شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

عندما أذلت عكا كبرياء الطاغية!

دق الآرض بقدميه في غضب هائل وهو يصيح: إن شرف الجمهورية في خطر.

وحاول القادة الذين يحيطون به التخفيف عنه، وهم يواجهون قلعة عكا الصامدة وقد بدت على وجوههم علامات الإجهاد والتبع. غير أن بونابرت ظل يمشي في خيمته صامتا وهو يضطرم حنقا وبدنه يتلوى ويرتعش بسخط مخيف.

وساد المكان صمت متوتر فلم يعد أحد يسمع شيئا غير الأنفاس واللهاث.

وفجأة انطلق صوت أحد القادة:

- فلنحرق عكا وندمر قلعتها على كل سكانها يا سيدي الجنرال.

والتفت إليه بونابرت بازداء عميق يحمل كل مرارة حيرته المعذبة. فلم يكن العالم في ذلك الوقت ليقبل كل هذا التخريب والوحشية التي لا تليق بالشرف العسكري ! كما أن مشهد جثث الثلاثة آلاف أسير الذين أمر بإعدامهم رميا بالرصاص في يافا كانت مازالت ماثلة أمام عينيه، وهو لا يدري كيف وافق على قرار المجلس العسكري الذي اجتمع لبحث مشكلة هؤلاء الأرسى ورأى أن الحملة لا تستطيع أن تواصل سيرها الشاق في الشام حاملة معها هذا العدد الكبير من الأسرى لعدم وجود المؤن الكافية. ولم يكن بونابرت يستطيع أن ينسى ما علق به مؤرخ الحملة العلمي والعسكري حين قال: "إن هذه المذبحة ستكون وصمة في جبين فرنسا، ومهما انتحلت الأعذار لهذا الفعل الشنيع فقد سلم هؤلاء الأسرى أنفسهم، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال ومهما كانت الأسباب تحطيم الوعود ونسيان قوانين الحرب".

الزحف في 6 فبراير

أن طريق بونابرت كان ممهدا منذ بدأ زحفه على الشام في 6 فبراير 1799 بعد وصول جيشه إلى العريش. وفي اليوم التالي أرسل إلى حكومة باريس من القاهرة يخبرها فيه ببدء حملته على سوريا فقال : "إن الغرض الذي يريد تحقيقه يتخلص في ثلاثة أمو: أولها تدعيم الفتح الفرنسي لمصر ومنع الخطر عنها من ناحية أي جيوش تهاجمنا من الشمال أو بمشاركة أي جيش أوربي، وثانيها إرغام الباب العالي على توضيح موقفه من الفرنسيين، وثالثها حرمان السفن الإنجليزية في البحر الأبيض من الحصول على مؤنها من سوريا".

وواصلت الحملة السورية جملة انتصارات بعد سقوط قلعة العريش وتقدمت إلى غزو والرملة، ثم ضرب بونابرت نطاق الحصار حول يافا فسقطت بعد أربعة أيام. وفي أثناء إقامته كان قد أسر ثلاثة آلاف من الأهالي، وهم الذين قرر بعد ذلك إعدامهم قبل مواصلة المسير. وفي ذ8 مارس بدأ بونابرت حصار عكا التي رفض وإليها الجزار باشا الاستسلام للفرنسيين.

فهل بعد مجزرة الأسرى يستطيع أن يفعل نفس الشيء مع عكا وأهلها كما ينصحه قادة جيشه؟

إن بونابرت ليعرف أي نوع من الرجال هم أهل عكا.. لقد وقفوا طوال عامين صامدين أمام ضغط الجموع الكثيفة من الصليبيين الفرنسيين بقيادة فيليب أغسطس والإنجليز بقيادة ريتشارد قلب الأسد. وبرغم القذائف الرهيبة التي صبوها على القلعة ورجالها ليلا ونهارا فقد عجزوا عن اقتحام المدينة وقلعتها فهل يستطيع هو بعد ذلك أن يواصل مثل هذا الضغط لأكثر من الشهور الثلاثة التي بدأها في 18 مارس 1799. لقد استطاعت عكا الصمود في وجهه بفضل مقاومة أهلها بقيادة الجزار باشا والمساعدات التي كانوا يتلقونها عن طريق البحر بينما لا يملك هو من السفن ما يمكنه من مهاجمتهم بحرا. وقد شن هجمات متواية وخاصة أيام 4 مايو ثم 8 و 10 من نفس الشهر عله يفلح في إسقاطها ولكن الفشل كان نصيبه في كل هذه العمليات. وكان لابد في النهاية من أن يقرر رفع الحصار في 17 مايو 1799 بعد أن عرف أن الطريق أمامه لم يعد مفتوحا للتقدم في شمال الشام مع وجود هذا العدو الممتنع في مؤخرته عند عكا.

الفشل والعودة إلى مصر

كانت خسائر بونابرت كبيرة من جنوده وضباطه وقواده، إذ قتل منهم كفاريللي وبون وديتريه وساي. ولم يعد أمامه إلا أن يعود بخفي حنين إلى مصر.

والواقع أنه بم تمر سوى أيام قليلة حتى أرسل إلى ديوان القاهرة ينبئ بعزمه على مغادرة الشام ويعد أعضاء الديوان بالوصول إلى القاهرة سريعا قائلا في رسالته: إن أهل عكا- كما ادعى- قد غادروها بطريق البحر كما أصيب الجزار باشا بجراح وتقهقر إلى إحدى القلاع عند شاطئ البحر. وفي اليوم التالي أذاع القائد العام نداء بين جنوده ذكرهم فيه بانتصاراتهم المجيدة وأنبأهم بقرار العودة إلى مصر!

بدأ تقهقر نابليون وجنوده. وعلى طول طريق العودة لم يجد أي نوع من العون من الأهالي منذ رحيله من أمام عكا حتى بلغ يافا ثم غزة حتى وصوله إلى العريش، فلم يجد الجيش ماء للشرب كما لم يجد دابة يستعين بها على قطع الصحراء. لقد اختفت الجمال فجأة ولم يظهر شخص واحد يؤجر دابة ولو بأضعاف ثمنها. وكان العرب يهاجمون الجيش المتقهقر طوال مسيرته تحت الشمس المحرقة. وكانت القرى تغلق الأبواب في وجه الغزاة وتصب عليهم الويلات حتى انتهى المطاف بالحملة إلى العودة للقاهرة منهكة القوى تئن وتلهث، وفي الأعماق من كل جندي صوت يقول: "أي شعب هذا الذي يدوخ أعظم جيش في العالم!؟".

المنشور الكاذب

في ضوء تمثيلية حاول بونابرت إتقانها سترا لهزيمة عكا.. قرر أن يكون دخوله إلى القاهرة دخول الظافر المنتصر. فدخلت قواته العائدة في موكب اجتهد أن يبدو رائعا بعد أن كان قد أبلغ قواده في مصر أن يدبروا له استقبال المنتصر.

أذاع كتاب حملته في وصف هذه العودة منشورا يقول:

دخل بونابرت مصر في موكب شهير.. رآه الكبير والصغير. ومشت أمامه جميع العساكر الفرنسوية وحكام وأعيان الأقاليم وعلماء وأغوات مدينة مصر المحمية، ودخل من باب النصر بالعز والنصر..!!".

مع ذلك فقد وجد بونابرت من واجبه أن يفسر للمصريين سبب عودته السريعة حتى لا يتطرق الشك إلى نفوسهم عن انهزامه أمام عكا. فأصدر منشورا في 23 يونيو 1799 من رئيس الديوان الخصوصي محروسة مصر لتوزيعه في مديريات مصر وأقاليمها. وفي هذا المنشور سرد بعص أخبار الحروب الشامية وبسط انتصاراتها في يافا.. كما قال: "وفي عكا هلك نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار بعد أن ضربت القوات الفرنسية سور عكا وهدمت قلعتها حتى لم يبق فيها حجر على حجر". واختتم المنشور الكاذب بالقول: "أنه رجع إلى مصر سريعا لأنه كان قد وعد برجوعه خلال أربعة أشهر ووعد الحر دين عليه.. ولأنه قد بلغه أن بعض المفسدين والأشرار من العز والعربان قد تحركوا في غيابه وكان لا بد من وضع حد لهذه الفتن".

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نابليون بونابرت