أربعون عاما من التواصل هو عمر مجلة العربي: لقاء الأشقاء.. لقاء الأفكار

أربعون عاما من التواصل هو عمر مجلة العربي: لقاء الأشقاء.. لقاء الأفكار

حديث الشهر
في هذا الشهر التقى الأشقاء الذين شاركوا في ميلاد العربي والذين كتبوا فيها والذين تابعوا مسيرتها وكان اللقاء حارا وحميما ومليئا بكلمات المحبة والغضب أيضا.

إنه الربيع في الكويت فرغم أن البعض يعتقد أننا نعيش في الكويت فصلين فقط هما شتاء قصير وعابر وصيف طويل وقائظ، فإنني أحسن استنشاق ربيع الكويت رغم أنه يأتي متخفيا فالنوارس لا تفرد أجنحتها بهذا الاتساع، وموج الخليج لا يصفو وترق زرقته، والنفس لا يصيبها ذلك الجوع التواق للمعرفة إلا في هذا الفصل، فالربيع إحساس بالغ الخصوصية وليس مجرد ميقات خارجي، إحساس بتجدد الحياة وتدفقها ولعل طائر العنقاء المحترق كان يبعث ذات يوم ربيعي، وهذا هو السبب غير المحسوس لاختيارنا هذا الموعد حتى نقيم احتفاليتنا بمناسبة مرور أربعين عاما على صدور مجلتنا، مجلة العربي.

فالمجلة أشبه بطائر العنقاء الأسطوري، عليها أن تجدد خلايا حروفها كل شهر وإلا احترقت بنيران النقد قبل أن يتراكم عليها تراب الإهمال، ولعلني أعود بالذاكرة الآن إلى ذلك اليوم البعيد من عام 1982الذي توجهت فيه إلى مكتبي الجديد في حي ( الصوابر) بالكويت لأتولى مسئولية إكمال مسيرة هذه المجلة التي كان عمرها يوشك أن يتم العام الثالث والعشرين ,كنت أحمل في جعبتي القليل من الأدوات الصحفية، مجرد خبرة إنشاء ورئاسة مجلة أكاديمية هي مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، وعشر سنوات من التدريس الجامعي ومساهمات في الصحافة اليومية.

ومهما تحدث الجميع عن مكانة المجلة الأكاديمية وفائدتها، فقد كنت أعلم أن التعامل مع القارئ الأكاديمي يختلف تماما عن التعامل مع القارئ العادي، وأن هذه المجلة التي أزمع أن أتسلم مسئوليتها قد توالى على رئاستها قبلي أستاذان جليلان وضعا بصماتهما عليها وصاغا جزءا كبيرا من رسالتها ومن تاريخها، فهل كان يمكن أن أعيد هذه الصياغة من جديد بحيث تتجدد وتدب فيها الحياة دون أن تفقد هويتها؟ كان هذا هو همي منذ الاجتماع التحريري الأول، وأعتقد أنه مازال همي حتى الآن.

لقد مرت أربعون سنة وهاهي هذه المجلة ـ المنارة وهي اليوم تدخل في عقدها الخامس دون أن تتقادم كشأن أبنية الإنسان المعتادة ,بل تتجدد, بدعم لم يفتر من جانب الكويت أميرا ووليا للعهد ووزارة للإعلام ومباركة شعبية من مثقفي هذا البلد على اختلاف مشاربهم، ومع هذا الدعم كان المدد الذي لم ينقطع من إسهامات العقول العربية أينما كانت، لقد أصبحت هذه المجلة منارة للمثقفين العرب تخرج منهم وتعود إليهم، وكان لا بد لي من متابعة الطريق فيما تطور بعد ذلك ليصبح (العروبة الحضارية)

أمانة وموضوعية، أقول إن تاريخ هذه المطبوعة ـ مجلة العربي ـ هو أمثولة ومأثرة تدعوان إلى التأمل واستخلاص الرؤى، فالكويت التي بادرت بإصدار العربي منذ أربعين عاما ـ هدية من ضميرها الثقافي لحركة الثقافة العربية من الخليج إلى المحيط، وحيثما كان هناك قارئ عربي أو قارئ بالعربية في هذا العالم الواسع، وبسعر أقرب إلى الرمز رغم تصاعد التكلفة، لم تكن ـ الكويت ـ آنذاك في بحبوحة من العيش تجعل هذه البادرة يسيرة عليها، كما أنها كانت مكبلة بقيود المعاهدة البريطانية تتطلع وتجاهد لنيل استقلالها، فكأنها بإصدار العربي تشق طريقها ضد رياح غير مواتية، ولكن بصيرة الرواد الذين أسسوا هذه المأثرة، أثبتت أنها نافذة، فقد كان تدشين المشروع الثقافي العربي الكويتي وقبل التدفق الوفير لعائدات النفط، تأكيدا حضاريا على هوية هذا البلد وشغفه بمحيطه العربي، وهو ما لم يجحده الطيبون والمنصفون من مستنيري عالمنا العربي، فكان وقوفهم مع الحق الكويتي ضد جائحة الغزو، وقوفا مع مشروع حضاري ثقافي هو معادل موضوعي لهذا البلد لدى أصحاب العقول الرائية والضمائر البصيرة في عالمنا العربي.

لقاء الأشقاء

لقد حملت احتفالية العربي شعار " لقاء الأشقاء " وكان هدفنا هو التلاقي، التلاقي الفعلي للكتاب و المثقفين العرب على أرض الكويت، بعد أن تلاقوا لسنوات على صفحات مطبوعتهم، ولم يكن بالإمكان حشد كل الأصدقاء فجاءت نخبة ممثلة بأشخاصها، وشهادات عدة برسائلها. كان التلاقي بين المثقفين الكويتيين وأقرانهم من مثقفي العالم العربي الذين لم يقابل بعضهم بعضا منذ سنوات، ولم يكن الهدف النهائي هو تبادل التهاني وتهنئة النفس بقدر ما كان اللقاء للتقييم والاستشراف والنقد، فالماضي دون استخلاص تجربته هو عبء من الذكريات الميتة، والمستقبل دون محاولة سبر أغواره مجهول من الخطر المغامرة بالخوض فيه، لذلك كان محور الاحتفالية في تلك الندوة التي اقتنصت يومين كاملين من الحوار والنقاش بين كل المدعوين من خارج الكويت ومن داخلها، والحق أقول إن هذا النقاش الذي استفاض أحيانا لم يقصر حدوده على مجلة العربي فقط ولا على المشروع الثقافي العربي الذي تبنته الكويت ولكنه امتد ليشمل الحالة الثقافية العربية التي تمثل العربي جانبا منها، وقد شهد الجميع مدي ما تتمتع به الكويت من سقف للحريات.

بدأنا احتفاليتنا بآيات من الذكر الحكيم الله نور السماوات والأرض النور هنا هو الهادي للحق، وهو نور القرآن وما تشعه الكلمات والآيات من سحر المعرفة ,ولعل هذا هو موجز أسباب هذا الجمع , فهذه النخبة التي اجتمعت من شرق الوطن العربي ومغربه، لم يربطها معا سوى سحر هذه الكلمات الوضاءة، ولم يشقها شئ بقدر توقها الغامر للمعرفة، وقد أكدت الكلمات الرسمية التي- ألقيت بعد ذلك- هذا الأمر، ويمكن للقارئ العزيز أن يرجع إلى نصوصها المنشورة في هذا العدد ,ثم قامت المجلة بلمسة وفاء للعاملين فيها والذين رعوا لحظة ولادتها أو تواصلوا في العمل بها, وفي الحقيقة فإن القائمة تطول، فقد توافد عبر هذه السنوات عشرات من الشخصيات ذات الثقل الفكري والفني، أضاف كل واحد لمسة من لمساته، منهم من رحل ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، ولم يكن من الممكن من الناحية الواقعية تكريم كل هذه الشخصيات، لذلك اختارت المجلة نماذج منهم دون نكران لمساهمات الآخرين ,وقد كان تمثيل الأشخاص بحد ذاته هو تمثيل للنهج الذي اتخذته المجلة طوال تاريخها وهي أنها مجلة كل العرب قولا وفعلا، فقد تباينت الجنسيات العربية واختلفت بلدانها ولكن العربي ظلت لهم وطنا واحدا.

بعد ذلك مباشرة بدأت الندوة* تحت عنوان "أربعة عقود من عمر مجلة العربي" وقد رأس جلسات هذه الندوات العديد من الشخصيات العامة والمثقفين الكويتيين، وقد كان حضورهم فعالا إما عن طريق ضبط نظام الندوات أو المشاركة في الحوار الثري الذي كان يعقب كل ندوة، وقد جلس الجميع في دائرة حميمة على مدى ساعات طويلة في نقاش حر ومفتوح، تختلط فيه مشاعر "النوستالجيا" المليئة بحنين الذكرى، بكلمات النقد العنيف أحيانا ,وتذوب فيه الفوارق بين الحديث عن المهنة والحديث عن الذات، ونتبين من خلال سطور الغضب الذي يرتفع أحيانا، أنه غضب ليس على المجلة في مجمله ولكن على الوضع العربي العام، مليء بمشاعر المرارة و الحزن على ذلك الحلم القومي الذي نشأت المجلة لتكون تعبيرا عنه، ثم أصبح بعد أربعين عاما أبعد ما يكون عنا ,ذات لحظة تحولت المجلة إلى عنوان لهذا الوضع العربي الذي يثير الأسى وينثر في القلب الرماد، وفي لحظة أخرى تصبح العربي ضحية لهذا الوضع، وأود أن أصيح بالإخوان والأصدقاء، ألسنا معا في بلد عربي نتناقش بنفس اللغة ونردد نفس الأفكار؟ ألم تقاوم المجلة كل عوامل الإحباط والظروف الصعبة وتواصل الصدور؟ ألم يقبل عليها القارئ العربي ويزداد طلبا لها؟ أليس هذا دليلا على أنها تعبير عن فكرة لم تمت بعد حتى وإن كانت في حدها الأدنى ؟ الذي ذوي ربما هو ما سببه أهل السياسة أم أهل الثقافة فمازالت العروبة الحضارية نابضة في عروقهم؟ ولكني أعود فأقول دع الجميع يعبر عما بمكنونه.

ثمرة التفتح والديمقراطية

إن العربي لم تكن نبتة غريبة في التربة الكويتية، ولكنها كانت نتاج البذور الأولى التي وضعها رواد المجتمع المدني في هذا البلد، وقد أكد الأخ الدكتور يعقوب الغنيم في بحثه تحت عنوان "المشروع الثقافي الكويتي وآفاقه العربية " الذي افتتح به الندوة على عاملين أساسين: أولهما ذلك المناخ الديمقراطي الذي صاحب مسيرة الحكم في الكويت طوال تاريخها الحديث، وتلك المشاعر القومية العميقة التي نمت مع اكتمال وعي المثقفين الكويتيين في إطار محيطهم العربي , لذا لم يقتصر هدفهم على تنمية نهضة ثقافية محلية بقدر ما كانوا يسعون إلى قوة اتصال مع العالم العربي , وقد أخذت هذه الاندفاعة الثقافية شكلها المنتظم مع بداية الخمسينيات مع تكون البنية الأساسية لأجهزة الدولة بعد إرهاصات متفرقة شملت تطور المطابع وظهور أكثر من صحيفة ومجلة محلية وتقديم العروض المسرحية ودعوة المثقفين العرب البارزين لزيارة الكويت وغير ذلك من الأنشطة، ولكن الخمسينيات وبالتحديد في عام 1958 شهدت أول اجتماع للأدباء العرب تحت سماء الكويت، وكان ذلك إيذانا بتأكيدها على وجهها العربي وانتمائها الثقافي إليه، خاصة وهي تستعد لإنهاء المعاهدة التي كانت تربط بينها وبين بريطانيا، وكان الحدث الثاني في نفس العام هو صدور مجلة العربي، وقد قال رئيس تحرير المجلة في ذلك الوقت المرحوم الدكتور أحمد زكي "إن مجلة العربي لهذا الوطن العربي كله من الخليج شرقا إلى المحيط غربا ومن حلب شمالا إلى "المكلا" جنوبا وهي لكل ما يتمخض عن الفكرة العربية، وهي ضد الجهل، ومع المعرفة في هذا الوطن كله وأسميناها العربي وهو تعبير عما في نفوس رجال الوطن العربي ونسائه".

ولعل من أطرف التعليقات على هذه الكلمات ما ذكره الكاتب المغربي الدكتور سالم حميش عندما قال إنهم في المغرب قد فوجئوا بتعبير "العربي" لأنه كان من المعتاد استخدام كلمة "المحلى" أو "الوطني" وأن المجلة قد أضافت مفردة جديدة يستعينون بها في معركة تأكيد الهوية، كما أن كلمة "المكلا" كانت جديدة أيضا فقد ظل يجهل مكانها من وطننا العربي حتى قرأ عنها استطلاعا بالمجلة ولم يكن هذا هو النموذج الوحيد الذي ساق ذكرياته، فقد ظهر جليا في أكثر من مداخلة إنه لولا استطلاعات العربي المصورة التي كانت تنشر شهريا لما استطاع أبناء الوطن العربي في ذك الزمان أن يتعرف على بعضهم البعض، وعلينا أن نضيف أنه لولا أن هذه الاستطلاعات قد وسعت من حدودها فذهبت إلي المسلمين في أقطارهم و إلى العالم الواسع ما استطاع البعض أن يتعرفوا على العالم من حولهم.

ويؤكد هذا الأمر الدكتور "أحمد صدقي الدجاني" في حديثه عن تجربته مع العدد الأول من المجلة وكيف كان مشهد الإعلام العربي مليئا بالصحف اليومية والأدبية ومع ذلك احتلت المجلة الوليدة مكانته مهمة لم تتزحزح عنها حتى الآن، ربما كان ذلك يعود بشكل جزئي إلى حسن الإخراج وجودة الطباعة، ولكن السبب الرئيسي كما يؤكد د. الدجاني "هو اسم العربي الذي حدد هويتها القومية وانتماءها للوطن العربي الكبير، في وقت كانت الأمة تتوق فيه ولا تزال إلى كل ما يعبر عن حقيقة كونها أمة واحدة، وقد حقق الاسم منطلق مجلة العربي وجاء مسارها في أعدادها التالية مصدقا لانتمائها وهويتها".

العدد الأول.. ذكريات وحنين

يعود صديقنا الدكتور جابر عصفور الناقد المعروف والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر إلى ذكرياته القديمة عندما كان لا يزال طالبا في الخامسة عشرة من عمره في مدينته الصغيرة المحلة الكبرى حين اشتري العدد الأول من مجلة العربي (وهكذا نستطيع الآن نحسب عمره بدقة !)، وقد اشترى المجلة يومها بمصروفه الشخصي كله أي أنه حرم نفسه في هذا اليوم من نفقات الطعام والشراب ولكنه ظفر بما هو أهم، فقد كانت علامة على مرحلة تنفست فيها المنطقة العربية كلها رياح الحرية واقتلعت الاستعمار القديم من جذوره على امتداد العالم الثالث، أو هكذا ما كنا نعتقده على الأقل.

فهل كانت العربي بعيدة عن وعيها بالمتغيرات يوما من أيامها ؟ إنه سؤال يفرضه عليه انسياق الذكريات البعيدة ويحاول الدكتور جابر الإجابة عنه قائلا :

"لنقل إن مجلة العربي أصبحت أقل ابتساما في هذه السنوات، لأنها قد أصبحت أكثر معرفة بمتغيرات واقعها العربي، فهي تبدو كما لو كانت تستجيب استجابة التحدي لمتغيرات زمنها، محافظة على هوية أهدافها التي أصبحت مقترنة بحركة الاستنارة العربية المعاصرة، سواء في سعي هذه الحركة إلى الإسهام في الانتقال بوعي بالمواطن العربي من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وتحويل الواقع العربي من ميراث التخلف إلى إمكانات التقدم، وانتزاع العقل العربي من براثن قوى الإظلام، وإطلاق قدرته على الاجتهاد وتأكيد حقه في الاختلاف والمغايرة، وذلك كله في موازاة تحقيق عدالة توزيع المعرفة المعاصرة على القراء العرب في كل مكان، حالمة بالمستقبل الواعد الذي يبدأ من الطفل الذي استحدثت له مجلة (العربي الصغير) ".

والذي حدث كان غريبا، ففور انتهاء الدكتور جابر من محاضرته سادت القاعة حالة من "النوستالجيا " المليئة بالحنين والشجن، لقد تدفقت الخواطر المرسلة من نفس كل واحد من المشاركين وعادت به الذاكرة إلى عمر كان جميلا وحلما كان رائقا، وقد عبر عن هذه الحالة بداية الدكتور عبد الله الغذامي الناقد المعروف من المملكة العربية السعودية الشقيقة حين يتساءل بكثير من الألم اللوم عمن "قتل كل الأحلام العربية، وهل كنا نحن القتلة ؟ قتلة الأحلام وقتلة الأقلام ؟ فمنذ ديسمبر 1958 إلى ديسمبر 1998 وهذه الليلة التي لا تشبه بارحتها، وهذه الوجوه التي لا تشبه وجوهها وهذه الأمة لا تشبه ذاتها ,من فعل بنا هذا ومن قيد خواطرنا المرسلة، كثيرون سيقولون إن الساسة والعسكريين هم السبب، ولكن والحق يقال إن الثقافة هي السبب، لأن المثقف صانع الثقافة هو من تواطأ ومنح الساسة والعسكريين الأحقية والتبرير والتلقين كي يكون منهم ما كان ؟" صرخة مدوية!

فهل قاد الغضب على وضعنا العربي الراهن صديقنا الغذامي إلى هذه النظرة القاسية الضاربة في التشاؤم على دور المثقف العربي ؟ وقد فاته أن يذكر كم دفع مثقفون عرب الكثير من الأثمان بما فيها حياتهم ليقولوا لا.

لا أعتقد أن هذا المثقف قد قام بمغامرات عسكرية هوجاء، أو كان يملك سجونا مهمتها اصطياد طيور الأفكار وذبحها ,أو كان لديه كل ذلك القدر من أجهزة الكذب الموجهة، ألم يكفنا بعد هذا العمر الطويل جلدا للذات ؟

أشواق مغربية

وبالطبع لم تخل الجلسة المسائية من العديد من المناوشات، فقد كان موعدنا مع البحث الذي ألقاه الدكتور المنصف الشنوفي بعنوان: "رؤية من المغرب العربي، حالة مجلة العربي "ويدور البحث في إطاره العام حول تأصيل العلاقة القديمة بين مشرق العالم العربي ومغربه وكيف قامت المجلات الثقافية بالحفاظ على هذه العلاقة وتدعيمها من خلال نشرها للعشرات من المقالات والاستطلاعات عن المغرب دولا ومدنا وشعوبا، وقد أكد على هذا المعنى الشاعر الجزائري ورئيس اتحاد كتابها عز الدين ميهوبي في تعقيبه على البحث الذي قال ضاحكا في مستهل حديثه إنه لا يحتفل معنا بعيد ميلاد مجلة العربي فقط، ولكنه يحتفل أيضا بعيد ميلاده، فقد ولد بعد مجلة العربي بأيام قليلة، ويضيف بعد ذلك موضحا دور المجلة التي يعتبرها جسرا للتواصل الثقافي والحضاري بين المشرق والمغرب، وكيف أنها كانت المجلة العربية الوحيدة التي كانت تدخل إلى بعض المؤسسات ويقتنيها الناس (بالشنطة)، أي أنها كانت تصل بطريقة غير رسمية ويقرأ النسخة الواحدة أعداد كبيرة من الناس، لقد دخلت متحدية سوقا كان يسيطر عليه الحرف الفرنسي، لذا فإن أمامها في الجزائر مهمة تختلف عن أي بلد آخر , وهي تأصيل ونشر الحرف العربي في أفضل حالاته، ويوافقه الكاتب والروائي الجزائري المعروف "واسيني الأعرج"، حين يتساءل عن موقف المجلة أمام مذابح الجزائر ؟ وكيف تعمل العربي في ظل وجود 200 رواية فرنسية مقابل كل 10 روايات عربية في الجزائر؟ ولعل الإجابة عن هذه الأسئلة موجودة داخل صفحات المجلة كلها، فهي منحازة لكل ما يوفر السلم والاستقرار في المغرب العربي كله وعند العرب، وهي بطبيعتها التنويرية تقف ضد كل دعاوى التطرف والإرهاب، وقد فعلت ذلك بالفعل, كما أنها تعتبر نفسها المجلة الأولى في الدفاع عن هوية الثقافة العربية في مواجهة كل أنواع الغزو الفكري.

حديث عن المهنة

اليوم الثاني من الندوة كان للحديث عن المهنة على حد تعبير صديقنا الفنان حلمي التوني، فقد جلنا فيه طويلا في حديث عن التطور الصحفي لمجلتنا مهنيا وفنيا، وكيف يراها القراء وما هي الشرائح العمرية التي تهتم بها، وهل يقتصر الأمر على أنها مجلة الذكريات القديمة أم أن صيغتها مازالت صالحة للأجيال الجديدة، كانت البداية هي تجربتي كرئيس لتحرير هذه المطبوعة على مدى سبعة عشر عاما، ولم أرو ملامح هذه التجربة اعتمادا على المخيلة بقدر ما اعتمدت فيها على الحقائق والأرقام، وليسمح لي القارئ العزيز أن أؤجل الحديث عن هذه التجربة حتى نهاية المقال، حتى أتمكن من متابعة بقية الأبحاث التي شملتها الندوة وهي كثيرة.

وقد واصل زميلنا محمود المراغي الحديث معنا في بحثه عن "تجربة مجلة العربي، تطور تاريخي وفني"، والمراغي كما يعرفه الكثيرون صحفي محترف تولى رئاسة العديد من المجلات والصحف اليومية لذا فقد أجرى في بحثه مقارنة شاملة بين العدد الأول والعدد الأخير من مجلة العربي، حيث رأى أن هناك العديد من الثوابت والمتغيرات، فقد احتفظت المجلة من حيث الشكل بحجم القطع وبنفس نوعية الورق، كما حافظت من حيث المضمون على شخصيتها العربية، الليبرالية، المنفتحة، العصرية، ولكن تغير الخط المستخدم لكتابة اسم المجلة وتصميمها إلى الأفضل وأصبحت الصفحات الداخلية أكثر جمالا وبهاء ودقة في الشكل، وبات العمل الفني ركنا أساسيا حرصا منها على أن تكون متعة للعين، كما كانت المقالات في السابق تمثل الاهتمام الغالب على المجلة ولكن في أعدادها الأخيرة أصبح هناك اهتمام زائد بالصورة في محاولة من المجلة للتطور مع حضارة الصورة التي نعيشها وأصبحت الاستطلاعات التي تميز المجلة عن غيرها من بقية المطبوعات العربية أكثر جاذبية سواء من ناحية الصورة أو المادة التحريرية.

ولا يترك الباحث الدكتور محمد رجب النجار هذا الركن من المجلة وأعني به استطلاعات العربي قبل أن يخصص له بحثا شاملا وطويلا طاف فيه بأدب الرحلات كما عرفه تراثنا العربي في أيام الرحالة العظام وصولا إلى مجلة العربي التي يؤكد الباحث أنه لا يظن أن هناك مطبوعة عربية قد عنيت بأدب الرحلات كما فعلت المجلة، وإنه إذا حسبنا الزمن الذي تستغرقه كل رحلة وجمعنا عدد كل الرحلات لاكتشفنا أن محرري المجلة ومصوريها قد قضوا حوالي 23 سنة وهم يطوفون حول العالم، كما أنها نشرت حوالي 19200 صورة ملونة وحوالي 30720 صفحة في مجال أدب الرحلات المعاصر وهو لا يكتفي بهذا العرض الإحصائي ولكن يرصد المميزات الأساسية للاستطلاعات التي تلعب الصورة فيها دورا متزاوجا مع الكلمة، كما أنها حققت السبق بالذهاب إلى أماكن لم تطأها أقدام الرحالة العرب كما أنها كانت حريصة على الذهاب إلى العديد من نقاط العالم الساخنة.

أما الدكتور إبراهيم غلوم فقد شن في بحثه تحت عنوان "أزمة المجلات الثقافية في العالم العربي "هجوما عنيفا على الدور الذي تقوم به المجلات الثقافية بشكل عام وحملها تبعات كل الأزمات التي نعاني منها، وقد رأى أن "الانتلجنسيا" العربية قد صاغت عبر مجلاتها التي توقفت أو التي أصبحت غير مؤثرة جملة من الرهانات الخاسرة انصبت كلها على قواعد أيديولوجية وثقافات هامشية وتيارات لم يكن المستقبل حليفا لها، وقد تصدى لهذا الهجوم زميلنا السابق في العربي ورئيس تحرير مجلة الهلال القاهرية حاليا مصطفى نبيل مؤكدا أن هذه المجلات لا تعدو أن تكون جزءا من حركة المجتمع وهي ضحية لأزماته وتعبيرا عن لحظات الصعود والانحدار في هذا المجتمع.

الإنترنت.. خطوة للمستقبل

ولم يترك المنتدون هذه الفرصة قبل أن يستشرفوا آفاق المستقبل وذلك من خلال البحث الهام للدكتور نبيل علي بعنوان "التحديات التكنولوجية والمجلات الثقافية" وقد حاول الباحث وهو واحد من النادرين في هذا المجال في ثقافتنا العربية أن يقدم أهم سمات ثقافة الإنترنت التي من أبرزها المعرفة الجديدة التي ستحرر القارئ من أسر المعارف التقليدية وما يواكبها من معايير أخلاقية جديدة عالمية تحرر حقوق الإنسان من سيطرة النظم، كما تقيم مؤسسات ثقافية جديدة تتسم بالدينامية وسرعة التكيف، وتساعد في إقامة فكر إنساني يؤمن بأن التغيير هو الثابت الوحيد باستثناء ثوابت العقيدة.

وفي تعقيبه على البحث أشار الدكتور أحمد بشارة المتخصص الكويتي في هذا المجال أيضا إلي ضرورة تعامل مجلة العربي تعاملا جادا مع ظاهرة الإنترنت حتى تزيد من انتشارها وأن تضع خدماتها في متناول المفكرين العرب، وهو الأمر الذي شرعت فيه العربي بالفعل , فهي بصدد القيام بهذا المشروع الحضاري الضخم الذي سوف يجعل صفحاتها في متناول كل رواد الإنترنت في المعمورة و قريبا إن شاء الله.

لغة الأرقام

لم تكن مداخلتي وسط هذه الآراء التي حفلت بها الندوة مداخلة أكاديمية، لقد كنت أريد أن أخرج عن صرامة المناهج إلى حالة من التأمل في شأن هذه المطبوعة وكذا التأمل في أوضاعنا الثقافية التي أشعر بأنني قد لامستها عن قرب ،كانت الورقة التي قدمتها بعنوان "سبعة عشر عاما من عمر التلاقي" وكان وجودي في بؤرة التلاقي هذه ـ حين شرفت بأن أكون رئيسا لتحرير مجلة العربي ـ عاملا حتى أتشبع بإرادتها وأعكسها تأثرا وقناعة.

وقد اعتمد في هذا التأمل بالدرجة الأولى على الاستبيان الذي نشرته المجلة في عدد يناير الماضي (99) وكان المقصود منه رصد اتجاهات قراء "العربي" لتعديل عملية التوزيع، ومعرفة منهجية لآراء من يقرأ.

ولكن هذه الغاية العملية دوهمت بسيل جارف من الرسائل من كل قارات العالم دون استثناء وكان علينا لدواعي الوقت أن نكتفي بتحليل عينة منها بلغ عددها 2065 رسالة تتضمن إجابات عن أسئلة الاستبيان البالغة 18 سؤالا.

كان أول ما لفت الأنظار هو أن المشاركين في الاستبيان أغلبهم من الفئة العمرية من 25 إلى سنة 34 بنسبة 48 % ثم الفئة العمرية من 35 إلى 44 سنة بنسبة 23%.أي أن قراء العربي في معظمهم ( الثلثان تقريبا) من بداية مرحلة الشباب حتى نهايتها، وفي ذروة مشاغل هذا العمر فأن للعربي نصيب وافر منه، وتوضح الأرقام أنها ليست مجرد مجلة تثير الذكري ولكنها تقوم بدور فعال ومؤثر في التكون الثقافي لعدة أجيال جديدة لها النصيب الأكبر في عملية الحراك الثقافي في بلادنا العربية.

كما أوضحت الأرقام أيضا أن معدل قراءة أعداد العربي لا تقل عن ستة أفراد كل عدد ويتشارك في قراءة العدد الواحد معظم أفراد الأسرة وأحيانا الأصدقاء والزملاء، كما أن الغالبية العظمى يحرصون على التوجه إلى منافذ البيع للسؤال عنها وشرائها أو انتظار ورودها، وهي نادرا ما تتأخر.

بعد ذلك يدخل الاستبيان في لب المطبوعة فنيا حين يسأل قارئه عما يجذبه في مجلة العربي، وجاءت المقالات الفكرية في المقدمة مما يوحي أن للجدية دورها وان الرواج لا يرتبط دوما بالإثارة الرخيصة، كما جاءت استطلاعات العربي في المرتبة الثانية وهي تمثل العمود الفقري للمجلة، كذلك جاءت واحة العربي في المرتبة الثالثة وهو تقدير من القارئ لأدب السخرية الضاحك والمثقل في نفس الوقت الذي يكتبه زميلنا الموهوب محمد مستجاب.

لقد توقفت وتوقف المشاركون في الندوة معي حول انخفاض نسبة المرأة من قراء مجلة العربي، إذ لا تزيد عن 23% في مقابل 77 % وهي نسبة صغيرة قد يكون لها أسبابها الخارجية ولكننا يجب أن ننتبه لها وأن نحاول في المستقبل الارتفاع بها إيمانا من الجميع أن رفع درجة ثقافة المرأة ضروري لرفعة ثقافة المجتمع كله.

كانت الجلسات حافلة بالمناقشات فقد فجرت المناسبة دون أن ندري كل مكامن همومنا العربية، ولعل سبب ذلك أن الجلسة التي ضمتنا صهرتنا جميعا دون فرق بين الجنسيات، وقد بدا هذا واضحا في ردود الفعل إزاء الوعكة الصحية التي أصابت صديقنا الكاتب الكبير محمد سيد أحمد، ففي مشهد سريالي غريب فوجئنا به وهو ينهض واقفا وسط إحدى الندوات ويدور برأسه في القاعة ثم ينهار ساقطا على الأرض، وسادت حالة من الفزع والذهول بين الجميع ،وكان أسرع من أفاق هو زميلنا الدكتور محمد المخزنجي وهو بالمناسبة طبيب كما أنه كاتب بارع حين هرع إليه ليفك رابطة عنقه ويرفع قدميه إلى أعلى ضمانا لورود الدم إلى خلايا المخ، كما قال لنا فيما بعد، ثم جاءت عربة الإسعاف بسرعة وأسرعت خلفها بسيارتي برفقة الدكتور جابر عصفور والشاعر فاروق شوشة ومدير التحرير النشط أنور الياسين، كنا نسابق الزمن خاصة أن الكاتب الكبير كان يعاني من انخفاض حاد في ضغط الدم مع آثار نوبات قلبية قديمة، وقبل أن نصل إلى المستشفى تم الاتصال بوزير الصحة الأخ الدكتور عادل الصبيح الذي سبقنا إلى المستشفى وكذلك وزير الإعلام يوسف السميط وسادت المستشفى حالة طارئة حتى اطمأن الجميع على استقرار الحالة الصحية للكاتب الكبير، بل إنه تمكن من مغادرة المستشفى في نفس الليلة، وفي صباح اليوم التالي كان موعدنا جميعا في مقابلة مع سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وأصر الأستاذ محمد سيد أحمد أن يكون معنا، وقابلنا سموه عند باب مقره وفور أن رأى الكاتب بادره بالقول: "لقد سمعت بما حدث بالأمس، سلامات" وكانت دهشة كاتبنا كبيرة من اهتمام ورعاية المسئولين الكويتيين على اختلاف مستوياتهم، ولكن ذلك جزء من روح التكافل التي تسود المجتمع الكويتي منذ القدم ومازالت تسوده حتى الآن.

في نهاية الاحتفالية كانت لحظات الوداع، وهي عادة ما تثير الأسى، وقال أكثر من زميل هل يجب أن ننتظر أربعين عاما حتى نلتقي من جديد، ولكننا كنا ندرك أننا سوف نواصل اللقاء كل شهر على صفحات المجلة التي ظلت وسوف تظل تجمعنا معا.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




وزير الإعلام يقدم لسمو ولي العهد هدية تذكارية من مجلة العربي





د. يعقوب الغنيم- مشروع كويتي ثقافي





د. جابر عصفور- العربي خواطر مرسلة





د. المنصف الشنوفي- المغرب والعربي





د. محمد الرميحي





محمود المراغي- تطور فني ومهني





د. محمد رجب النجار - أدب الرحلات





د. إبراهيم غلوم- أزمة المجلات الثقافية





د. نبيل علي- ثقافة الإنترنت





فيصل الحجي





علي الطراح





د. ناصر الصانع





د. عبدالله المهنا





د. عبداللطيف الحمد





أحمد بهبهاني





يعقوب الحجي





د. أحمد بشارة





الشيخ سالم الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع





د. موضي الحمود





عبدالعزيز البابطين





رئيس تحرير العربي يفتتح معرض صور العربي التي التقطت من كل مكان بالعالم





فرقة التلفزيون تقدم عرضاً فنياً من التراث الشعبي





وزير الإعلام يكرم فهد الجارالله أول مدير لمطبعة الحكومة





أحمد السقاف





أبوالمعاطي ابو النجا





نصرالدين طاهر





فهد الكوح





عبدالله الفليح





صادق يلي





بدر خالد البدر





محمد العمر





د. محمود السمره





فاضل خلف





سليم زبال





فهد الحارالله





مصطفى نبيل





سليمان مظهر





فاروق شوشة- مصر





عز الدين مهيوبي





سليمان الشيخ- الجزائر





الشيخة مي الخليفة- البحرين





أحمد إبراهيم الفقيه- ليبيا





خيرة الشيباني- تونس





محمد سيد أحمد- مصر





زين السقاف - اليمن





جمال الغيطاني- مصر





أنيسة عبود- سوريا





معن بشور- لبنان





وليد معماري- سوريا





أمسية فنية احيتها الفرقة الموسيقية الوطنية الكويتية باحتفالية مجلة العربي