الكسوف المنتظر

الكسوف المنتظر

في الحادي عشر من أغسطس القادم سيشاهد كثير من العرب الشمس وهي تشرق وتغرب مرتين في يوم واحد!

لا شك في أن الخسوف والكسوف هما أكثر الأحداث الفلكية إثارة. وليس ذلك عائدا لندرتهما بالمقارنة مع الأحداث الأخرى فحسب، بل لطابعهما غير الاعتيادي.

لا يخفي على أحد اليوم ما كان يحل بالإنسان القديم عندما كان القمر البدر يحتجب ليلاً أو تختفي الشمس ويحل الظلام في وضح النهار، فماذا لو أن الشمس أو المقر اختفيا وغلى الأبد؟ لقد كانت مثل هذه الأحداث مصدر رعب وهلع. أما اليوم فقد تحولت هاتان الظاهرتان بفضل العلم إلى منظر طريف ينتظر الإنسان حدوثه لكي يتمتع بمشاهدته ويرصده بشكل دقيق. ونحن في الوطن العربي تنتظر كسوف الشمس الذي سيحصل في أغسطس 1999.

كانت حوادث الخسوف والكسوف باعتبارها تحدث انقطاعا في التسلسل الطبيعي للأمور توقع الرعب في نفس الإنسان القديم الذي كن يعتقد بوجود قوى خارقة تختطف الشمس لأن تصرفات الإنسان قد أغضبتها، أو أن حوتا قد ابتلع القمر، ولذلك كان الناس يتضرعون لتلك القوى الخارقة التي "احتفظت" الشمس أو يقرعون الطبول لكي يخيفوا الحوت الذي "ابتلع" القمر، وكتب التاريخ مليئة بالحوادث الطريفة التي تصف سلوك الناس أثناء الخسوف والكسوف. فمثلاً يروي هيرودوت (أبو التاريخ) أن كسوفا قد حصل خلال معركة كانت قامة بين اليونانيين والفرس في عام 10 ق.م. وعلى أثر ذلك حصل ارتباك بين الجنود فقرر القادة إيقاف القتال لاعتقادهم بحلول غضب الآلهة عليهم. هذا مثال عن فوائد حميدة للخسوفات والكسوفات للإنسان. ولكن هنك أمثلة أخرى عن استعمال مدروس لمثل تلك الحوادث. ففي آخر فبراير من عام 1504 كان كريستوف كولومبس قرب جزر جامايكا (في البحر الكاريبي) يعاني من مصاعب كبيرة بعد أن تعرضت سفنه لعاصفة عاتية أنهكت جنوده وأفقدتهم مؤنهم. فقرر أن يطلب المساعدة من السكان المحليين. إلا أن رؤساء القبائل رفضوا تقديم أي معونة لذا لجأ كولومبس إلى الحيلة مستفيدا من المعلومات الفلكية التي كانت تتنبأ بحدوث خسوف للقمر في اليوم التالي، فقام بتهديد الهنود الحمر بأنهم إذا لم يمدون بالمؤن فإن الآلهة ستغضب منهم، وإثباتا لذلك سيختفي القمر في بركة من الدم. غلا أن التهديد لم يجد نفعاً، ولكن مع حلول مساء اليوم التالي، طلع القمر البدر وبعد قليل أخذ يتلون بلون أحمر دموي، حتى تغطى كليا باللون الأحمر، ذعر الهنود الحمر إثر انخساف القمر فما كان منهم إلا أن قدموا لكولومبس كل ما طلبه منهم.

وإذا كان كولومبس قد استطاع تحديد اليوم الذي سيحصل فيه الخسوف فلأنه استند إلى معلومات فلكية مصدرها البلاد العربية، فلقد برع أجدادنا منذ القدم في علم الفلك كما نعلم، فميزوا بين الخسوف الذي هو اختفاء القمر أو بعضه أثناء مرور الأرض بينه وبين الشمس، وبين الكسوف الذي يحصل عندما يمر القمر بين الشمس والأرض. وقد استطاعوا من خلال المراقبة المستمرة للأجرام السماوية التنبؤ بتواريخ الكسوفات والخسوفات. فقد اكتشف سكان بلاد الرافدين أن هذه الأحداث تتكرر بشكل دوري كل 18 سنة تقريبا. سميت هذه الدورة. ساروس وعليها أعتمد كولومبس للتنبؤ بالخسوف.

أما الآن فيمكن تحديد الوقت الذي سيبدأ فيه الخسوف وكم سيستغرق ومتى سينتهي، وبدقة أعشار الثانية. ومع ذلك فإن أحدا لا يمكن أن يعلم كيف سيبدو القمر خلال الخسوف. فنحن نتوقع بشكل فطري أن يكون القمر غير مرئي أثناء الخسوف الكلي، مادام سيحتجب خلف الأرض! ولكن الذي يحصل هو أن القمر يبقى مرئيا بل ومتلونا: أحياناً باللون الأحمر وأحياناً بالبرتقالي، فلماذا؟ لفهم ذلك يجب أن نرتحل للحظات إلى القمر لنشاهد من هناك ما الذي يحدث.

سنشاهد من على سطح قمرنا كسوفا للشمس، إذ تكون الأرض في مرتفع تحول فيه بين القمر وضوء الشمس. لذلك سيظهر كوكبنا كقرص أسود محاط بهالة مضاءة بلون برتقالي على الأغلب، هذه الهالة هي الغلاف الجوي الأرضي الذي تضيئه الشمس. عندما ينعكس ضوء هذه الهالة على القمر سيتلون سطحه بألوان مختلفة وفق حالة الغلاف الجوي الأرضي وما يوجد فيه من غيوم وأغبرة وغير ذلك. وبدوره يعكس القمر هذا الضوء إلينا فنراه بألوان مختلفة. أي أن تلون القمر تابع لحالة الغلاف الجوي الأرضي. لذلك يصعب التنبؤ بمظهره أثناء الخسوف.

لقد رأينا الخسوف من على سطح الأرض وانتقلنا إلى القمر، سنفترض هذا العرض الفلكي الجميل. وبذلك يصبح مرئيا لنا، وكذلك الأمر بالنسبة للأرض، التي تستقبل نور الشمس فيصبح نصفها المقابل للشمس مضاء، ويبقى النصف الآخر مظلما. ولكن ليس هذا كل شيء، إذ يتولد خلف الأرض مخروط طويل من الظل، يصبح أي شيء يدخله غير مرئي لاحتجاب نور الشمس عنه، ولذلك فإن القمر عندما يدخل، كله أو جزء منه، في هذا المخروط فإنه يفقد كل ضوء الشمس الذي يصله أو بعضا منه، ونقول إنه قد انخسف كليا أو جزئيا.

ويمكن لنا أن نرى بسهولة من مركبتنا، أن الخسوف يحصل عندما يكون القمر والأرض والشمس على استقامة واحدة، وهذا ما يحصل في كل شهر مرتين: مرة عندما يكون القمر في المحاق (أول الشهر القمري)، ومرة عندما يكون بدرا (في منتصف الشهر). إذن لماذا لا يحصل الخسوف في كل شهر؟ يشير الفلكيون هنا إلى أن القمر لا يدور حول الأرض في نفس المستوى الذي تدور فيه الأرض حول الشمس، ولكن في مستوى يميل عنه بزاوية تقدر بحوالي 5 درجات، وعليه فإن القمر لا يوجد في مستوى مدار الأرض إلا مرتين في السنة. ومع ذلك فإنه عندما يوجد في هذا المستوى قد يكون الشرط الآخر للخسوف (أن يكون القمر بدراً) غير محقق، أي يكون القمر تارة فوق مخروط الظل وتارة تحته. وبالتالي فإن شرط تحقق الخسوف (الاستقامة التامة للأجرام السماوية الثلاثة) غير محقق. لذلك لا يمكن أن يحصل الخسوف في كل شهر.

جدول توقيت حصول الكسوف في بعض المدن العربية

المدينة

بداية الكسوف

الكسوف الأعظمي

نهاية الكسوف

نسبة الكسوف

مكة المكرمة

10:48:10

12:07:59

13:17:48

60%

الكويت

10:44:32

12:05:18

13:16:25

90%

دمشق

10:14:18

11:41:25

12:59:34

85%

صنعاء

11:11:51

12:23:31

13:26:21

50%

القاهرة

10:10:08

11:37:58

12:57:02

63%

طرابلس الغرب

9:25:56

10:50:50

12:15:29

48%

تونس

9:15:41

10:40:20

12:06:42

60%

الجزائر

9:03:16

10:23:33

11:48:45

55%

الرباط

8:48:53

10:01:23

11:20:23

43%

الخرطوم

10:56:48

12:05:11

13:06:41

22%

التوقيت حسب جرينتش

ترتيب هندسي فريد

لو تحقق شرط حصول الخسوفات شهريا، لتحقق معه شرط حصول كسوفات شمسية في كل شهر (عندما يكون القمر في المحاق). لكن الخسوف والكسوف كما نعلم حادثان نادران، ومع ذلك فمعظمنا قد شاهد في حياته عدة خسوفات على الأقل، إلا أن الأشخاص الذين شاهدوا كسوفاً شمسياً كليا أو أكثر، قليلون جداً. وليس ذلك عائدا لقلة عدد الكسوفات، بل على العكس فعددها، والحق يقال، أكبر من عدد الخسوفات وهو متباين بين عام وآخر. فإن حصل في أحد الأعوام مثلاً 7 أحداث خسوف وكسوف، فإنها تتوزع كما يلي: 4 كسوفات و 3 خسوفات. وعندما لا يكون هناك سوى حدثين في العام الواحد يكون كلاهما كسوفا شمسيا.

ولكن بينما يكون الخسوف مرئيا في كامل نصف الكرة الأرضية التي يكون القمر فوق أفقها، نجد ان كسوف الشمس الكلي يكون مرئيا فقط في حزمة ضيقة (هي ما يعرف بحزمة الكسوف الكلي) عرضها حوالي 260 كم ويقارب طولها عدة آلاف الكيلومترات، وهذا يعني مساحة لا تتجاوز 0.005 من سطح الأرض. فإذا علمنا أن 3/ 4 كوكبنا مغطى بالمحيطات، فإن حظوظ وصول بقعة الكسوف الكلي إلى أرض مأهولة هي ضئيلة جداً. ولذلك فإن العديد من الناس يعانون أسفارا طويلة لمشاهدة كسوف كلي قد يستغرق دقيقة أو اكثر بقليل.

وهنا لابد من الإشارة إلى ترتيب هندسي فريد جعل قرص القمر وهو الصغير حجماً، يغطي قرص الشمس. ففي حين أن قطر الشمس أكبر من قطر القمر بـ 400 مرة، نجد أن الشمس أبعد عن الأرض من القمر بـ 400 مرة، وهذا ما يجعلهما يظهران بنفس الحجم، لذلك يمكن للقمر أن يحجب نور الشمس الساطعة كلياً عندما يمر بينها وبين الأرض فلا يظهر منها إلا طبقة وردية اللون هي التاج الشمسي الذي لا يرى في غير هذه الفترة. حينها يكتمل سحر المنظر فتغدو السماء أثناء الكسوف الكلي سوداء وتظهر الكواكب والنجوم اللماعة في وضح النهار.

ويجب ألا يشغلنا جمال منظر الكسوف عن خطر الأشعة الشمسية على أعيننا. إذ إن النظر إلى الشمس أثناء الكسوف (وطبعا خارج فترة الكسوف) يتسبب بأضرار بليغة للعين. فقد تتسبب ثوان قليلة من التعرض لضوء الشمس بحروق في العين غير قابلة للشفاء دون أن نشعر بذلك وذلك لأن شبكية العين لا تحوي أي مستقبل للألم. وبما أن الكسوف يدوم حوالي الساعتين، فإن متابعة النظر إلى الشمس فترة طويلة من الزمن (حتى لو كانت مكسوفة بنسبة 99%) يعرض العين لثلاثة أنواع، من الأشعة: المرئية وتحت الحمراء وفوق البنفسجية، ويؤدي ذلك إلى العمى، وإذا تعرضت أعيننا لأي منها بشكل مباشر كان الخطر عليها كبيرا. وهنا يجب الانتباه بشكل خاص للأطفال الذين لا يُقدرن مدى الخطر لأن شبكيات أعينهم تكون حساسة أكثر.

لذا وكي نرفع رءوسنا إلى السماء ونحن مطمئنون لابد من حماية أعيننا باستعمال المرشحات Filters التي يمكن أن تضمن لنا رصداً آمنا. أشهر هذه المرشحات وأرخصها: طبقة رقيقة من الألمنيوم تعرف بالميلار Mylar. يعكس هذا المرشح معظم الأشعة الشمسية ولا ينفذ من خلاله إلا 0.003 وهذه الكمية ضئيلة ولا تؤذي العين. وهناك من يستخدم زجاج حماية العين الأسود الذي يستعمله عمال اللحام بالقوس الكهربائي. ويستخدم البعض أيضا عدة طبقات من أفلام التصوير الأبيض والأسود، ولكن لا يوصى بالاستخدام الطويل لهاتين الوسيلتين لأنهما تصبحان غير آمنتين.

ماذا عن الكسوف القادم؟

سيكون كسوف 11 أغسطس 1999 مرئيا في جميع أنحاء الوطن العربي، لكنه لن يكون كليا إلا في أقصى الشمال الشرقي منه. ففي الشمال الشرقي من سوريا سيبدأ هذا العرض الفلكي بعيد ظهر ذلك اليوم بمرحلة الكسوف الجزئي الذي يستمر حوالي ساعة ومن ثم تغرب الشمس وتختفي كلياً ويحل الظلام التام طيلة دقيقتين. وهي مدة قصيرة إذا ما قورنت بأطول كسوف حصل في هذا القرن (عام 1973) واستمر زهاء 7 دقائق، لكنها ستتيح لنا فرصة رائعة، قل أن تتكرر، لرؤية أشياء قد لا نراها ثانية في حياتنا. إذ يمكن خلالها أن نشاهد الانفجارات التي تحدث على سطح الشمس، وسيكون بالإمكان رؤية الكواكب الخمسة التي ترى بالعين المجردة، عطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل حيث أنها ستكون كلها فوق الأفق. كما ستتيح فترة هذا الظلام العرضي رصد النجوم اللماعة التي نراها عادة في الشتاء. وبعد ذلك تعود الشمس وتشرق ثانية في ذلك اليوم عن نهار صيفي وسرعان ما يحل النور مجدداً.

لكن المشهد لم ينته بعد فهناك قرابة الساعة أيضا من الخسوف الجزئي يمكن أن نتابع خلالها كيف تعود الشمس ثانية للظهور وكيف سيطوي الظلام أمتعته ليرحل سريعا، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه، لذلك لا بد أن نسجل ذكريات هذا الحدث الفريد بأي وسيلة كانت: رصد، تصوير، فيديو، فمن يدري من سيستطيع منا أن يرى كسوفا آخر في حياته؟ لذا يجب ألا نفوّت هذه الفرصة، وحري بنا أن نستعد لهذا الحدث منذ الآن.

 

عبدالقادر حمدو

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشمس كما تدور أثناء الكسوف يمكن رؤية الانفجارات الشمسية بسهولة





الكسوف الشمسي كما يرى من الفضاء





يوضح الشكل ميل مستوى مدار القمر على مستوى مدار الأرض وشروط الخسوف والكسوف





سيكون كسوف أغسطس 1999 مرئيا في كل الوطن العربي.. بدرجات مختلفة