اللغة حياة

اللغة حياة

التضييق على مستعملي اللغة

يخيّل إلى بعض الاختصاصيين في اللغة، أو شبه الاختصاصيين، أن العربية ملك لهم، وأن مفاتيحها في أيديهم وحدهم، إن شاءوا فتحوا أبوابها، وإن أرادوا أغلقوها في وجه خلق الله. وهذا أسلوب من التفكير غير علمي وغير عملي، وفيه كثير من الغرور، ويدعو أحيانًا إلى السخرية، لما فيه من مفارقات، حتى أصبح بعض أهل اللغة محل قصص هزليّة.

فليس على اللغوي أن يدّعي احتكار المعارف اللغوية، وأن يتخيّل الناس واقفين على بابه يستجدونه الإذن بهذا الاستعمال أو ذاك، بل عليه أن يكون خادمًا للغة ولمستعمليها، خاضعًا لما اتفق الناس عليه من استعمال، ولو لم تقرّه القواعد أو المعاجم التي بين يديه. إن الاستعمال هو الملِك في أيّ لغة، فإذا شاع استعمال ما، فليس على اللغوي أن يبحث عمّا يدل على خطئه، بل عليه أن يبدأ بداية إيجابية، فيبحث عن أدنى مسوّغ له. فإذا وجد ذلك المسوّغ، من غير إكراه للمعطيات اللغوية ولا تعمّل، كان خيرًا، واستوى الأمر مع طبيعة الأشياء، وإلا كان من حقّه أن يشك في صحة الاستعمال، وأن يدع لنفسه ولغيره الوقت الكافي للتأكد من غياب الدليل، لأن التخطئة كالحكم بالإعدام على عبارة أو صيغة، ولذلك فهي تقتضي الحرص الشديد والتمهّل في الحكم، واستقصاء جميع معطيات اللغة المتصلة بالموضوع، على حين أن التصويب لايحتاج إلا إلى دليل واحد على جواز الاستعمال. فما بالك لو قام اللغوي بتخطئة الاستعمال اعتمادًا على معارفه المحدودة وسليقته؟

وسأضرب مثلاً على ذلك، تصحيح أحد أصدقائنا لكلمة «رُفات» ومعناها العظام المتفتتة أو ما يشبهها، إذ لحظ استعمالها في وسائل الإعلام بوصفها مفردًا مؤنثًا أو جمع مؤنث سالمًا، فأوضح أن الرُفات في العربية مفرد مذكر لا جمع له، وأصله «رَفَت». والحق أن لرأيه ما يؤيده من شروح المعاجم، ومن الأوزان الصرفيّة، فليس من أسماء على وزن «فعال» (بضم الفاء، كحطام) إلا مفردة مذكّرة، ولا نجد بينها جمعًا إلا في الندرة. هذا لا يعني أن استعمال أهل الإعلام لا تسويغ له، لكنّ صديقنا لا يحتمل أيّ تسويغ، بل يفرض أمرًا قاطعًا بوجوب القول: هذا الرّفات وهذان الرفاتان... إلخ. من غير أن يشير إلى ما يمكن قوله في الجمع.

ولذلك لابد من تسجيل الملحوظات الآتية:

1- لقد أحصينا، بصورة عشوائية، طريقة استعمال الصحف العربية لكلمة رفات، فوجدنا أن ثلثي تلك الصحف تؤنّث الكلمة أو تعتبرها جمعًا.

2- سألنا أحد المؤلفين البارزين في الأدب والنقد والبلاغة من أساتذة اللغة العربية في الجامعة اللبنانية: «كيف تقول: هذا أم هذه الرّفات؟». فأجاب على البديهة كبدوي قديم: «والله لا أقول إلا هذه الرفات».

3- إن الكلمة قليلة الاستعمال، على ما يبدو، ونكاد لا نجد لها من القديم إلا شاهدًا قرآنيًا واحدًا تكرّر في آيتين كريمتين، وهو: أئذا كنا عظاما ورفاتًا أئنّا لمبعوثون حيث عطفت «رفات» على «عظام». وأوحى هذا العطف أنها جمع، كما نجد شاهدًا آخر في حديث نبوي شريف هو: «فأكلته الأرضة وعاد رفاتًا». وفي معجم «لسان العرب» أن بعضهم قال: «إن الورس يتفتت ويصير رفاتًا». وليس في الشواهد الثلاثة ما يؤكد إفراد كلمة رُفات أو تذكيرها، وكلام المعاجم لا يكفي، لتقرير ذلك، ما لم يستند إلى شواهد ثابتة، وتلك الشواهد غير متوافرة.

4- يوحي الزمخشري، في «أساس البلاغة»، أن كلمة رفات صفة، وذلك حين يذكر عبارة «عظم رفات»، وهذا يعني أنها صفة على وزن «فُعال»، الذي يستوي فيه التذكير والتأنيث والتثنية والجمع، مثل فرات.

5- إن العرب انقسمت في كثير مما ليس له حسّ حقيقي، ولا علامة له تفرق بين المذكر والمؤنث، فأعطوه جنس بعض ما تعورف على تذكيره أو تأنيثه، ومثال ذلك كلمة «الحرب»، التي جعلها بعضهم مؤنثة، باستحضار كلمة مرادفة لها أو كناية عنها هي المعركة أو المقتلة، في أغلب الظن، وجعلها بعضهم مذكرة، باستحضار كلمة أخرى هي القتال. وليس ذلك تضمينًا متكلّفًا يخشى على العربية منه، كما قد يظن بعضهم، بل هو تصوّر ذهني طبيعي وعفوي يعترض أصحاب الاستعمال الأوّل للكلمة. ومثل ذلك كلمة «الفُلك»، التي استُحضرت فيها كلمة السفينة فأُنثت، واستحضرت كلمة المركب فذُكّرت، واستُحضرت كلمة السفن فجُمعت، وكل ذلك في القرآن الكريم. وكذلك المنون: ذكّرها من استحضر كلمة الموت، وأنثها من استحضر كلمة المنية، وجمعها من استحضر كلمة المنايا، وتأثر بنهاية الواو والنون. إنه تداع ارتجالي عفوي بين الكلمات وليس استدعاء لها.

ينتج عن ذلك كله أن كلمة «رفات» التي ليس لها من جنس حقيقي، ولا علامة تأنيث أو تثنية أو جمع تميّزها، ولا دليل على ما زعمته المعاجم من إفرادها وتذكيرها، بل ثمة إيحاء بأنها صفة على وزن (فُعال)، استدعت عند بعض الصحفيين المعاصرين لنا، فضلاً عن المؤلفين والقضاة، كلمات متعددة: الرمّة أو الجثة، فأنّثوها، واستدعت عند آخرين كلمة العظم المتفتت، فذكّروها، واستدعت عند فئة ثالثة كلمة العظام المتفتتة فجمعوها، أو استلهم بعضهم، في اللاشعور، وزن (فُعال)، فاعتقد أن «رُفات» صفة لا تتغير سواء دلّت على التأنيث أو على التذكير أو على غيرهما. وهذا حق للمعاصرين مثلما كان حقًا للقدماء، مادام المعاصرون يشبهون المستعملين الأوائل، ولهذا لا ينبغي التضييق عليهم وإكراههم على الالتزام بالنصوص المعجمية، فالمعجم مفيد جدًا، لكنه ليس نصًا مقدسًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس هو اللسان الحيّ الذي ينبغي العودة إليه، بل هو مخزن للغة نأخذ منه ما يوافق الاستعمال والحياة الصحيّة، ونترك ما يخالفهما.

 

مصطفى الجوزو