ربع قرن من المعرفة
ربع قرن من المعرفة
حديث الشهر منذ ربع قرن مضى, انطلقت من الكويت واحدة من أهم السلاسل الثقافية العربية, تحمل مشروعاً ثقافياً تنويرياً للأمة العربية, وحققت نجاحاً منقطع النظير, لم تحققه سلسلة ثقافية عربية غيرها, واعتبرها الكثيرون تجربة ثقافية فريدة تجسد قدرة المثقفين العرب على العمل المشترك, فهل نستفيد من دروس نجاحها ونحن في ذروة التشرذم والاختلاف داخلين إلى القرن الحادي والعشرين? يعتمد نجاح هذه السلسلة على عاملين. العامل العلمي.. والعامل الاخلاقي. إن عطاء الكويت المتواصل في الثقافة أعطاها نوعاً من الحرية الثقافية في يناير (1978م) صدر الكتاب الأول من سلسلة (عالم المعرفة) وكان بعنوان (الحضارة) من تأليف الدكتور حسين مؤنس, وأصبحت عالم المعرفة عبر مسيرة ربع قرن أوسع السلاسل الثقافية انتشاراً وتأثيراً في المنطقة العربية بأسرها. سواء من حيث عدد إصداراتها أو من حيث انتظام صدورها أو من حيث مستواها الثقافي والعلمي المرموق, وشكلت كتبها في مجموعها حتى الآن (278 كتاباً) شكلت مكتبة متكاملة تغطي مختلف فروع المعرفة بدءاً من الفلسفة وعلم النفس إلى الفلك والهندسة الوراثية والمعلوماتية وعلوم البيئة واللغة والفن وبقية فروع المعرفة الإنسانية المعاصرة. هذا المشروع الثقافي ليس مجرد سلسلة ثقافية تصدر من دولة الكويت, بل هي قصة نجاح مشروع ثقافي جسد من جهة كل طموحات الرسالة الثقافية التي انطلقت من الكويت, ومن جهة أخرى, جسد قدرة المثقفين العرب على الإنجاز المشترك عندما تتوافر لهم الظروف المناسبة لذلك, وقبل هذا وذاك, هي تجربة رائدة في احترام حرية الفكر والبحث والنشر لرجال العلم والفكر والثقافة, وهذه قصة أخرى سنأتي لها في مقالة منفصلة. كانت بداية هذا المشروع الثقافي محاولة لسد الثغرات التي بدأت تظهر على الساحة الثقافية العربية في مرحلة الانتكاسة الكبرى التي أصابت الثقافة والفكر العربي في السبعينيات, ومنذ هزيمة يونيو عام 1967م العسكرية وآثارها المدمرة على مجمل الواقع العربي, وكان من أهم هذه الثغرات غياب الإصدارات الثقافية التي تنشر كتباً رفيعة المستوى في مختلف فروع المعرفة وتكون زهيدة السعر في متناول قدرة المواطن العادي على الاقتناء, خاصة بعد غياب السلاسل المتميزة التي ازدهرت في العقود الماضية, ومن هذا المنطلق, طرحت فكرة مشروع إصدار سلسلة ثقافية شهرية يتناول كل كتاب فيها جانباً من جوانب المعرفة, وتهدف إلى جعل القارئ العربي مواكباً لأحدث التطورات الفكرية. وقد تمت الاستعانة في وضع مشروعها بمجموعة من الدراسات التي قام بها عدد من المفكرين العرب البارزين, أذكر من بينهم د.فؤاد زكريا ود.عبدالرحمن بدوي ود.عبدالهادي أبوريدة ود.محمود حجازي ود.محمد القصاص ود.شاكر مصطفى ود.محمد يوسف نجم وغيرهم. وبناء على تكليف رسمي من المسئولين في المجلس الوطني للثقافة تقدم المفكر البارز د. فؤاد زكريا ـ وكان وقتها رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة الكويت ـ بورقة عمل حول مشروع إصدار سلسلة كتب ثقافية تصدر من الكويت وبدعم كامل سخي من الدولة, وأشار إلى أن الحاجة تدعو إلى إصدار سلسلة يراعى فيها تلبية حاجات القارئ العربي غير المتخصص إلى الإلمام بثقافة العصر, والإحاطة بمشكلات العالم الذي يعيش فيه, مع عدم تجاهل تراثه وعناصر الأصالة في شخصيته القومية, وأن تظل ـ السلسلة هذه ـ محتفظة بمستوى علمي معقول, ولا تتنازل عــــن هــذا المســتــوى في سـبيـل أي اعـتـبــار آخر. توازن مع العصر ولكي يأتي المشروع في مرحلة التنفيذ مطابقاً للرؤية الثقافية والفكرية التي حضت عليه, كان لا بد من أن يتولى مسئولية التنفيذ من هو قادر على أن يدير المشروع ضمن الضوابط والأسس التي تحفظ له مكانته ويستمر دون عثرات الطريق أو تدخلات ممن يحاولون تسييس المشروع, أو استغلاله لأغراض مصلحية طارئة, لهذا كله, طلب من الدكتور فؤاد زكريا أن يتولى مسئولية الإشراف العلمي على ما سوف يصدر عن المشروع, وقد روعي أيضاً في اختيار أعضاء هيئة التحرير أن يكونوا من الشخصيات العلمية المرموقة وذوي خبرة واسعة في علومهم وفي النشر العلمي, ومواكبين لما تصدره المطابع في البلاد العربية وفي العالم. وتحددت مهمة الهيئة في: وضع خطة الكتب المؤلفة والمترجمة, واقتراح أسماء المؤلفين والمترجمين ومتابعة تنفيذ الخطة وتقويمها والمساعدة في فحص الكتب أو مراجعتها علمياً واقتراح أسماء الفاحصين والمراجعين الآخرين, وكل ما يتعلق بسلامة التأليف والترجمة والنشر بتطبيق أشد الشروط العلمية والبحثية. وفي يناير 1978م حمل الكتاب الأول مقدمة للشاعر الكويتي أحمدمشاري العدواني قال فيها: عندما فكرنا في إصدار سلسلة شهرية من الكتب الثقافية كان ذلك بوحي من شعورنا بحاجة القارئ العربي الماسة إلى الكتاب الذي يجعله مواكباً لأحدث التطورات في مجالات المعرفة, دون أن تفقده هذه المواكبة انتماءه لحضارته وأمته, فهو بحاجة الى الجمع بين روح العصر وروح الأمة معاً. وتشتد حاجة هذا القارئ إلحاحاً في وقت أخذت فيه تكنولوجيا ضخمة في ترويج ثقافات غربية نشأت في مجتمعات معينة, وأخذت هذه الثقافة أو الثقافات الغربية تزحف عليه لتعصف بكيانه, ولتفقده هويته, ولتزعزع ثقته بماضي أمته وبحاضرها وبمستقبلها. هنا نلمس بوضوح وعي أولئك الذين وقفوا خلف المشروع لأهدافه ومراميه, فقد تحدثوا عن القارئ العربي, لا الكويتي ولا الخليجي فقط, وعن التوازن بين روح العصر وروح الأمة العربية معاً, وعن وعيهم بما ينجم عن ثقافة الغرب من تأثير يفقد العربي هويته ومستقبله, وعن إدراكهم الواضح لوحدة الثقافة العربية وعظم دورها في تماسك الأمة, وعن القارئ العربي بعامة, وليس عن المتخصصين. ولابد, ونحن نتحدث هنا عن (عالم المعرفة) كواقع فاعل في الثقافة العربية من الوقوف باحترام شديد أمام جهود مستشار السلسلة, الذي وضع فيها خلاصة فكره وتجربته وجهوده, وتناغمت هذه الجهود مع التزام المسئولين بقومية المشروع ورسالته التنويرية. وقد ارتبط اسم فؤاد زكريا بعالم المعرفة, كما ارتبطت عالم المعرفة باسم فؤاد زكريا. فمنذ صدورها عام 1978م وهو يشرف على تحريرها علمياً تماماً كما تصورها وهي فكرة على الورق, تماماً مثلما ارتبطت باسمه إبداعاته الفكرية الرائعة مثل: (أسبينوزا) و(نيتشه) و(التفكير العلمي) و(خطاب إلى العقل العربي) وغيرها الكثير. والحديث يطول ـ لو أطلقنا له العنان ـ عن فؤاد زكريا وإسهاماته في التفكير والتخطيط والتنفيذ للكثير من المشروعات الثقافية والعلمية في الكويت على مدار ربع قرن مضى. تجربة فريدة جمعت (عالم المعرفة) بين فنون الكتابة بأشكالها المختلفة, تأليفا وترجمة, بما يؤكد معنى حتمية وضرورة التلاقي الثقافي, والانفتاح الإيجابي على ثقافات العالم, تلقياً وعطاءً. فالسلسلة نشرت كتابات شديدة الموضوعية لمؤلفين عرب, كما أنها ترجمت أهم ما أنتجه الفكر العالمي الحديث. وكانت معظم كتب السلسلة فريدة في بابها, ففي الإسلاميات مثلا, كان هناك السفر الضخم (تراث الإسلام) ثلاثة مجلدات رصدت إسهامات العرب في الحضارة العالمية, و(المساجد) و(مفاهيم قرآنية) و(الإسلام في الصين) و(الإسلام وحقوق الإنسان) و(الإسلام والاقتصاد) و(الإسلام والشعر) و(الإسلام والمسيحية) و(المدينة الإسلامية) و(مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام). وفي مجال العلوم الإنسانية, كان كتاب فؤاد زكريا (التفكير العلمي) أحد أهم الإنجازات الفكرية لهذا المفكر الكبير, والذي أعيدت طباعته أكثر من أربع مرات في أكثر من دار نشر, تجاوزت عدد نسخه المائة ألف نسخة, و(الفلسفة المعاصرة في أوربا), و(حكمة الغرب), و(اتجاهات نظرية في علم الاجتماع), و(الإنسان وعلم النفس), و(قصة الأنثروبولوجيا), و(الإنسان بين العلم والخرافة). وفي التراث العربي كان (حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي), و(الحب في التراث العربي), و(جحا العربي), وفي الاقتصاد كان هناك (صناعة الجوع), و(المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية), و(العالم الثالث وتحديات البقاء), و(الرأسمالية تجدد نفسها), و(الشركات عابرة القومية), وفي الفنون والآداب كان هناك (الكوميديا والتراجيديا), و(المسرح في الوطن العربي), و(المخرج في المسرح المعاصر), و(النقطة المتحولة: أربعون عاماً في استكشاف المسرح), و(دعوة إلى الموسيقى), و(أدب أمريكا اللاتينية) وفي الصراع العربي-الإسرائيلي كان هناك (مصر وفلسطين), و(الأيديولوجية الصهيونية)- جزءان, و(مشاريع الاستيطان اليهودي), و(الصهيونية غير اليهودية), و(اختلاق إسرائيل القديمة), وفي العلوم السياسية كان هناك (الولايات المتحدة والمشرق العربي) و(صراع القوى العظمى في القرن الأفريقي), و(تغيير العالم) و(العالم المعاصر والصراعات الدولية), و(مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج), وفيما يتعلق بالعرب وقضايا التنمية فالقائمة تطول, ومنها (مشكلات إنتاج الغذاء في العالم العربي), و(حاجات الإنسان الأساسية في الوطن العربي), وفي مجال الفكر العربي كان هناك (العدالة والحرية في فكر النهضة العربية), و(تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي), و(معالم على طريق تحديث الفكر العربي), و(العرب وعصر المعلومات)... إلخ. واذا كانت كل كتب (عالم المعرفة) تنفد فور طرحها في الأسواق تقريباً, فإن طلب القرّاء العرب لعدد من هذه الكتب كان هائلاً إلى حد دفع القائمين على السلسلة إلى إصدار طبعات ثانية وثالثة لعدد كبير من كتبها مثل كتب (تراث الإسلام والتفكير العلمي والطاغية وفخ العولمة والتفكير المستقيم والتفكير الأعوج والإنسان الحائر بين العلم والخرافة), وهناك عدد من العناوين وصل عدد نسخها إلى ستين ألف نسخة. لقد احتفظت (عالم المعرفة) بمستواها الثابت, بل إنها, وكما يرى الكثيرون, تزداد تقدماً عاماً بعد آخر, كما يقول فؤاد زكريا, وإذا أخذنا في الاعتبار أن كل عام يشهد إصدار اثني عشر كتاباً لأدركنا أن هذا النجاح نجاح غير عادي مقارنة بأي مشروع عربي مماثل. أما عن أسباب النجاح الأخرى, فهناك عاملان اثنان, على حد تعبير د. فؤاد ذكريا, وهما(العامل العلمي والعامل الأخلاقي, وفيما يتعلق بالعامل العلمي, فنحن نجد أن كل من له صلة بالسلسلة يعطيها من وقته وجهده الكثير, ومعنى ذلك أننا ندقق كثيراً, ولا توجد أي محاولة للتساهل أو التسيّب أو (الكلفتة)! بل إن هناك جديّة شديدة في العمل ظلت ملازمة للسلسلة منذ البداية وحتى هذه اللحظة.... أما من الناحية الأخلاقية, فهناك ما يمكن أن نسمّيه بدور الضمير الأخلاقي في هذا الموضوع, لأننا في مجتمعنا العربي كثيراً ما نفسد أعمالنا أو مشروعاتنا الناجحة من خلال المجاملات ومراعاة الخواطر والواسطة, ونحمد الله أن المجاملات أو التعصب أو العوامل المحلية أو الإقليمية. كل هذا ليس له دور في هذه السلسلة... فنحن نحاول بقدر الإمكان أن نجعل من قيمة العمل نفسها المحك الوحيد. لذلك تجدنا اعتذرنا عن أعمال لبعض الشخصيات الكبيرة أو طلبنا منها أن تعيد هذه الأعمال وتراجعها مراجعة أساسية, بينما قبلت أعمال أخرى لشخصيات في أول السلم العلمي, لكنها قدمت شيئاً جديداً فقبلت هذه الأعمال, وربما كان دخولها في سلسلة عالم المعرفة بداية الطريق لتصبح هذه الشخصيات معروفة على المستوى العربي كله). وقد كان الهدف من المشروع هو خلق رأي عام مثقف علمي مستنير من خلال تبسيط الثقافة المعاصرة وتقريبها من القارئ العربي, وأن تكون الوسيط الواعي بينه وبين العصر المتسارع في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والدراسات الأدبية واللغوية والدراسات الفنية, والدراسات العلمية والتكنولوجية والمستقبليات, وهي تحتضن كل فروع المعرفة الإنسانية من تاريخ الأفكار إلى عالم الحياة والفلك, ومن علم الجمال إلى الرياضيات التطبيقية ومن الأدب إلى التخطيط والمباحث اللغوية والحضارية. وقد تنوّعت المواضيع التي عالجتها السلسلة التي كان هدفها الأساسي - كما قلنا - هو خلق رأي عام مثقف ومستنير - وكما قال أحد الباحثين في موضوعات السلسلة - إن التنوير يتطلب أن يكون الأسلوب علمياً إذ لا يمكن توجيه خطاب إلى العقل إلا بقوانينه هو, وأن يكون هدفها - السلسلة - الوعي الشامل بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون أو ما ينبغي أن يكون. الـمحنة ظلت سلسلة الكتب هذه تصدر بانتظام في أول كل شهر منذ عددها الأول عام 1978 وحتى أغسطس 1990 حيث صدر كتاب بعنوان تنبئي (التلوث مشكلة العصر) وتوقفت بعده تلك السلسلة بسبب كارثة الاحتلال العراقي للكويت, وكان ذلك الاحتلال - كما يقول فؤاد زكريا - عام تلوّث بالفعل, تلوّث سياسي وعسكري أصابنا منذ اللحظة التي فكر فيها بلد عربي في أن يحل مشكلته مع بلد عربي آخر بالغزو, وتلوّث أخلاقي تمثل في تلك الممارسات الهمجية التي تفوق كل ما يخطر ببال الخيال المريض, وتلوّث مادي في عمليات التلغيم والهدم والتخريب, ثم الإحراق الكامل لأشد المواد قابلية للاحتراق, ولثروة عربية آثر الغزاة أن يبددوها في الهواء ماداموا قد وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستحواذ عليها... لقد كانت أشد اللحظات إيلاماً هي تلك التي اكتشف فيها كل مَن أسهم بجهده وفكره في إنجاح مشروع ثقافي مثل (عالم المعرفة) أن تلك المعاني التي حاولنا قدر استطاعتنا أن نغرسها في النفوس طوال ثلاثة عشر عاماً قد انكسرت عند القشرة الخارجية لعقول الكثيرين, وأن قيماً كالحرية وحقوق الإنسان والتضامن والتفاهم والعقلانية لم تجد مَن يدافع عنها بين شعوب عربية كاملة, بل لقد وجدت, بين أشهر (المثقفين) مَن يعد هذه القيم رخاوة وطراوة, ويسمي الفاشية الدموية الغاشمة (صرامة). على أن صدمة الكشف الأليم سرعان ما تتحول إلى مزيد من الإصرار, فالطريق مازال طويلاً, هذه هي الحقيقة الأساسية التي أثبتها ذلك الانشقاق الفكري الذي أصاب العقل العربي منذ الثاني من أغسطس. ولكن هذه الحقيقة بعينها هي التي تجعل (عالم المعرفة) أكثر ضرورة, وتجعل أهدافها أشد إلحاحاً, فالتنوير الذي اتخذته هدفاً لها لابد أن يخوض معركته, وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. وفي مقدمته لأول كتاب من السلسلة يعود للصدور بعد محنة الغزو وهو (الكويت والتنمية الثقافية العربية), يبدأ فؤاد زكريا بعبارة قالها له شاب عربي لم يزر الكويت ولا يعرف عنها سوى القليل: (إنني لا أعرف الكويت إلا بوصفها منبعاً للثقافة) هكذا قال الشاب. واختتم الدكتور زكريا المقدمة بقوله: (أعود... إلى هذا الشاب العربي الذي لا يعرف الكويت إلا بوصفها منبعاً للثقافة, أزجي إليه التهنئة لأن صرحاً من الصروح الشامخة لهذه الثقافة قد ارتفع من جديد. ولا تملك أسرة تحرير (عالم المعرفة) إلا أن تعد هذا الشاب بأنها ستواصل مسيرتها على النهج نفسه الذي أتاح لها أن تكتسب ثقة جيل بأكمله, وتعمل ما في وسعها كيما يستوعب العقل العربي تلك الدروس البليغة التي علّمتنا إياها أحداث مشئومة حرمت شبابنا-إلى حين- من منابع ثقافتهم الأصيلة). وقد كانت كل هذه المعاني ماثلة في أذهاننا عندما بدأنا العمل على إعادة إصدار سلسلة (عالم المعرفة) من القاهرة منذ الأشهر الأولى للغزو, وقد حصلنا على موافقة فورية من مجلس الوزراء الكويتي في المنفى على إعادة إصدارها, وتم تأمين الميزانية المطلوبة لذلك. وتم لنا إعادة الإصدار في سبتمبر 1991م من القاهرة, وظلت تصدر من القاهرة إلى أن عادت مرة أخرى للصدور من الكويت بعد التحرير اعتباراً من أبريل 1992م, حيث طبعت في أول مطبعة كويتية يعاد بناؤها وتأهيلها بعد الغزو والتحرير. حرمة الثقافة يصف الراحل أحمد بهاء الدين (عالم المعرفة) بأنها (أرقى سلسلة في اللغة العربية وتضارع أي سلسلة بأي لغة). لكن أبلغ ما أنهي به حديثي هذا الذي أراه قد طال, هو تلك العبارات الموحية التي أستعيرها من أخي الدكتور محمد السيد سعيد عن عالم المعرفة عندما قال عنها إنها أصبحت: (أحد الأنهار الكبرى في الثقافة العربية... فقد لعبت دوراً كبيراً في تطور وإغناء الثقافة العربية في اتجاهات متعددة, وأظن أن المثقفين العرب يدينون لهذه السلسلة بالكثير جداً. وكان في ظني دائماً أن دولة الكويت عن طريق التوسع في هذا العطاء الثقافي تستطيع أن ترسخ مفهوماً جديداً أعتقد أنه يصلح كأساس لسياسة الأمن القومي أو الأمن الوطني في الكويت وهو ما أسمّيه بسياسة تأكيد (الحرمة) الثقافية. فنحن نعرف في التراث العربي حرمة شهور معينة, الأشهر الحرم, التي يحرّم فيها الحرب والقتال بين العرب. وأظن أننا في حاجة أيضاً إلى تأكيد معاني حرمة دول معينة أو مناطق معينة على العدوان انطلاقاً مما تستطيع أن تقدمه من عطاء ثقافي تحتاجه هذه الأمة بقلبها وأطرافها, بروحها وعقلها, في حاضرها ومستقبلها, وهي قضية الثقافة, التي هي حاكمة بالنسبة لتطور المجتمعات العربية, وإذا توسعت الكويت في هذا العطاء الثقافي المماثل لسلسلة عالم المعرفة ومجموعات الدوريات الثقافية والعلمية الأخرى الرفيعة المستوى, التي تصدر هناك, أعتقد أننا نستطيع أن نحقق في نهاية المطاف حرمة الكويت الثقافية بكل المعاني). وإننا في هذه المناسبة التي نحتفل بها بمرور خمسة وعشرين عاماً على قيام مشروع عالم المعرفة لندعو كل المثقفين العرب بكل توجهاتهم الفكرية أن يرفعوا شعار الدفاع عن المنجزات الثقافية العربية في كل بلد عربي, ويتصدّوا لكل أساليب القهر والاضطهاد والتخلف, ويقيموا من أفكارهم وقيمهم جسوراً تعيد بناء ما تهدّم من هذه الأمة على مدى عقود مضت, ويستكشفوا الحقائق من أرض الواقع, ويعملوا من أجل إعادة بناء الذات العربية التي أصابها الكثير من الأذى على أيدي مدّعي الثقافة وتجّار الكلمة ومروّجي قيم الاستبداد والدكتاتورية.
|