مساحة ود

مساحة ود

علمتني الأيام لعبة الفقد والبدائل، وكنت قد عرفت شيئا عن فن إدارة الأزمة، والصبر على الانفاق المعتمة، فصرت إذا فقدت وظيفة بحثت عن أخرى وإذا هدم لى بيت أقمت غيره، وإذا فقدت صديقة فكل الكائنات اللطيفة أصدقائي، طيور وحيوانات أليفة ونباتات وأزهار. صارت هذه هي بوصلتي التي توجهني، حتى حين أوقفتني ظروف الحياة في منعطف بين خيارين، أن أرتمي بين دوامات الحزن والكآبة أو أستأنف الحياة بلا أطفال، على الرغم من أن احساسي الغريزي بالأمومة ظل يطفر بالألم مثل جرح مفتوح، فاخترت الثاني. وذات يوم زرت صديقة تهـوى تربية القطط فامتد بنا الحديث عن مشاعر الدفء والألفة التي تبثها القطط في البيوت، وتمنحها للوحيدين، فيمدون بها جسرا مع الحياة. في ذلك اليوم قررت اقتناء قطة، وقد حدث ووافتني الصديقة نفسها بواحدة وفي سرعة فائقة ألفت التعامل مع القطة وألفت التعامل معي، وسارت عجلة الحياة بين العمل والقراءة والكتابة وقطتي إلى جواري تشاركني الطعام والنوم والجلوس في الشرفة الوحيدة المطلة على مدرسة للأطفال. وشيئا فشيئا اعتادت أن تشاركني جميع أنواع الطعام حتى الخضار المسلوق والحلوى وقزقزة اللب والفشار تماما كالأطفال. كانت تأكل هذه الأشياء بنهم شديد، وكنت ابتسم لمرأى القطة وهي تأتي بنفس شقاوة وعناد الأطفال حتى الرغبة في اللعب والقفز والمرح، وكانت أمومتي تتفجر ازاء الكائن الجميل الذي يتدفق بالحيوية والبهجة، فلم تكن قطتي شرسة أو شريرة أو نافرة كشأن بعض القطط، لكنها كانت على العكس تماما حنونة دافئة، حتى أنها ذات ليلة رأيتها تربت على خدي مثل بشر حنون. كنت أتحدث إليها وتفهمني، وحين لأ أناديها باسمها تأتي بمواء رقيق وكأنها تسألني "نعم.. ماذا تريدين؟" وحين أطالبها بالابتعاد عن النار أو أي من مظاهر الخطر كانت تستجيب، وكانت تجلس فوق شيش الشرفة لتتابع الأطفال في المدرسة المقابلة، وهم يقفون في طوابيرالصباح ويغنون الأناشيد ثم ينصرفون في طوابير منتظمة إلى فصولهم.

بعد وقت حين تزوجت قطتي وحملت، ورحت في فرح أهيئ لها مكانا بالدفء والأمان، وأرتب لها طعاما خاصا يليق بالقطة "مشروع الأم الجميلة"، وانتابتني مشاعر من تنتظر أحفادها بفائق الشوق واللهفة. كنت أشعر بأن أفراحي الصغيرة تكبر يوما بعد يوم. في يوم الولادة ظللت إلى جوار قطتي أتابع مشاعر التوتر والتعب، وأحوطها برعايتي وحناني حتى تدرك لحظة الولادة، تلك اللحظة التي ترجرج لها كياني حين رأيتها تضع ثلاث قطط تشبهها تماما، ثم امتلأ البيت بالفرح والبهجة وصار كأن أطفالا كثيرين يتحركون فيه. داهمني إحساس الاغتراب وأنني مجرد صاحبة للبيت أو خادم أمين يسعى لتلبية احتياجاتها واحتياجات صغارها. ثم اجتاحتني رغبة عارمة في زيارة جارتي التي أهملها أبناؤها بالبعد والجفاء، وكأنني أبحث عن سلوى كافية. كانت قطتي في حركتها السريعة تتفادى نظراتي إليها. وإذا بها ذات ليلة تنسل من بين صغارها وتأتي لتنام على ذراعي كعادتها. بدت وكأنها تربت على مشاعري، غير أنني رحت أحدثها- رغم غيرتي غير المعلنة- أنها صارت أما ولابد أن تظل إلى جوار صغارها، الذين هم في حاجة إلى حنانها ودفئها، ثم سخبرت من نفسي "هل ستعي القطة حديثي هذا". لكنني في الصباح صحوت على مشهد غريب اهتز له كياني، لأركما قطتي تنام على ذراعي، وفي المسافة ما بيني وبينها ينام صغارها.

 

 

نعمات البحيري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات