إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

ذهب أخضر

اكتشفنا اختفاء النفق الأخضر، والنفق الأخضر اسم أطلقناه - أولادي وأنا - على ممشى تغمره ظلال الأشجار العتيقة في شارع الغوطة بمدينة حمص التي نلوذ بابتراد نسائمها - أو هوياتها كما يقول الحماصنة - عندما تبلغ لذعات قيظ القاهرة الصيفي حدود الأذى وإزهاق الأرواح. وكان يطيب لنا في الأصياف الماضية أن ننطلق في ذلك النفق الذي يشكله التقاء هامات أشجار الكينا والصفصاف العتيقة المائلة على جانبي الممشى، فننعم بطراوة الظل حتى في الظهيرة. اختفى نفقنا الأخضر، وأصابني ذلك بانقباضة حزن رومانسية، لكنني سرعان ما اكتشفت جمال وأناقة الممشى الجديد الذي حل بمكان النفق. جزيرة مسيجة بالزهور وقناديل الأضواء الفضية والمزهريات الأنيقة العملاقة، بينما البلاطات المسواة جيدا تحت الأقدام من الأحجارالسود المشغولة بدقة واتساق بارع مع ممرات المشاة ومطبات الطريق ناعمة الأقواس والمعمولة من الحجر ذاته. صار الشارع أكثر إشراقا وأقدر على التنفس وتألق كواحد من أكثر شوارع المدن العربية جمالا وأناقة. والمدهش أن هذه الجرأة في التغيير الجمالي اجترحتها سيدة هي المهندسة لينا الرفاعي، أول سيدة - في حدود علمي - تشغل منصب رئيس المدينة أو العمدة في عالمنا العربي.

لقد أثار اختفاء الممشى القديم غضبا عابرا لدى البعض, كما أثار حزني في البداية، لكنني مع اكتشاف البديل الجديد، وخاصة تلك الشجيرات الشابة التي غُرست بمكان الأشجار القديمة، بدأتُ أرى في هذا التغيير - وما تعلق به من انفعالات - مغزى فلسفيا يتجاوز حدود شارع الغوطة الحمصي، ليترامى كقضية عربية عامة في زمن عربي ملتبس. ولأنني مجبول على التفكير بالصور، فقد بزغت في خاطري صورة النهاية العبثية للشاعرة الكبيرة الجميلة ملك عبدالعزيز، زوجة عملاق النقد العربي الحديث الدكتور محمد مندور. فقد سقطت عليها شجرة عجوز عملاقة من أشجار جزيرة الروضة, بجوار بيتها في القاهرة, فقتلتها على الفور. وعلى الفور انبثقت في ذهني صورة لغابات السويد التي تُعَدُّ الأخشاب من أهم ثرواتها حتى أسموها «بلاد الذهب الأخضر». فلكي تحتفظ السويد بقدرتها على تصنيع وتصدير أخشابها الثمينة العطِرة، لابد لها من قطع الأشجار في غاباتها. لكن هذا القطع يخضع لتقنين صارم ووفق منهج علمي محسوب بدقة. فمقابل كل شجرة قديمة تُقطع تتم زراعة شجرة جديدة عوضا عنها. وثمة جدول زمني ينظم القطع والزرع, بحيث يتواصل تدفق «الذهب الأخضر» وتستمر حيوية وكثافة الغابات السويدية الخلابة. معادلة ليست صعبة أبدا ما دمنا صممنا أن نكون عقلانيين وغير مكبلين بالماضويات الثقيلة، حتى الرومانسي منها. ماضويات التاريخ والفكر والأشخاص التي تقعدنا بدلا من أن تدفعنا بطاقة الحنين لنكون أفضل. لابد من ثنائية القطع والزرع. فلن يكون لدينا ذهب أخضر متواصل العطاء إلا بالتجدد الخلاق والمحسوب بعقلانية وجرأة. وإلا ستظل الأشجار العتيقة الآيلة للسقوط تقتل أجمل الشعراء وتُسكِت أبهى القصائد.

 

محمد المخزنجي