الكيميـاء السيـاسيـة

الكيميـاء السيـاسيـة

تتردد على أسماعنا تعبيرات كثيرة قد لا نعرف المقصود منها بالضبط ولكنها تبدو لنا مستساغة أو على نحو ما مفهومة بذاتها, مثل الحساب السياسي, الجغرافيا السياسية, اللغة السياسية, الفن السياسي, الاجتماع السياسي... إلخ. ولكن تعبيرات أخرى قد لا تبدو لنا مفهومة بذاتها عندما تصطك بأسماعنا أو تمر عليها أعيننا مكتوبة في الصحف أو المجلات والكتب, ومن هذه التعبيرات (الكيمياء السياسية)...

تعكس جميع التعبيرات السابقة تداخل مظاهر الحياة, والغزو المتبادل لمجالات المعرفة, وأغلبها مع ذلك يدخل في باب المجاز. فالمقصود مثلاً بتعبير (الحسابات السياسية) ليس تطبيق علم الحساب في مجال السياسة على النحو الذي نطبق به هذا العلم على الكميات المادية. وإنما نقصد به القيام بجرد دقيق لجميع العناصر التي تدخل في الاعتبار عند تقدير موقف ما تمهيداً لاتخاذ قرار يلزمه هذا التقدير. هذا الجرد قد يحتم اتخاذ اجراء حسابي لأشياء مادية, أو تقريب (جسامة) أو (قيمة) أو أهمية) عوامل كيفية معينة بوضعها في مقياس, ولكنه في نهاية المطاف ينهض على تقديرات تأملية وذاتية, يظهر فيها نبوغ الزعماء السياسيين وخيالهم, وقربهم من إدراك الواقع في الوقت نفسه, فقرار الحرب (أو السلام) يقتضي (حساب (قوة الخصم وإمكاناته قياسه بمؤشرات عديدة منها ما هو مادي مثل إعداد الجيوش ونظم التسليح, ومنها ما هو غير مادي مثل الإرادة والروح المعنوية ومنها ما قد يربط بين هذا وذاك, وهكذا.

ثم إن تعبيراً مثل (الحساب السياسي) قد يتدرج في العمق بدءاً من مشاهدات ميدانية قد تقبل إجراء عمليات جمع وطرح وقسمة, مروراً بتقدير المخارج المحتملة لتفاعل بين فاعلين (سياسيين) وهو ما يساعد علم الاحتمالات فيه, وصولاً إلى أرقى وأصعب عمليات التفكير (الحسابي), وهو ينطوي على استنباط مغزى سلوك ما أو اختبار بعينه يجريه السياسيون بالنسبة للتطور المجتمعي والحضاري لبلادهم, وهذا المستوى قد يبتعد عن الحسابات وينطوي عليها في الوقت نفسه.

إيحاءات غامضة

إنك تسمع كثيراً أو تقرأ بدهشة تعبير الكيمياء السياسية دون أن تلتفت بالضرورة إلى معناه, ولكنك غالباً ما تستنتج أن المقصود منه أقرب إلى مجال المجاز منه إلى الواقع. وبهذا المعنى تقول مثلاً إن نوعاً من الكيمياء قد حدث بين زعيمين سياسيين, أو أنه لم يحدث كيمياء بين زعيمين أو أكثر. المقصود بالتعبير في هذه الحالة هو أن تفاهماً سريعاً قد حدث بين الزعيمين المشار إليهما, أو أن العكس تماماً قد حدث, حيث حل النفور محل التفاهم وأن أحدهما لم يطق الآخر مطلقاً ولم يتمكن أو يرغب أو يستطيع التواصل معه, وهو ما يحدث عادة بشكل متبادل.

ولكن لماذا لا نقول أو نكتب هذا المعنى بوضوح وبصيغة مباشرة بدلاً من اللجوء إلى المجاز باستعمال تعبير الكيمياء السياسية? هل في الأمر ما يتعدى (الفذلكة) والميل للبلاغة?. نعم
فعندما نستخدم تعبير (الكيمياء) في المقام أو السياق الذي أشرنا إليه, نعتمد على ما تفرزه كلمة (الكيمياء) من إيحاءات غامضة, وعمليات تفاعل معقدة قد نعرف بيقين بعض نواحيها ومستوياتها, وقد لا نعرف شيئاً بالمرة عن نواحيها أو مستوياتها الأخرى.
فالأصل النظري هو أن التواصل أو التفاهم السريع بين السياسيين هو عملية فكرية, وتفترض وجود إطار فكري مشترك ولو في مجال بعينه, بحيث يصلح لفك شفرة المصطلحات وإدراك الافتراضات المضمرة وامكان استنباط النتائج المحتملة, وهو ما يمهد لاتفاق ما. غير أننا نعرف الآن عن يقين أن مجرد التوافق على إطار فكري مشترك قد لا يكون ضمانة للتفاهم وسرعة التواصل, وعلى سبيل المثال, فإن مناقشة بين زعيمين ماركسيين, أو ليبراليين لا تضمن التوصل إلى نتائج, أو حتى مجرد قبول أحدهما للآخر أو لأطروحاته, لقد أدركنا أن في الأمر أيضاً عوامل نفسية قد تسهل التفاهم أو تعطله, فيقابل زعيم ما آخر من نفس الفصيلة الايديولوجية أو الفكرية فيفسد اللقاء ويتعطل التفاهم أو ينفجر الواحد منهم غيظاً من الآخر, وقد يسهم ذلك في دفع العلاقات بين الدولتين إلى الأسوأ, بل قد يدفع الأمور إلى الحرب.

والعكس أيضاً قد يحدث, فيتقابل زعيمان من أطر فكرية وأيديولوجية مختلفة, فتحدث كيمياء فيما بينهما فيتفاهمان بسرعة وفعالية, وهو ما قد يسهم في تخفيف التوتر بين دولتين لهما مصالح متناقضة أو مذاهب سياسية متعارضة.

إننا لا ندرك تماماً لماذا حدثت هذه الكيمياء أو لم تحدث, فبعض عناصر القضية قد تكون واضحة حتى لغير المتخصصين, فعادة ما تنضح العوامل النفسية على الجسد وارتسامات الوجه, كما ان الطبائع الشخصية تظهر في اللقاءات المباشرة, وعلى سبيل المثال فإن بعض رؤساء الدول يميلون لالقاء المحاضرات على شركائهم أو خصومهم التفاوضيين, وهو ما قد يؤدي إلى تكون موقف معاد لديهم, ويميل بعضهم إلى انتهاج خط هجومي مباشر مستخدماً لغة أو لهجة عدوانية, وهو ما يحدث أثراً أشد, وهكذا.

لفظة الكيمياء بهذا المعنى وعند هذا المستوى ليست مجازية فحسب, بل إنها تشير في الواقع إلى العوامل النفسية في التفاعلات الشخصية بين الساسة الكبار.

البيولوجيا السياسية

ولعلنا ندلف من هذا المستوى إلى مستوى آخر مرتبط به, وإن كان يجري في اتجاه مخالف, فبينما تكون (الكيمياء) نتيجة للعوامل النفسية كما شرحنا بالنسبة للمستوى الأول, فإنها قد تكون سبباً أو أداة لبحث (الحالة النفسية) للزعماء والساسة الكبار, عند مستوى ثان للتحليل.

فلو افترضنا أن الحالة النفسية للسياسيين غير معروفة من خلال لقاءات مباشرة, فهل يمكن التعرف عليها عن بعد? هناك محاولات كثيرة للقيام بقياس وتعيين الحالات النفسية للزعماء والشخصيات السياسية البارزة من خلال منهج يسميه أصحابه (بـ البيولوجيا السياسية). وينهض هذا المنهج على افتراض أن الحالات النفسية للأشخاص عموماً تنضح على حالاتهم المادية والجسمانية. فالتوتر أو الإحباط أو اليأس يظهر مثلا في الصوت, وخاصة أثناء إلقاء خطب عامة. وقد يمكن ترسم تلك الحالات وقياسها من خلال مظاهر أخرى, مثل كمية العرق التي تظهر على الوجه في غضون إلقاء جزء معين أو آخر من خطاب سياسي.

وبتعبير آخر فإن التفاعلات الكيميائية التي ينتجها الجسم بفضل معاناة أو المرور بحالات نفسية أو عقلية يمكن التعرف عليها من خلال مظاهر واضحة, مثل تذبذبات الصوت وكميات العرق وإرتسامات الوجه وحركة العضلات... الخ. فإذا حصلنا مثلاً على خطاب لزعيم سياسي أثناء أزمة دولية, فإن تحليل هذا الخطاب معملياً قد يقودنا إلى معرفة الحالة النفسية والعقلية لهذا الزعيم, والتنبؤ بقراراته المقبلة خلال ساعات أو أيام قليلة.

وتقوم المعالجة المعملية لتلك المظاهر المادية الجسدية على نتائج البحوث الطبية والسيكوسوماتية. فثمة مواد كيميائية بعينها تسبب كل حالة من حالات الغضب أو الإحباط أو التوتر, أو كل دافع أو استعداد معين مثل العدوان أو المهادنة والتسليم, وغيرها.

وقد وضعت بعض أقسام العلوم السياسية في بعض الجامعات الأمريكية ـ مثل جامعة ألينوى الشمالية ـ استثمارات كبيرة في معاملها المخصصة لهذا الغرض. ومع ذلك, فإن النتائج الناجمة عن هذه البحوث لم تكن مؤثرة. فأولاً لا يحتاج الباحثون حقيقة إلى تلك المعالجات المعملية من أجل التعرف على الحالة النفسية والعقلية للزعماء السياسيين, في لحظات بعينها. فغالباً ما تظهر هذه الحالات مباشرة دون حاجة إلى قياسات دقيقة, إلا فيما ندر. وقد يكفي تحليل لغة الخطاب لكي نتبين بوضوح كامل الحالة النفسية والعقلية للزعماء السياسيين.

ومن ناحية ثانية, قد لا يتيسر الحصول على مثل هذه التعبيرات المادية والجسمانية الشخصية للزعماء أو الساسة الكبار خاصة وقت الأزمات. بل إن أكثر هؤلاء الزعماء يكتفون بإصدار أخطر القرارات مثل الحرب والسلام ـ أثناء اجتماعات سرية أو في خلوات شخصية. ويعيش عدد من أبرز الرؤساء الذين ارتبطت أسماؤهم بقرارات استراتيجية كبرى ـ سواء كانت حكيمة أو خرقاء تماماً ـ بنمط وأسلوب حياة يتميز بالخصوصية. فالبعض منهم ـ مثل الرئيس صدام حسين ـ يعيش في كهوف حقيقية, أي في عزلة تامة عن العالم المحيط به. ويستطيع البعض الآخر إخفاء حقيقة مشاعرهم بمهارة واقتدار, بل ويمكنهم على الأقل عدم الظهور علنا أثناء اتخاذ قراراتهم الخطيرة. أما البعض الآخر فقد يكون من السهل تماماً التعرف بدقة على شخصياتهم بسبب الإفراط في الظهور في العلن أو أمام وسائل الإعلام.. والرئيس السادات مثلاً كان من هذا النوع الأخير.

إن مدى الإضافة المعرفية المحتملة لتطبيق هذا المستوى من تحليل الكيمياء السياسية ضئيل للغاية بالمقارنة بما يقتضيه من إمكانات مادية وظروف ملائمة. وهو على كل حال يقوم على مبالغة شديدة في دور العوامل الشخصية في رسم السياسات واتخاذ القرارات, بل وعلى مبالغة شديدة في دور الظروف الطارئة والحالات النفسية العارضة بالمقارنة بهيكل الشخصية.

الثورة السلوكية

وهناك أخيراً مستوى ثالث بعيد تماماً عن حيز السيكولوجيا وعالم المواد والإفرازات الكيماوية لتحليل الظواهر السياسية. الكيمياء السياسية هنا ـ عند هذا المستوى ـ لا تعتمد على نتائج علماء الكيمياء, ولا تستخدم لفظة الكيمياء بصورة مجازية, وإنما تحاول مقارنة التفاعلات والظواهر السياسية بالإحالة الى أنماط التفاعلات الكيماوية. ويستخدم تعبير الكيمياء السياسية هنا ليس ارتكازاً على المجاز وإنما على المشابهة.

ولكي نفهم هذه المشابهة قد نضطر هنا الى عرض موجز للغاية لمناهج تحليل الظواهر السياسية.

ففي البداية كان هذا التحليل يعتمد على التأمل والتحليل المنطقي, ويتوقف عنده الى حد كبير. صحيح أن عدداً من المفكرين كانوا يدللون على صحة تحليلاتهم بالإشارة إلى وقائع وأحداث بعينها. غير أن هذه الإشارات كانت أقرب الى اقتطاف ثمار من الغابة وترك أخرى, الأولى يستلطف جامع الثمار نكهتها ـ أو توافق تحليل المفكر أوعالم السياسة, والثانية تبدو له كريهة المذاق أو غير ذات طعم, أي لا تتفق مع هوى أو فكرة العالم والمفكر.

فصحة وجهة نظر بعينها استندت قبل كل شيء إلى وجاهتها النظرية والتأملية, مع إشارات متفرقة ومزاجية ـ أو أحياناً تعسفية ـ الوقائع أو أحداث ومظاهر بعينها. فجان جاك روسو بدأ من فرضية أن الإنسان مفطور على الحرية, ولكنه ـ أي روسو ـ اضطر بالنظر إلى الواقع لاستنتاج أن الناس لايتصرفون بالضرورة كأشخاص أحرار. ومن أجل حل هذا التناقص عمد الى القول بوجود حالة طبيعية سابقة على نشأة المجتمع السياسي, حين تمتع الناس بحريتهم كاملة. ولأن هذه الحرية الطبيعية قد تسبب الفوضى اتفق الأفراد على إقامة مجتمع سياسي منظم, فعقدوا عقداً فيما بينهم تنازلوا بمقتضاه عن جزء فقط من حريتهم من أجل التمتع بحماية القانون. لم يكن روسو مضطراً لإثبات وجود تلك الحالة الطبيعية لتأسيس فكرته عن الحرية الطبيعية أو القانون الطبيعي. غير أن هذا التحليل ساعده على إدانة الاستبداد باعتباره إخلالاً بالعقد الاجتماعي لأن الأفراد لم يتنازلوا عن كل حريتهم. فيكون المستبد قد اغتصب شيئاً ليس من حقه.

ولننظر مثلاً أيضاً إلى فكرة الصراع الطبقي التي قال بها ماركس مع عديد ممن سبقوه. الثورة في المجتمع قبل الرأسمالي أو الرأسمالي هي نتيجة هذا الصراع الذي يدور بين الطبقات المستغلة (بكسر الغين) والطبقات المستغلة (بفتح العين). المفترض وفقاً لهذه النظرية أن الأكثر فقراً هم من يثورون. ولكن هناك أدلة عديدة من الواقع التاريخي لكل المجتمعات أن الفقراء عادة ما لا يثورون. فثورة الفقراء هي استثناء بأكثر منها قاعدة.

وأدى توافر أدلة واقعية على عدم دقة كثير من النظريات القوية في حقل المعرفة الاجتماعية إلى بحث الحاجة لتقريب العلوم الاجتماعية من العلوم الطبيعية التي يعتقد أنها أكثر صلابة ودقة. ومن ثم بدأت مرحلة تسمى بـ (الثورة السلوكية) في حقل المعرفة الاجتماعية. وأصبح المثل الأعلى لهذه الثورة هو صياغة هذه المعرفة بصورة تشبه أو تكون أقرب ما يكون إلى القانون العلمي. وكانت العلوم السياسية أكثر مجالات المعرفة الاجتماعية تأثراً بالثورة السلوكية.

قانون الثورة

فإذا أخذنا المثال السابق ـ أي قضية الثورة ـ بحث علماء السياسة مسائل مثل من يقوم بالثورة? ومتى? وحشدوا لذلك وسائل وأدوات منهجية لجمع المعلومات المتاحة عن مختلف الثورات التاريخية المعروفة لاختبار فروض شتى من أجل الوصول إلى ما يعتقدون أنه قانون علمي يمكن إدراج جميع الثورات الاجتماعية والسياسية تحته, فيكون تفسيراً شاملاً لها.

وانطلاقاً من مشروعات بحثية شتى ظهرت محاولات عديدة لصياغة قانون عام ـ أو قوانين عامة للثورات. ومن هذه القوانين مثلاً أن الثورات تحدث عندما يعاني الناس من حرمان نسبي. ففي مجتمع معين مثل فرنسا, حدث تحسن ملحوظ في مستويات المعيشة لفترة طويلة من القرن الثامن عشر. ولكن العقدين الأخيرين من هذا القرن شهدا تدهوراً ملموساً في مستويات المعيشة مما جعل الناس يشعرون بحرمان نسبي, فانبعثت الثورة الفرنسية الشهيرة عام 1789.ويصدق ذلك على بقية الثورات, فيما يعتقدون.

تمت صياغة هذا (القانون) في مقتبل عقد السبعينيات, حينما كانت أدوات المعرفة وما هو متاح من معلومات محدودة نسبياً. ولكن البحوث التالية أظهرت أن هناك حالات كثيرة من الحرمان النسبي دون أن تنبثق ثورات اجتماعية أو سياسية. بل إن هناك حالات معاكسة كثيرة حيث وقعت ثورات كبرى في ظروف من الرخاء النسبي, فالثورة الإيرانية مثلاً وقعت في ظروف اتسمت بالرواج والرخاء وصلت الى قمتها عام 1979: أي العام الذي انبثقت وانتصرت فيه هذه الثورة. قد يقود اكتشاف أمثلة مخالفة للقانون العام إلى مزيد من البحوث الهادفة لنفس الغرض, أي صياغة قانون أكثر دقة. ولكن ما حدث هو أن الشكوك في المثل الأعلى للثورة السلوكية قد تعاظمت إلى درجة تعرض هذه الثورة لهبوط متواصل, حتى في الولايات المتحدة ذاتها, البلد الأم لهذه الثورة. وبتعبير آخر, لم يعد البحث عن قانون عام يفسر الظواهر السياسية تفسيراً شاملاً هو المثل الأعلى للتحليل السياسي والاجتماعي, إذ أدرك العلماء خصوصية الواقع الاجتماعي بالمقارنة بالعالم الطبيعي. وأبرز جوانب هذه الخصوصية هو التعقيد الهائل الكامل في الأول. ولكن هل يعني هذا النقد أن نتخلى عن مشروع تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية تفسيراً علمياً? يعتقد البعض بضرورة ذلك.

ولكن كثيرين يعتقدون أن من الممكن مواصلة التحليل العلمي للظواهر الاجتماعية آخذين في الاعتبار فكرة التعقيد, وأحد الحلول الممكنة هو تقريب التحليل الاجتماعي لعلم الكيمياء.

تسلسل كيميائي

يؤدي هذا التقريب إلى التخلي عن تفسير الظواهر الاجتماعية بإبراز عامل أو سبب واحد. فالظواهر الاجتماعية هي نتاج تفاعل معقد بين عناصر عديدة, مثلما أن المركبات الكيماوية هي نتيجة تفاعل عناصر عديدة بكميات يمكن حسابها.
ويتم تصوير التفاعلات الكيماوية في شكل شجرة لها جذع وفروع كثيرة, وهكذا يمكن أيضاً تصوير التفاعل بين العوامل الاجتماعية.

ولنأخذ مثلاً بظاهرة الثورة التي تناولناها سابقاً. يمكننا افتراض أن الحرمان النسبي هو عامل من العوامل. ولكن بعض الاعتبارات الوجدانية والأخلاقية ـ وهي التي تميز البشر عن الكائنات الطبيعية ـ لها أيضاً دور. فالاحباط أو الغضب الأخلاقي لدى قطاعات كثيرة من المجتمع قد يكونان سبباً للثورة عندما تتعرض هذه القطاعات لحرمان نسبي. ولكن اجتماع الحرمان النسبي والغضب الأخلاقي قد لا يؤدي بالحتم والضروة إلى ثورة ناجحة, بل قد يؤدي إلى انقلاب, أو مجرد أعمال عنف مدني أو غيرها من صور العنف. ويعتمد الأمر على مدى تمتع المجتمع بشبكة جيدة من مؤسسات التعبئة. إن نمط توزيع هذه المؤسسات على القطاعات الاجتماعية المختلفة يحدد جزئياً طبيعة ومحتوى الأشكال المختلفة من العنف بما فيها الثورات.

فلو أن الفئات الحاكمة قوية للغاية وتتمتع بمؤسسات تعبوية قوية تستطيع أن تواجه النتائج المحتملة لتدهور اقتصادي مؤقت أو توزيع غير عادل للثورة المتنامية, فإما أن توجد منافذ لتفريغ غضب الفئات المحرومة نسبياً, وإما أن تحقق إصلاحاً اجتماعياً معتدلاً من أجل تجنب الثورة الشاملة, وإما أن تدخل مرحلة من القمع الشامل للفئات الغاضبة.

فإذا بدأنا تحليلنا بعاملين فقط مثل الحرمان النسبي والغضب الأخلاقي قد نصل الى مركب معين من تفاعل هذين العاملين مثلما يحدث من اجتماع وتفاعل عنصرين من العناصر الكيماوية, وليكن هذا المركب هو العنف الاجتماعي, وبإضافة عنصر ثالث بكميات مختلفة مثل التكوين المؤسسي نصل إلى تفرع هذا المركب إلى ظاهرتين متمايزتين. وعندئذ نأخذ كل ظاهرة, والتي هي من مركبين جديدين فنضيف إليهما عاملا رابعا مثل وجود عدو خارجي, أو دخول هذا العامل في صورة إصلاح اجتماعي محدود وفي ميعاده المضبوط, لنجد أن احتمالات عديدة قد انفتحت أمام كل من الظاهرتين الأوليين على انفراد. وقد تكون الثورة هي أحد الاحتمالات في أي منهما.

وكأن الثورة هي نتيجة تسلسل تفاعل عناصر عديدة أو عوامل متمايزة في الحركة الاجتماعية والسياسية. ويكون من الضرورة فهمها مثلما نفهم تسلسل التفاعلات الكيماوية, وهذا هو ما يمكن تسميته كيمياء السياسة أو الكيمياء السياسية.

 

محمد السيد سعيد