أرقـام

أرقـام

المال وحده لا يكفي

 

في المجال العسكري يمكن أن نطبق ما يقوله رجال الاقتصاد عن العائد والتكلفة، فنجن ننفق الكثير، لكننا نجني القليل من الأمن القومي، وكأنه إنفاق بلا عائد !

 

وفي المجال المدني يحدث نفس الشيء، مع بعض الفوارق، والمثال هو الإنفاق على التعليم، ذلك الذي تتخذه المنظمات الدولية كمؤشر رئيسي للتنمية البشرية.

في الأدبيات الدولية الحديثة يتخذون عدد الطلاب، وعدد المدارس والفصول، وحجم الإنفاق كمؤشر على التقدم في هذا البلد أو ذاك، ويربطون بين كل ذلك ونواح أخرى في الحياة مثل الصحة والسكان حيث تتجه الأسرة الأكثر تعليما لإنجاب أقل وحياة صحية أكثر ولكن، هل يكفي ذلك؟ السؤال تطرحه دراسة مهمة.

الأعلى إنفاقا في العالم

تقول د. نعمت شفيق نائب رئيس البنك الدولي في ورقة تثير فيها الأسئلة أكثر مما تضع من إجابات إن دول الشرق الأوسط تنفق 5.2% من الناتج المحلي على التعليم، وهو أعلى معدل إنفاق على هذا المرفق في العالم كله، حيث تبلغ نسبة الانفاق للناتج في الدول الصناعية 4.9% وفي الدول النامية 3.9%.

إننا ننفق أكثر، ولكن هل يكون العائد كذلك؟

في بند الإنفاق تظهر السعويدة وليبيا لتخصص 10% من دخلها على التعليم، وتهبط النسبة في المغرب وتركيا وسوريا والإمارات إلى 3%، فهل هناك عائد للمجموعة الأولى يوازي ثلاثة أضعاف ما يتحقق للمجموعة الثانية بما يجعل التناسب قائما مع حجم الإنفاق ؟

أيضا، تشير الأرقام إلى أنه خلال ربع قرن ينحصر بين عامي 60- 85 زادت اعتمادات التعليم في السعودية ثلاثة أضعاف وحدث نفس الشيء في ليبيا، وبدرجات مختلفة زاد الإنفاق في مصر وتونس والجزائر وغيرها، فماذا كانت النتيجة؟

لقد تحسن معدل القراءة والكتابة خلال ربع قرن يبدأ بعام 70 إلى ما يقرب من (53- 55%) في دول المنطقة وزاد التعليم الأولي والثانوي من 62% من الشريحة السنية المقصودة بالتعليم إلى 90% وذلك بين عامي 65 و 89.

في نفس الوقت تسجل الأرقام تخلفا للإناث عن الذكور في التعليم والقراءة والكتابة، وإن سجلت بعض البلدان عكس ذلك.

حدث إذن تقدم كبير، ولكن وبالمقارنة مع مجال آخر هو المجال العسكري نجد المفارقة الأولى فعدد أفراد القوات المسلحة في الكثير من بلدان الشرق الأوسط يفوق عدد المدرسين الذين ينشئون الأجيال وينشرون العلم!

وإذا أخذنا أحد أعوام التوتر وهو عام (86) فإننا نجد عدد العسكرين نسبة للمعلمين في العراق (425%)لا وفي الأردن (245%) وفي سلطنة عمان (275%) وفي سوريا (320%). صحيح أن النسبة تتراجع إلى (88%) في السودان و(55%) في تونس لكن المعدل العام في المنطقة هو (183%) للعسكريين و(100%) للمدرسين، بينما تهبط هذه النسبة (العسكريين) إلى 90% في جنوب إفريقيا، و(47%)لا فقط في جنوب آسيا!

وبعيدا عن دراسة مسئولة البنك الدولي يمكن أن نلاحظ أن التقدم في التعليم وانتشار المدارس لم بصحبه تقدم في المجالات الأخرى بما يزيح عنا وصمة التخلف.

لن تحقق الدول العربية، وهي الكتلة الأكبر مما نسميه"الشرق الأوسط" تقدما علميا أو تكنولوجيا كبيرا. لم تقدم جامعاتنا ومراكزنا العلمية اجتهادات علمية واسعة، ولم تخرج معاملنا تكنولوجيات جديدة ننافس بها العالم.

اكتفينا في الحالتين بالاستيراد فكنا مستقبلين ومستهلكين وناقلي خبرة ومعرفة، وقد حدث ذلك في مختلف المجالات، ابتداء من الطب والهندسة والعلوم الأساسية، وامتداد المجال المعلوماتية وفروع الإعلام والاتصال.

تقدمنا في نشر التعليم، لكننا لم نحصد نتائجه في مجال التكنولوجيا، أو في مجال التنمية وهي أبرز المخرجات التي تأتي من التعليم، فالكوادر البشرية التي تصنع التنمية تبدأ إعدادها في المدرسة، ثم يجري صقلها بالتدريب.

نفس الشيء في مجالات أخرى غير التنيمة والاقتصاد، وأعني: المجال السياسي وبناء الدولة، وأعني: قضية الديمقراطية التي تجد لبناتها في أفراد أكثر وعيا، صقلهم التعليم، وعجنتهم الثقافة فراحوا يتفاعلون مع مجتماتهم، ويشاركون سياسيا بالرأي والعمل، فهل يحدث ذلك في ساحة الشرق الأوسط؟

الأغلب الأعم: فقدان المشاركة، والعزوف عن السياسة، والأداء السياسي الركيك والمختلف!

وكل ذلك مما كنا نتوقع أن يكون عائدا ثمينا للتعليم، ذلك المرفق الذي يأخذ اعتمادات أكثر ويعطي ناتجا أقل!

إعادة نظر

في عام 2025 سوف يصبح تعداد سكان المنطقة (552) مليون نسمة حسب توقعات البنك الدولي، وهو ما يعني ضغطا أكثر على الخدمات من صحة وتعليم وإسكان ومرافق مختلفة.

وفي مثل هذه الأحوال، فإن الاستجابة تتم بإنشاء مدارس ومستشفيات وطرق ومنازل، ولكن أي نوع من الاستجابة؟ تلك هي القضية. إنها استجابة على حساب الجودة لو استمر الحال على ما هو عليه.

ورقة مسئولة البنك الدولي- كما قلت- تطرح أسئلة وتطلب من الباحثين إجابة، وتبدأ بحقيقة أن المشكلة ليست مالية، فنصف في المائة إضافية من الناتج المحلي يحل معضلات التعليم، وربما يكون نفس الأمر قد لفت نظر باحثين آخر فراحوا يطالبون بإعادة النظر في سياسات التعليم.

لقد مضت النهضة الأولى في الدول النامية تحت شعار:(مدارس أكثر .. وعي أكثر وتقدم أكثر) وجرى التركيز على المدارسة الابتدائية فهي بوابة التعليم، ودونها لا تتزايد أعداد المتعلمين أو نقضي على مشكلة الأمية بل إن انتقادات كانت توجه لدول مثل مصر لأن نسبة الإنفاق على التعليم الجامعي عالية مقارنة بإجمالي الإنفاق على التعليم، وكان البعض يقول: "إنه إنفاق من أجل القلة، إنفاق طبقي".

الآن، يقول الخبراء عكس ذلك فيبدأون بالتعليم الجامعي، ذلك الذي يوفر كوادر فنية وعلمية لازمة لمجتمع جديد في العالم تزيد فيه حدة التنافس ويبقى فيه الأصلح، والأكثر خبرة ومعرفة.

البشر وليس المال وحده سلاح المستقبل، والتعليم هو المدخل المناسب، ولكن أي نوع من التعليم؟

تلك هي القضية التي تثيرها المعادلة السابقة (ننفق كثيرا، ونجني قليلا) والأمر كله بحاجة إلى نظر.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات