أصول معالـجة الأصول

أصول معالـجة الأصول

قضية للمناقشة

ما حدود حريتنا في التعامل مع الموروث الإبداعي للأسلاف? سؤال يبدو منصبّاً على حالة بعينها, لكنه بين يدي أستاذ في الطب النفسي معروف بتمرّده على المسلمات الذهنية الشائعة, يكتسب أبعاداً مترامية.

من حق المفكر, بل من طبيعة الفكر, أن يتحوّل من موقف إلى موقف, ومن فكر إلى فكر, حتى لو تناقضت أفكار كل مرحلة مع لاحقتها, لكن من حق القارئ (والناقد, بداهة) أن يتابع مسار الفكر والمفكر ما أتيح له ذلك, حتى يتوقف عندما شاء من مراحل, أو يقارن أو يراجع ( ما أمكن ذلك).

حول منتصف الأربعينيات, في الرابعة عشرة من عمري, كنت أتردد على منزل المحقق الأديب المفكر الراحل محمود محمد شاكر في شارع السبق بمصر الجديدة, وكان بيته مفتوحا طوال أيام الأسبوع, حتى لمن هم في سني آنذاك, وليس في يوم معين لندوة خاصة. صدر أيامها تحقيقه الأخير في السيرة النبوية العاطرة, ولم أكن أفهم ماذا يعني تحقيق التراث ومدى مسئوليته, ومن هم أهله, وما هي أصوله والتزاماته, وما يترتب عليه, تعلمت منه أيامها أمرين مازلت أفتقدهما في أغلب ما يتصادف أن أقوم به من تقييم أبحاث على أعلى مستوى لأعلى المناصب الأكاديمية: الأمر الأول هو ضرورة الرجوع للأصل دون المقتطف حتى أطمئن إلى سياق المقتطف, وكان من ضمن ذلك أن نهانا أن يكون مصدر علمنا بديننا أساساً مبنيا على الرسائل المختصرة التي كانت تصدرها جماعة الإخوان المسلمين آنذاك, للشباب خاصة. والأمر الثاني: هو ضرورة الالتزام بالتأكد من حرفية النص وأمانة النقل قبل الحكم عليه أو النهل منه. وحين رحت أقرأ في (إمتاع الأسماع), كنت أتعجّب من دقة الهوامش وأمانة المقارنات, ومصداقية النقل من المصادر المتعددة للنص نفسه.

الاجتراء على النصوص

حضرني كل ذلك حين تجرأت للنظر في بعض مواقف النفّرى, المرة تلو المرة, وكانت النسخة التي اعتمدت عليها هي الطبعة التي صدرت باللغتين العربية والإنجليزية من مكتبة المتنبي, والتي قام بمقابلتها على سبع نسخ: (بعناية وتصحيح واهتمام!!), أرثر يوحنا أربري. وحين قررت أن أكتب قراءتي لبعض هذه المواقف استلهاما موازيا, أزعجني, أيّما إزعاج, أمران: الأول: هو ما أعرفه وما لا أعرفه عن حقيقة هذا النص, متى قاله صاحبه? وكيف انتقل شفاهة? ومن الذي دوّنه? ومتى دوّنه? وكيف انتقل حتى حدثت هذه الاختلافات في النسخ المختلفة? والثاني: هو ذاك التغيّر الهائل الذي يمكن أن يطرأ على نص موقف من مواقف النفّرى لمجرد تغيير التشكيل من فتحة إلى كسرة, أو بزيادة حرف جر, أو حتى بغياب نقطة يختلف معها المعنى (مثل تجاور, تجاوز, لاحظ الفرق!!) أو نقص حرف عطف. فكدت أعدل تماماً عن الاستمرار في المحاولة, لكنني عدت إليها بعد أن قررت, أو انتبهت, أن قراءتي لهذا النص هي (استلهام) وليست تفسيرا, وما دام الأمر كذلك, فإن أي إشارة يمكن أن تكون مصدر استلهامي على مسئوليتي, دون أن يمس هذا الاستلهام النص الأصلي, فجعلت المتن الأساسي, دون الطبعات في الهامش, هو مرجعي في قراءتي تلك.

في الآونة الأخيرة (وقبل الأخيرة) استسهل الباحثون التطاول على النصوص, اجتزاء واختصاراً وحذفاً وتحويراً, قام بعضهم بذلك من خلال التقريب والاستعجال والسطحية, كما فعلها البعض الآخر من خلال التحيّز بالانتقاء المغرض. كذلك تجرأ كثير من الناشرين, بشكل تلقائي أو وقائي, على حذف كلمات أو فقرات, وأحياناً حذف فصول بأكملها من نصوص قديمة, ثم حديثة, مرّة بحجة تجنّب خدش الحياء العام, وأخرى بحجة التحديث... إلخ. وإذا كانت المبررات للناشرين هنا وهناك هي مبررات مادية أو شبه أخلاقية, فإن مبررات تلاميذ صاحب النص أو مريديه أو حتى أبنائه من ظهره بدت أكثر حاجة إلى مناقشة ومراجعة.

حين يحذف, أو يحوّر, أحد تلاميذ مدرسة فكرية أفكار أستاذه باعتباره أدرى بما كان يعنيه أستاذه, أو حين يحذف ولد ما كتب والده باعتبار أنه أولى الناس بذلك, ينبغي أن نتوقف, وأن نحاسب.

أضرب لذلك مثلاً محدداً في حوار جاد جرى بين عقلين مجتهدين بمناسبة إعادة نشر كتاب مهم, هما صديقان بالمعنى الكريم لحوار العقل عن بُعد, الأول ناقد متابع موسوعيّ أكاديميّ لا يكف عن الاجتهاد وأمانة الشهادة وقرص الأذن أحياناً, والثاني ناقد ومسئول عن صفحة ثقافية في إحدى أهم الصحف العربية وأعرقها.

تحت عنوان (وأين المذهب الوجودي?) نبّه د. ماهر شفيق فريد إلى عدم أحقية أي شخص أن يحذف من عمل شخص آخر, أي كلمة, أو فقرة, أو صفحة, ناهيك عن فصل بأكمله, حتى لو كان هذا الشخص الحاذف هو (ابنه من صلبه), وقد ناقش د. فريد حجة خشبة الابن (سامي خشبة) باعتبار أنه حذف هذا الفصل لأن المذهب الوجودي (قد اندثر تماماً... إلخ), وقد أنهى مقاله (... بأنه كفانا كوارث الناشرين الذين يستبيحون لأنفسهم أن يعملوا أقلامهم في نصوص نجيب محفوظ, وإحسان عبدالقدوس بالحذف والتغيير حفاظاً على الأخلاق الحميدة... إلخ). وبين البداية والنهاية راح د. ماهر فريد يفنّد رأي الحاذف الابن, وهو يحاول أن يثبت له أن المذهب الوجودي لم يندثر بدليل كذا وكيت, وفلان وفلان, محلياً وعالمياً.. إلخ. ثم إنه قد ألمح قرب النهاية إلى أنه حتى لو كان قد اندثر فلا يحق لأحد أن يحذف أي مذهب من تواريخ الفلسفة.

أصالة البكارة

وصلتني الصرخة واضحة تقول (ليس لمخلوق أيّا كان, وتحت أي ذريعة أن يحذف ما ليس هو كاتبه), هذه الصرخة هي ما ينبغي الوقوف عندها حتى لو لم نتناول تفاصيل المحتوى.

من كثرة ما قرأت من تطوّر فكر بعض الروّاد, وصلت إلى قناعة تضيف إلى هذه الصيحة ما يلي: (... إن الحذف مرفوض أحياناً حتى من كاتب النص نفسه وهو على قيد الحياة, بمعنى أن أي رأي سمح صاحبه أن يرى النور ليقع في وعي متلقّ ما, هو رأي لم يعد ملك صاحبه, حتى لو نسخه هو شخصياً وتبرّأ منه في حياته, وأثبته ذلك في طبعات أحدث مهرها باسمه, فإن عليه أن يترك الرأي الأول كما هو, ليصبح العمل الثاني تطوّراً يرصد إيجاباً أو سلباً.

إن المراحل الأولى للفكرة البديعة تكون أحياناً أكثر أصالة وأعمق اختراقاً حتى لو كانت أقل صقلاً وأضعف سنداً, ثم تأتي الكتابة اللاحقة فتعيد النظر فيها, وقد تضيف إليها وتحسن تربيتها, لكنها (الكتابة اللاحقة) أحياناً ما تمحو أصالتها وتمسح جدتها (جدة الكتابة البكر الأولى). من هنا أقول إنه ليس من حق الكاتب نفسه أن يحرم التاريخ من فحص محاولاته الأولى. عليه أن يتركها كما هي بين يدي من (يهمه الأمر). هذا أمر يحتاج إلى أمثلة للتوضيح:

سيجموند فرويد كتب (المشروع) The project يفسر به السلوك البشري من خلال تصوّره لعمل خلايا المخ وتربيطاتها, كان ذلك حين كان فرويد شابّاً أكاديمياً يبحث في الباثولوجيا العصبية, ثم إنه بعد أن تحوّل إلى التحليل النفسي, تنكّر لهذا (المشروع) ورفض أن ينشره (على الكافة حتى نشر بعد موته, ثم بعد قرن من الزمان تبين - لي على الأقل - كيف سبق فرويد معظم ما توصّلت إليه العلوم العصبية الحديثة لتفسير السلوك البشري من منظور عصبي بيولوجي, يستعمل الآن لإثبات هذا الفرض أحدث المناهج وأعقد التكنولوجيا.

إن الرواد, ومنهم دريني خشبة, قد لا يعلمون ما هو الأهم وما هو المهم في إنجازاتهم, إنها مهمة النقاد والمؤرخين مادامت النصوص بين أيدينا تُقرأ, وتعاد قراءتها مع كل إضافة لاحقة, أو منهج أحدث. إن سيجموند فرويد حين تصوّر أن (تفسير الأحلام) هو أعظم إنجازاته لم يكن محقّاً, بل إن الرأي الغالب الآن, وهو ما أوافق عليه, أن هذا التفسير كان عملاً من أسخف شطحاته وأكثرها تعسّفا, خصوصاً إذا قيس بأعماله الأخرى التي لم يفرح بها فرويد كما تستحق (مثلاً: (ما بعد مبدأ اللذة), أو أفكاره عن (غريزة الموت)... إلخ).

مع الأسف, ومع كل احترامي لخشبة الابن, جاء رده على د. ماهر شفيق بعيداً عن أصل القضية, فقد حاول أن يثبت أن المذهب الوجودي لم يعد له وجود فعلاً, وهات يا أسماء اتهمها بأنها لم تتأثر بهذا المذهب أصلاً!! إن نفي التأثر بين عقلين بشريين يكاد يكون مستحيلاً لأن ذلك يتطلب أولاً: الإحاطة بكل ما كتب الأول وكل ما كتب الثاني, ثم ثانياً: تحديد مستوى التأثر والتأثير الذي ننفيه, ثم بعد ذلك يمكن النفي بصعوبة شديدة, أما إثبات تأثر عقل بآخر في جزئية محدودة, فهو أسهل وإن كان - غالباً - أكثر تجنّياً.

ثم ينتهي رد خشبة - مع الأسف مرة أخرى - بقوله: (... إننا بعد أن اندثر ذلك المناخ (المناخ الذي يوحي أن المذهب الوجودي مذهب مهم) واندثر قبله ومعه المذهب نفسه, فإننا يمكننا أن نحذفه من أشهر المذاهب المسرحية دون أن نخسر الكثير!!!

دفاع عن الأخلاق

إننا نخسر الكثير جداً بمثل ذلك, ونحن أعلم بما نخسر, قد يكون للابن أن يحذف ما شاء في كتاب يقوم هو بتأليفه بعد والده, لكن ليس من حق أحد حتى لو كان الكاتب أن يقترب من أمانة أودعها صاحبها دفتي كتاب له ثم رحل. إن جون ستيوارت مل ليس ملزما بما كتبه والده جيمس مل. إن مانفرد بلويلر الابن كتب كتاباً في الفصام حول الستينيات جاء مليئاً بالاختزالات والأرقام المهمة (وهي الطريقة التي شاعت في الستينيات وما بعدها). لكن الكتاب جاء خالياً من الأصالة والعمق, وهو رغم اختلافه عن أبيه, لم يقترب من كتاب أبيه الذي كتبه سنة 1911 من منطلق فينومينولوجي عن الفصام أيضاً, ومازال كتاب الأب هو المرجع الأعظم لفهم خلخلة وتفسّخ الواحدية في هذا المرض. وقد كان فضل بلويلر الأب في نفي صفة العته المبكر (الذي قال به كريبلين) عن الفصام فضلاً لا ينسى حيث ظل هذا النفي حتى الآن هو المبرر للحفاظ على الأمل في شفاء هذا المرض مهما استفحل, لم يحذف بلويلر الابن حرفاً مما قاله بلويلر الأب, وكان لكل منهما فضله الخاص بطريقته.

إن محمد عبد القدوس - على تقواه وورعه - هو الذي يقاضي ناشر أعمال أبيه لأنه تجرّأ وحذف ما حذف تحت زعم الحفاظ على أخلاق لم يحدد لنا تعريفه الخاص بها, وما أصعب الإشكال.

ليس من حقنا أن نحذف شيئاً مما قاله السلف, لكن من حقنا أن نعارضه, وأن نصارعه, وأن ننفيه, وأن نكذبه, بأسمائنا نحن, دون المساس بما ذهبوا إليه صواباً كان أم خطأ.

هذا من حيث المبدأ: التدخل بالحذف أو بالإضافة مرفوض شكلاً, وبالتالي, كما يعلمنا رجال القانون الأفاضل, لا يوجد مبرر للنظر في الموضوع, إلا أن النظر في الموضوع قد يزيد القضية وضوحاً, كما يزيد الرفض حدة, ذلك لأنه لو ثبت أن أسباب الحذف كانت ضعيفة أو خاطئة, إذن لزادت المسئولية, وتأكدت مشروعية الحذر والتنبيه, فعن الموضوع نقول:

إن المذهب الوجودي أشمل وأعمق من أن يحدّه ما كتب عنه, وما سوف يكتب عنه, هو مذهب يعاش أكثر مما ينظّر فيه وحوله. هو مذهب أرحب وأعم من كل الأسماء التي اقترنت به, من أول سارتر حتى عبدالرحمن بدوي. وهو مذهب قليل الحظ في أوطاننا خاصة, فقد شاع عند العامة أنه مرادف للإلحاد, كما شاع عند بعض الخاصة أن سارتر هو أهم روّاده. إنني أواجه عمق وجذور هذا المذهب في حوار مع مريض عقلي أميّ لا يعرف القراءة والكتابة نحاول معاً أن نتخلّق من خلال حوار المرض والعلاج, فنكتشف ما قال به هذا المذهب دون أن ندري (المريض وأنا), ثم إنني قد أقرأ لاحقاً ما وجدناه (مريضي وأنا), في الكتب, وقد لا أجده, فأقول لنفسي إنه سيُكتب يوماً. بل إنني واجهت قضايا هذا المذهب يوماً وأنا ألاعب فلاحاً عجوزا الدومينو ونحن نتكلم عن الموت, ونكتشف أن الوعي بالموت هو حافز الحياة, كما أن التهديد بالتفسّخ فالعدم, هو ضامّ نحو الواحدية ONENESS والتوجه إلى وجه الحق الواحد الأحد.

استمرار النماء

مَن الذي يستطيع أن ينفي أي وعي بشري من (حضور) مبادئ هذا المذهب في حركة نمائه? حتى اقتران هذا المذهب بمقولة شكسبير الشهيرة, على لسان هاملت (أكون أو لا أكون) هو استسهال يختزل جوهر هذا المذهب الذي يُلزم من يريد أن يعيش كما كرّمه الله, يلزمه أن: (يتخلق باستمرار) لتصبح القضية (أكون أو أصير), وليست مجرد (أكون أو لا أكون).

مرّة أخرى: ليست هذه هي القضية. القضية الأساسية هي أنه ليس من حق أي مخلوق كائنا من كان, ناشراً, أو ابنا, أو مريدا, أو مفسّرا, أن يحذف مما ترك لنا الراحلون حرفا تحت أي ذريعة.

حتى لو قيل إن النسخة الأولى محفوظة في دار الكتب للباحثين في التاريخ, فإن هذا ليس مبررا أن أقرن اسم مبدع راحل, بعمل ناقص, فيظهر في صورة لم يقرّها هو قبل رحيله.

 

يحيى الرخاوي