوبل في الكيمياء, والسير مايكل عطية, الذي نال أعلى الجوائز العالمية في الرياضيات, وتسنم أرقى المناصب العلمية في بريطانيا, ومصطفى شاهين رئيس العلماء في مختبر (الدفع النفّاث) التابع لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) والدكتور فخري البزاز, أستاذ الأحياء في جامعة هارفرد, وعضو أكاديمية العلوم والفنون الأمريكية, والدكتور منير نايفة أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة إيلينوي أربانا شامبين, الذي ارتبط اسمه برصد وتحريك الذرات المنفردة.

وإلى التخوم العلمية البعيدة أخذتني لقاءاتي مع الأعضاء العرب في الأكاديمية القومية للعلوم في الولايات المتحدة: أحمد زويل, الحائز على جائزة الملك فيصل والفائز بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 99, وصالح الوكيل, الحائز على جائزة الكويت للتقدم العلمي, الذي قال عنه بيان انتخابه عضواً في الأكاديمية القومية للعلوم في الولايات المتحدة إنه أحدث ثورة في علوم الطب, ومصطفى السيد, الحائز على جائزة الملك فيصل للعلوم, عن أبحاثه الرائدة في الطاقة الشمسية, ورمزي قطران مؤلف (أسس علم الأمراض), وهو الكتاب المقرر للتدريس في معظم كليات الطب, وتُرجم إلى أكثر من 40 لغة بينها الصينية واليوغوسلافية والفارسية.

وامتد نطاق أسفاري إلى نجوم العلوم والهندسة العالمية, مثل زهاء حديد, التي تعتبر أشهر مهندسة معمارية في العالم, والسير ديفيد أتنبورو, مؤلف الكتب ومسلسلات التلفزيون المشهورة عن الطبيعة, وآرثر سي كلارك, الذي كتب 600 كتاب في العلوم, ويعتبر من أشهر كتاب روايات الخيال العلمي, والدكتور مصطفى كمال طلبة الذي قاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة فترة 18 عاماً, وليونيد ليدرمان, الحائز على نوبل في الفيزياء, وسيرجي كابيتسا عضو أكاديمية العلوم الروسية المشهور بنظريته الفيزيائية التي تنفي خطر الانفجـار السكاني العالمي.

أصناف العلماء

والعلماء كالصينيين لغير الصيني, يبدون متشابهين, لكن عند التعرّف عليهم عن قرب يكتشف الشخص أنهم أصناف شتى, بينهم, كما كان يقول العالم اللبناني الأصل السير بيتر مدور, الذي نال جائزة نوبل في الطب عام 1961: (جامعو تحف ومصنّفون ومصابون بهوس الترتيب, وعدد كبير من العلماء رجال بوليس سري بالسليقة, وكثير منهم مستكشفون, وبعضهم فنانون, وآخرون حرفيون, وهناك علماء شعراء وعلماء فلاسفة, وحتى بعض الغيبيين).

والعلماء ليسوا قدّيسين, عرفت ذلك قبل أن يخبرني به البروفيسور ليون ليدرمان, الذي أشرف عشر سنوات على إدارة مختبر الفيزياء المشهور (فيرمي لاب) في الولايات المتحدة, وعرفت علماء ينطبق عليهم قول ليدرمان (العلماء بشر يعانون من ضروب النقص ومشاعر الطمع والخوف والتضخم الذاتي والعجرفة, بل بعضهم يعمل في صناعات كصناعة السجائر, التي أهلكت أرواحاً أكثر مما أهلك جنكيزخان وهتلر وستالين)!

مع ذلك, لم يتردد عالم واحد, حتى الذين يحترمون هتلر وستالين في وضع كنز المعرفة أمامي, وربما باستثناء علماء الطب الذين يمارسون الطب ويدرسونه في آن, لم يخلف موعداً معي أي عالم, مهما بلغ شأنه في العلم, ولم ينفد صبر أيّ منهم, إذ يشرح ويعيد شرح علمه, والصبر أهم ما يميز العلماء, الصبر ليس على العلم فقط, بل على طالبي العلم أيضاً.

مرة طلبت بالهاتف من لندن الكاتب البريطاني آرثر سي كلارك المقيم منذ ثلاثة عقود في كولومبيا, عاصمة سري لانكا, حدث ذلك قبل أيام من بدء العمليات العسكرية في حرب الخليج, وسألت آرثر كلارك عمّا إذا كـان الوقـت ملائماً للحـديث عن الحرب الألكـترونية, وأجاب كلارك بـصوت شبيه بصوت الإنسان الآلي في فيلم (ملحمة الفضاء 2001) الذي كتب قصته: (هل تعرف انه منتصف الليل في كولومبيا?).

ودون أن ينتظر اعتذاراً مني, تدفق في الحديث عن فقدان السياسة والاقتصاد أهميتهما في المستقبل, وقال إن كثيراً من الخلافات الحالية حولهما سيصبح تافهاً وغير ذي معنى, كالنقاشات اللاهوتية التي استنزفت أفضل العقول والطاقات في القرون الوسطى, (فالعلم هوالذي سيرسم طريق المستقبل والشيء الوحيد الأكيد في شأن هذا المستقبل أنه سيفوق حدود الخيال), وانطلق بالحديث عن الفتوحات الباهرة, التي حققتها التكنولوجيا, والثروات العقلية والمادية, التي أطلقتها العلوم, وقارن بينها وبين بؤس السياسة والاقتصاد, اللذين بقيا أسيري أفكار قديمة وخيالات فقيرة.

ونصح كلارك السياسيين المتحمّسين للحرب بقراءة روايات الخيال العلمي بدلاً من روايات رعاة البقر والقصص البوليسية, كنت أخربش في دفتر الملاحظات محاولاً متابعة تدفق أفكار آرثر سي كلارك, ولست متأكداً حتى الآن فيما إذا كان المتحدث معي هو آرثر سي كلارك أم الكمبيوتر المشهور في قصته السينمائية (ملحمة الفضاء 2001)?

الوقت الوقت الوقت

منتصف الليل في كولومبيا السادسة مساء في لندن, ومنتصف الليل في لوس أنجلوس التاسعة صباحاً في الرياض, الوقت معضلة بالنسبة لكل من يفرض عليه عمله اليومي اختراق المناطق الزمنية حول العالم, وعلى طريق سندباد علمي عرفت معنى قول فيلسوف الاتصالات الكندي مارشال ماكلوهن (الوقت معضلة للإنسان التكنولوجي كما كان المكان لرجل القبيلة معضلة لا يمكن السيطرة عليها).

والوقت أكبر معضلة لمن يحاول دخول مختبر (ميديا لاب) Media Lab في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا, ويُدعى اختصاراً (إم آي تي) MIT, يقع هذا المعهد, الذي يقال إن الولايات المتحدة ربحت به الحرب العالمية الثانية في مدينة يطلق عليها اسم (كيمبردج ماساشوستس) لتمييزها عن كيمبردج الأصلية في بريطانيا, وإذا كان في كيمبردج الأصلية جامعة واحدة, ففي كيمبردج ماساشوستس أكثر من جامعة, بينها هارفرد, محطة طريق (سندباد علمي) إلى أي مكان في الولايات المتحدة, وتقول عبارة شائعة في ساحة هارفرد يمكن أن يلتقي الشخص كل عشر دقائق عالما واحدا على الأقل حائزا على جائزة نوبل, وقد التقيت في هارفرد وتناولت الغداء علماء عديدين من حملة نوبل, لكنني أخفقت دائماً في الحصول على موعد لزيارة (ميديا لاب) الذي يعتبر أشهر مختبر للمعلومات والإعلام في العالم, فمواعيد الزيارات في (ميديا لاب) تُحجز قبل شهور, ومعظم رحلات سندباد علمي تقرر خلال أيام, ولم أفاجأ في آخر زيارة لكيمبردج ماساشوستس عندما اتصلت هاتفياً بمديرة العلاقات العامة في (ميديا لاب) فأخبرتني أن أقرب موعد ممكن للزيارة بعد شهر.

بعد ساعات قليلة كانت المفاجأة من نصيب المديرة الأمريكية حين وجدتني ألاعب والبروفيسور جان مخول الحيوانات (الافتراضية) التي طوّرها مختبر (ميديا لاب), انزعاجها الظاهر عندما قدمت نفسي لها تحوّل بسرعة خاطفة إلى ابتسامة تواطؤ, حين علمت أنني قدمت مع جان مخول. باحثو (ميديا لاب) يتحيّنون منذ شهور فرصة لقاء العالم اللبناني الأصل, المختص بتعليم أجهزة الكمبيوتر التخاطب مع البشر!

عرب باسادينا

الوقت الوقت الوقت, في صباح اليوم التالي, كان لي أغرب لقاء بالوقت في مدينة باسادينا على الجانب الغربي من الولايات المتحدة, باسادينا الخضراء الأنيقة, تضم عربا مدهشين, بينهم فنانة عراقية الأصل اسمهـا هناء الوردي, أقامت جدارية سيراميك في واجهة عمارتها تضم منحوتة أسد بابل, وملوية جامعة سامراء, وعبارة (لا غالب إلاّ الله), وفي باسادينا العالم اللبناني الأصل مصطفى شاهين, رئيس العلماء في مختبر وكالة الفضاء, الذي يُقال إنه الوحيـد الذي يعرف حقيـقة ما يجري لمناخ الكرة الأرضـية, وفي باسـاديـنا الدكتور أحمد زويل العالم المصري الأصل الذي ابتكر طريقة لقياس الوقت الذي تستـغـرقه عملية التفاعل الكيماوي, لم يكن العلم قبل زويل يعرف كم تستغرق لحظة التفاعل, التي تشكّل أساس جميع النشاطات الكيماوية داخل جسم الإنسان والطبيعة, لحظة خارقة يمكن تصوّرها عند مقارنتها بسرعة الضوء, فالضوء يقطـع في ثانيـة واحدة المسافة بين القمر والأرض, في حين تستـغرق عملية التفاعل الكيماوي ما يعادل الزمن الذي يقطع الضوء خلاله واحداً في المائة من سُمـك شعرة إنسان, لحظة التفاعل هذه التي تجري بسرعة مليون من البليون من الثانية التقطـها العالم العربي لأول مرة في تاريخ العلم, إنها تعـادل في تقـدير الكاتب العلمي المشهور آيزاك أزيموف تصويب دبوس نحو فقاعة لا يزيد حجمها عن أربعة من البليون من البوصة, وهو الحجم التقديري للجـزيء الذي يتكون خلال عملية التفاعل الكيماوي, تقاس هذه اللحظة بوحدة زمنية فائقة الصـغـر يطلق عليها اسم (فمتو ثانية) وتعادل ثانية واحدة من 32 مليون سنة.

في مختبر زويل, الذي يعد من المعالم السياحية في كاليفورنيا, يمكن رؤية هذه اللحظة الخارقة, وكل لحظة مع زويل خارقة, بما في ذلك الطريق الطويل بالسيارة من باسادينا إلى المطعم العربي الذي تناولنا فيه عشاءنا في مدينة السينما هوليوود, كان زويل يشرح لي, فيما هو يقود سيارته علاقة عمله بفيزياء الكم, وفي المطعم شعرت وأنا أمزمز صحون الفول المدمس والحمص بطحينة وفتوش أنني أقرب ما أكون إلى فيزياء الكم, وفي اللحظة الحاسمة من شرح زويل, وقفت في وسط صالة الرقص حسناء عربية من ضيوف المطعم, وبدأت ترقص أجمل رقص شرقي شهدته في حياتي, ترقص لنفسها, هذا سر سحرها, وأفلتت مني فيزياء الكم, التي تعتقد أن الجسيمات في باطن الذرة ترقص للرائي, وفكرت أنني ومعظم سكان العالم سنغادر القرن العشرين من دون أن نفهم فيزياء الكم, العزاء الوحيد أننا نشارك في عدم فهمها أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين, ألبرت أينشتاين قال بعد أن حضر محاضرة عنها ألقاها وارنر هايزنبرغ (بديع, أي أفكار عند الشباب هذه الأيام, لكنني لا أصدق كلمـة واحـدة منها), وحتى ريتشارد فاينمان عالم فيزياء الكم, الذي نال جائزة نوبل كان يعترف بأنه يشعر بالتوتر العصبي عند الحديث عنها: (تعلمون, هكذا هو الأمر دائماً مع أي فكرة جديدة, فقد يمر جيل أو جيلان حتى يتضح عدم وجود مشكلة), ويضيف فاينمان مستدركاً: (لا أستطيع أن أحدد المشكلة الحقيقية, لذلك أشك في وجود مشكلة حقيقية, لكني لست واثقاً من عدم وجود مشـكلـة حقيقـية)!

هؤلاء هم العلماء, ليسوا على يقين من يقينهم, وهذا هو سحر طريق سندباد علمي.

 

محمد عارف