جمال العربية
جمال العربية
«باريس» في شعر شوقي في بعثته العلمية إلى فرنسا، التي جاءت بناء على رغبة من عزيز مصر الخديو توفيق باشا - كما سماه أحمد شوقي في مقدمته للشوقيات - قضى شوقي أربع سنوات في دراسة الحقوق، على أن يقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريس. يقول شوقي عن قصة هذه البعثة: «ثم لم يحل عليّ حول في الخدمة الشريفة - بالخاصة الخديوية - حتى رأى لي الخديو أن أبلغ التأديب في أوربا، فخيرني في ذلك، وفيما أريده من العلوم. فاخترت الحقوق لعلمي أنها تكاد تكون من الأدب، وأن لا قدم فيها لمن لا لسان له. فأشار الأمير عليّ عندئذ أن أجمع في الدراسة بينها وبين الآداب الفرنساوية بقدر الإمكان. ثم سافرت على نفقته فكنت أُنْقَد ستة عشر جنيها في الشهر، نصفها من المعية ونصفها من الخاصة. وأعطاني يوم سفري مائة جنيه، أرسل نصفها إلى مدير الإرسالية ليهيئ لي جميع ما أحتاج إليه حال وصولي، ودفع إليّ النصف بيده الشريفة. وما أنس من مكارمه - رحمة الله عليه - لا أنس قوله لي في ساعة الوداع: «لا حاجة بك منذ اليوم إلى أهلك فلا تُعنتهم بطلب النقود واعنت أباك هذا الغنيّ». فركبت البحر لأول مرة أؤم مرسيليا، فلما قدمتها وجدت مدير الإرسالية في انتظاري بها. فأخبرني أنّ الأمير يأمر بأن أقضي عامين في مدينة مونبلييه وآخرين في باريز. وكان المدير قادمًا من مونبلييه للقائي فعاد بي إليها على الفور، وهنالك قدّم لي جميع ما أحتاج إليه، وأدخلني في مدرسة الحقوق الجامعة، ثم رجع إلى العاصمة». غير أن ديوان شوقي - الشوقيات - لا يقدم لنا من أثر هذه السنوات الأربع في شعره، إلا ثلاث قصائد ومقطوعة من أربعة أبيات. وترتبط القصائد والمقطوعة ارتباطًا وثيقًا بباريس، وليس فيها التفات - من قريب أو بعيد - إلى مدينة مونبلييه وعامين عاشهما شوقي فيها، فقد استأثرت باريس بالاهتمام الأوحد، وهو أمر مفهوم وطبيعي. سواء كان هذا الاهتمام مصاحبًا لإقامة شوقي فيها كما حدث بالنسبة لقصيدة «باريس» ذاتها أو قصيدته «على قبر نابليون» أو مقطوعته عن «ميدان الكونكورد»، أما قصيدته الثالثة «غاب بولونيا» فقد أبدعها قرب ختام حياته في زيارة إلى فرنسا بصحبة ولديه عندما أخذهما ليتعلما هناك كما تعلم، والقصيدة التفاتة إلى الماضي، وحديث عن شوقي الذي ارتبط في مجال زهو الشباب وافتنانه ونشاطه العاطفي بغابات بولونيا التي يقصدها العشاق والمحبون. يقول شوقي:
هذه الالتفاتة إلى الماضي، بعد انقضاء زمن طويل على شباب شوقي في باريس، هي التي فرضت عليها هذا الطابع الشجيّ الأسيان، وهذا الالتفات في ذكريات اتسع لها صبا العمر وفورته ونشاطه. لكنه - وهو يبدع قصيدته - في زيارة أخيرة إلى باريس وعودة إلى مواطن الذكريات الأولى يأسى ليد النّوى أي الفراق، وتبدّد الشمل النّضيد، أو العقد الذي كانت حبّاته تنتظم هذا العمر الجميل والزمن الناضر. ويستوقف شوقي إبّان إقامته في باريس ميدان «الكونكورد» ومعناه «الوفاق»، (وهو الذي أُعدم فيه الملك لويس السادس عشر في أيام الثورة الفرنساوية) فيقول أبياته الأربعة:
وشوقي، شأنه شأن أي مصري، يرى في نابليون جزءًا من تاريخه المصري في مطلع العصر الحديث، عندما جاء غازيًا يحمل اسم «الجنرال بونابرت»، قائدًا لحملة فرنسا على الشرق، قبل أن تضطره تطورات الأمور - في مصر وفرنسا - إلى الهرب من مصر، وترك مقاليدها لخليفته «كليبر» الذي يقتل بدوره على يد سليمان الحلبي الطالب الأزهري، ويتولى من بعده «مينو» الذي كان إيذانًا بانتهاء الحملة الفرنسية على مصر. يتوقف شوقي أمام قبر نابليون مستعرضًا تاريخه الحافل، وانتصاراته الباهرة، وأحلامه ومطامحه في ملك فرنسا وغيرها من دول أوربا، انتهاءً بانكساره في معركة «واترلو» ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانه، والقضاء على الأسطورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. يقول شوقي:
ثم يقول بعد عدة مقاطع:
ثم يقول شوقي قرب ختام قصيدته الطويلة:
(يقصد بالكلمات الأربع العبارة المشهورة، التي قالها وهو في سفح الأهرام مشجعًا جنوده: «أيها الجنود: إن أربعين قرنًا من الزمان تُطلْ عليكم).
ولا يترك شوقي الفرصة قبل أن يستخلص العبرة ويوحي بالمغزى، وهو المولع دومًا بالتاريخ يرى فيه هو والطبيعة جناحيْ الشاعر اللذين دونهما لا يستطيع التحليق. إذن ليختم قصيدته أمام قبر نابليون بحكمة الدهر وعظة الزمان:
في قصيدته «باريس» يبلغ شوقي قمة تألّقه في تصوير باريس صورة مستقرة في وجدانه، وهي التي يصفها بأنها جمال العصر وجلاله، بل: العصرُ أنتَ جمالُه جلاله، هل بعد هذا كلامٌ يقال؟ إنها - كما يتردد في قصيدته البديعة - مكتبه قبل الشباب وملعبه، ومقيل أيام الشباب في زمن الطيش والحمق والنزوات، وهي مراح لذاته ومغداها، وسماء وحي الشعر. وشوقي ينعطف إلى باريس بعد أن فرّقت بينهما الأيام، ورآها معرّضة لعدوان المعتدي وغزْو الغازي إبّان الاجتياح في أتون الحرب العالمية الأولى. يقول شوقي:
ولقد وفّى شوقي بديْن باريس عليه شابًا ويافعًا، وردّ لها الجميل مضاعفًا بشعره الباقي على الزمن، وحنينه المشبوب الذي يحمله شعره وينقله إلى قارئه، فإذا بقُرّائه يُصبحون بعْض عشاق باريس، وطلابِ فتنتها وفنّها وثقافتها الحية المتجدّدة.
|