مزارع في الفضاء

مزارع في الفضاء

منذ ان ارتاد الإنسان أعالي الفضاء لم تعد لأحلامه صفة الخيال ولا لمشاريعه الكونية حدود، فحقق قفزات كانت تعد منذ عقود ضربا من المستحيل.

قام العلماء في مركز جونسون الفضائي ومنذ سنوات عديدة بوضع احد خبراء الكيمياء في حجرة مربعة الشكل طول ضلعها عشرة أمتار وتحتوي على فرن ميكروويف وتليفون مع كمبيوتر إضافة إلى جهاز فيديو مع مزرعة قمح صغيرة بمساحة لا تتجاوز 8. 10 متر مربع. وبعد أسبوع كامل خرج هذا الكيميائي من تلك الحجرة وهو بصحة جيدة لاعتماده على الأكسجين الذي افرزته المزرعة النباتية الصغيرة، أما الماء والغذاء فكانا محفوظين بالهواء المحكم.

ويأتي هذا الاختبار ضمن برنامج فضائي للاعتماد الذاتي تشرف عليه فرق علمية من الولايات المتحدة واليابان وأوربا وروسيا يهدف إلى تطبيق الحياة الطبيعية على الأرض أثناء الرحلات الكونية وفي ظروف الفضاء الشديدة التعقيد.

وتدعيما لهذه الجهود العلمية أجرت وكالة الفضاء الامريكية "ناسا" تجارب لإحلال النباتات مكان خزانات الأكسجين في الرحلات الفضائية المأهولة، فوضعت نباتات البطاطس في خزانات مغلقة تماما ومضاءة صناعيا ولمدة تزيد على العام لدراسة كمية الأكسجين المنتج بهذه الطريقة، فتبين إمكان الحصول على أكثر من احتياجات رواد الفضاء خلال رحلتهم مع توفير الغذاء على أن يتم الري بطريقة ترشيح المياه المستخدمة في الرحلة بعد أن تنقى ويعاد استخدامها.

وباشر العلماء أبحاثهم لتقييم الاكسجين اللازم لرواد فضاء المستقبل واعادة استخدام ثاني أكسيد الكربون، فتوصلوا إلى قناعة بأن حاوية مساحتها عشرون مترا مربعا مزروعة بالنباتات تكفي لتلبية المتطلبات المعيشية لكل رائد فضاء واحد. لكن ذلك يتطلب تربة خاصة يمكنها إدامة التغذية النباتية لسنين عديدة، فأثمرت جهود العلماء في إنتاج تربة صناعية تتمتع بهذه الخواص الفريدة مكونة من مزيج من الزيولايت والنتروجين والبوتاسيوم مضافا إليها معدن الابتايت المركب صناعيا والحاوي على مصادر كبيرة من التغذية النباتية.

مصادر بديلة

تواجه العلماء معضلة فنية كبيرة في كيفية توفير الضياء الكافي الذي تحتاج إليه النباتات المزروعة في الفضاء الخارجي. فمن المتوقع أن تعتمد الرحلات الفضائية الطويلة على الطاقة الشمسية في إدامة اعمالها اعتمادا على تحويل هذه الطاقة إلى طاقة كهربائية للإنارة وغيرها. لكن استعمال هذه الإنارة لأغراض زراعية تعتبر مسألة مكلفة، لذلك يفكر العلماء في استغلال نظام الألياف البصرية لتوفير النور اللازم لعملية التمثيل الضوئي التي تتسم بالتعقيد، لأن النباتات بطبيعتها وفي الحالات النموذجية لا تستغل سوى 7% من النور المسلط عليها لأسباب تعود لتركيبة الكلوروفيل الذي يتعامل بحساسية مع الوحدات الضوئية "الفوتونز".

وفي مسعى للخروج من هذا المأزق نجح مهندسو الزراعة الفضائية في ابتكار تقنيات جديدة تعرف بومضات الضوء الكهربائي التي يمكنها توفير الضوء الكافي للنباتات في الوقت الملائم. فبفضل هذه التكنولوجيا أصبح بالإمكان إطلاق عدة مئات من الومضات الضوئية ذات التردد العالي في الثانية الواحدة ليكفل الضياء الكافي لنمو النباتات.

ولا يراود العلماء أي شك في نجاح أبحاثهم في الزراعة الفضائية، لكن المشكلة هي في إدامة هذه العملية وقدرتها على توفير الغذاء لسنين عديدة. وسيكون لتقنيات الهندسة الوراثية التي بلغت مراحل متطورة في الاختصاصات الزراعية دورا فاعل في الميدان الفضائي لحل المشاكل المتوقعة في هذا الميدان. ولكن يساور العلماء مخاوف من تأثير البقاء الطويل في الفضاء على التغذية البشرية وطبيعتها، واحتمالات نقص الكالسيوم في العظام بسببها، وضرورة تطعيم رواد الفضاء بمواد مستخلصة من الجزر والطماطم لحمايتهم من الإشعاعات الكونية.

تبادل محكم للغازات

إن عملية أخذ الاكسجين من قبل الإنسان وطرح ثاني أكسيد الكربون الذي تحتاج إليه النباتات لتطلق الاكسجين ثانية مسألة دقيقة تتطلب السيطرة التامة، وإلا فإن إدامة الحياة خلال الرحلة الكونية ستكون معرضة للخطر الشديد، خاصة أن هذه النشاطات تدور في حيز محدود ومغلق.

وللسيطرة على هذه العملية وضمان توازنها فإن الغازات التي يطلقها الإنسان والنبات ستمرر من خلال خزانات خاصة لتقييم محتوياتها واجراء عمليات فيزيائية وكيميائية عليها لتعويض الكميات الناقصة منها. لكن العلماء يطمحون إلى ايجاد وسائل افضل تحقق هذه التبادلات الغازية وانتظامها بصورة مباشرة، وذلك بعد التغلب على مشاكل التلوث والتسمم المحتملة خلال تلك العملية.

باشر العلماء تجاربهم لاختبار أنواع من المرشحات البيولوجية التي يمكنها تحويل الترسبات السامة للمواد الصبغية والبلاستيكية والصمغية إلى ثاني أكسيد الكربون والماء مع الكلوريدات المتآينة. وشجع نجاح هذه المرشحات على المباشرة بتطبيقها ضمن برامج محطة "مير" الفضائية لاختبار قدراتها في ظروف انعدام الوزن خارج الكرة الأرضية. كما يحاول العلماء تصنيع مركبات جديدة يمكنها تنقية مياه الصرف الصحي، اضافة إلى تنقية السوائل البولية واعادة استخدامها كمواد نيتروجينية لتسميد الحقل الزراعي الصغير اما الفضلات الصلبة فيمكن حرقها إلى درجة 500 درجة مئوية لتتحلل إلى ثاني أكسيد الكربون وماء وهذا الأخير يمكن اعادة استخدامه، بعد توفير اللوازم الفنية لامتصاص الروائح المنبعثة نتيجة هذه العمليات التحويرية المعقدة. لكن هذه الانجازات لم تحل جميع المتطلبات الفنية والمعيشية لرحلات المستقبل، فعند الحالات الاضطرارية التي تستوجب قيام رواد آخرين بزيارة مركبة فضائية مأهولة اخرى فان العملية ستكون اكثر تعقيدا لأنها تتطلب توفير كميات إضافية من الماء والاكسجين والغذاء وتصريف الفضلات للطاقم الفضائي الزائر. لذلك عكف المهندسون على وضع التصاميم الفنية لتلبية هذه الاحتياجات الاضافية ذاتيا.

وتعتبر زراعة النباتات وإدامة حياتها خلال الرحلة من الأمور المصيرية الواجب صيانتها، فنجح الخبراء في زراعة أنواع مختلفة من هذه النباتات في ظروف الفضاء الخارجي لتعويض الاصناف المعرضة للهلاك بأخرى مناسبة ومحفوظة في حاويات منعزلة لمنع انتشار المرض، اضافة إلى التوصل لوسائل تزيد من مقاومة هذه النباتات للأمراض السائدة في الفضاء. وعند حدوث كارثة قد تؤدي إلى وفاة هذه المزروعات يوجد نظام احتياطي للإنقاذ يمكن الاستعانة به لحين إصلاح الأضرار وإعادة الدورة البيولوجية ثانية على ظهر المركبة الفضائية.

ومن المؤمل قيام فريق علمي من مركز جونسون الفضائي بانشاء أول نموذج لهذه الحاويات الفضائية، وعند نجاحها سيباشر بتصميم حجم أكبر يتسع لأربعة رواد فضاء لمدة شهر كامل ويمكنه إعادة تدوير الهواء والماء بالاستعانة بالمعدات الفنية المتطورة. ويؤمل أن يكتمل هذا المشروع عام 2005 لإطلاق النموذج الأول حاملا الرواد في رحلة فضائية تستغرق شهرا كاملا، حيث يعول العلماء أن تتم هذه النشاطات الفنية لإدامة الحياة في الفضاء بصورة أوتوماتيكية لعدم قدرة رواد الفضاء على متابعة تلك المهام أثناء تنفيذهم لبرامج الرحلة الكونية.

وهناك طموحات وبرامج أخرى لها نفس الهدف ولكنها تختلف في التطبيق، فبعض العلماء يفضل ان تكون الزراعة الفضائية على سطح الكواكب التي يزورونها لتوفير خزين استراتيجي لمشاريع الفضاء المستقبلية البعيدة المدى.

 

 

لطيف إبراهيم علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




باتجاه الحصول على اكسجين من مصادر نباتية يتنفسه رواد الفضاء خارج الأرض





باتجاه الحصول على اكسجين من مصادر نباتية يتنفسه رواد الفضاء خارج الأرض





مزارع الفضاء هل تنقذ مستقبل الأرض؟