جمال العربية
جمال العربية
للجمال تجليات عديدة للتغير عند الناس معنى مناقض للجمال، ومثير للخشية والقلق، والخوف والكآبة. تغير العمر ـ في رأيهم ـ يعجل بالشيخوخة ويصل بالأشياء إلى نهاياتها، وتغير الطباع والأحوال يوقع في الاضطراب ويؤدي إلى فقدان الرضا والأمان، وتغير الوجوه يفضي إلى الوحشة والارتياب. هكذا ينظر الناس إلى التغير. أما أبوتمام الشاعر العباسي المبدع، الذي أنجز جديداً في لغة الشعر، ومُغايرا في بديعه، وفتح بابا لرؤية شعرية جديدة، ومدرسة تخالف السائد والمألوف، أبوتمام يرى الأمر من وجهة نظر مختلفة، فالتغير عنده قرين الحس والجمال عندما يقول: "حسن الأرض حين تَغيرُ". وهو قول يدعونا إلى تأمل واحدة من قصائده البديعة التكوين، الغنية بالصور الحية الموحية، والقادرة على الفعل والتأثير، شأنها شأن الكثير من شعر أبي تمام وتجلياته الإبداعية. يقول أبوتمام وهو يعرض للوحة طبيعية، محتشدة بالألوان، وجدلية الصحو والمطر، وزهو الربيع المبتختر في موكبه وعنفوانه: مطرٌ يذوب الصحو منه، وبعده صحو يكاد من الغضارة يُمطرُ غيثان، فالأنواء غيث ظاهر لك وجهه، والصحو غيث مضمرُ ما كانت الأيام تسلبُ بهجةً لو أن حسن الروض كان يُعمرُ أولا ترى الأشياءَ إن هي غُيرت سمجت، وحسن الأرضِ حين تغيرُ يا صاحبي تقصيا نظريكما ترياٍ وجوه الأرضِ كيف تصور تريا نهاراً مشمساً، قد شابهُ زهر الربى، فكأنما هو مُقمرُ دنيا معاش للورى، حتى إذا حل الربيع، فإنما هي منظر أضحت تصوغ بطونها لظهورها نورا تكاد له القلوب تُنور من كل زاهرةٍ ترقرق بالندى فكأنها عين إليكَ تحدرُ تبدو، ويحجبها الجميمُ ، كأنها عذراء تبدو تارةً، وتخفرُ حتى غدت وهداتها ونجادها فئتين في خلع الربيع تبخترُ مُصفرة، مُحمرة، فكأنها عصب تيمن في الورى وتمضر من فاقع غصن النبات، كأنه درٌ يشقق قبل ثم يزُعفرُ أو ساطع في حمرةٍ، فكان ما يدنو إليه من الهواء مُعصفرُ صبغ الذي لولا بدائع لطفه ما عاد أصفر بعد إذْ هو أخضرُ هذا الربيع الحي، الشاخص المتحرك المتدفق، المتحمل بالطيوب والعطور والألوان، المتخفي في ثياب الحسان، هو بعض إبداع أبي تمام الشعري، ونموذج لاقتداره الباهر على إنطاق الأشياء وأنسنة الطبيعة وتجاوز المكرور والمألوف. والجمال في حرائق الهشيم: عند الشاعر محمود حسن إسماعيل، وفي وقفة شعرية مماثلة، يصبح التعبير عن الجمال، وعن تدفق الإحساس بالربيع، وعن سواقيه التي تدور فتشعشع أنغامها للطبيعة والحب، وحشيا وحارقا. الموقف الشعري هنا يشتعل بمفردات الحريق والهشيم وشعشعة النيران والبعث الذي يؤهل.. امتدادا للمعجم الشعري الشديد الخصوصية والتميز عند محمود حسن إسماعيل. هذه المغايرة في موقف الشاعر ـ وجدانيا وشعريا ـ من الربيع، تضعنا أمام لوحة يبوح زيتها بشميم الإبداع ووهج الفن وحرقة المعاناة. يقول محمود حسن إسماعيل: ضج الهوى في بدني وشب حول زمني والجمال في مطر الربيعس الحار في كتابات الشاعر والمؤلف المسرحي الطليعي محمد الماغوط، لغة تنبض بالاختلاف والشعرية التي تتجاوز الشكل إلى الجوهر والجسد إلى الروح. تقول عنه مقدمة أعماله الكاملة سنية صالح: "مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى " حزن في ضوء القمر" وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية. وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع، وحيداً، لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقا إلى الحرية نجدها في الواقع طريقا إلى السحب". ثم تقول سنية صالح: "يعتبر محمد الماغوط من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث. كانت الرياح تهب حارة في ساحة الصراع والصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر، حين نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري. وقد لعبت بدائيته دورا مهما في خلق هذا النوع من الشعر. إذ أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي. وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود وكان ذلك فضيلة نادرة من الفضائل النادرة في هذا العصر" . ترى، كيف يتعامل هذا الحس الشعري العارم، هذه الغابة الشعرية البدائية مع الربيع؟ إن إبداعاً يتشكل طبقا لهذه المقومات والعناصر والفطرة الشاعرة المغايرة، من شأنه أن يمنحنا موقفا مختلفا من الجمال، ولغة بعيدة عن أي توقعٍ أو احتمال. يقول محمد الماغوط: تحت مطر"الربيع" الحار
|
|