القضية الفلسطينية على الشاشة
القضية الفلسطينية على الشاشة
ماذا فعل التاريخ بنا.. وماذ فعلنا بأنفسنا ؟ محمد بكري هو أهم ممثل فلسطيني ظهر خلال السنوات العشرين الماضية.. وهو أكثر الممثلين العرب ارتباطا بالموضوعات السياسية لأنه يجسد وضعية الفلسطيني في ظل الكيان الصهيوني. لا يقنع محمد بكري بمجرد الظهور في الأفلام التي يخرجها الفلسطينيون داخل وخارج الأرض المحتلة.. إنما يتعامل أيضاً مع المخرجين الإسرائيليين ويحقق بعض العالمية عندما يتم اختياره من قبل المخرج الشهير " كوستا جافراس " ليلعب دور الفلسطيني في الفيلم الفرنسي الأمريكي "هانا.ك" وأخيراً يفاجئنا بفيلمه الأول كمخرج وهو الفيلم الوثائقي "1948" الذي يقدمه- كما يقول- ردا على الدعاية والأكاذيب الصهيونية بمناسبة مرور 50 سنة على قيام إسرائيل! ورغم أن محمد بكري يعتنق الفكر اليساري وينتمي إلى هذه الفئة القليلة من الفنانين الذين لم تكتف أعمالهم بأن تكون في عزلة عن التيارات السياسية والتطورات الاجتماعية السائدة، فإن الواقع يؤكد أن ثمة أفكارا تمسك بتلابيب كل أفلامه ونستطيع أن نتبينها بوضوح لو حاولنا تتبع بعض ملامح سيرته الذاتية. لقد كان محمد بكري هو أول عربي يدرس المسرح في إسرائيل.. ويحصل على تشجيع أساتذته.. ويقوم بأداء أدوار كثيرة في مسرحيات اليسار الإسرائيلي حيث كان يمثل فلسطينيون مع إسرائيل في عروض تقدم دائما باللغة العبرية.. وكانت له صديقة يهودية تعمل هي الأخرى بالتمثيل، ولكن لأن والديها ووالديه كانوا ضد هذه العلاقة تزوج بكري من فتاة فلسطينية.. ومع ذلك فهو يرى أن ما يحدث في إسرائيل يتم بذكاء شديد.. يد تضرب والأخرى تربت عليك وذلك حسب الأحوال.. من أنت وأين تكون.. ما يمكن قوله في تل أبيب لا أستطيع أن أقوله في قريتي.. ففي تل أبيب يسود اللعب بالديمقراطية فهي واجهة إسرائيل للدعاية أمام العالم.. بينما قريتي في الخليل تحكم بالأوامر العسكرية. والواقع أن هذه الصورة لا تخلو من التناقض والاضطراب لأنها تريد أن تكون تعبيراً عن واقع سياسي واجتماعي لا دخل للمواطن الفلسطيني فيه. إنه يحاول أن يرفضه ولكن دون أن يملك القدرة على تغييره أو التمرد عليه أو البعد عنه وهنا تكمن مشكلة محمد بكري وموضوعات أفلامه! تأثير جافراس ينتقل محمد بكري من المسرح العبري إلى السينما بعد اختيار كوستا جافراس له ليلعب دور سليم بكري في فيلم "هانا.ك" 1983 وهو فيلم يكتشف في عام 1992 أنه من إنتاج سيدة عربية تدعى " عبير دجاني طوقان" استطاعت الحصول على دعم مادي من مصادر تمويل خاصة من بعض الشخصيات العربية ومن شركتي يونيفرسال الأمريكية وجومون الفرنسية وما يهمنا التركيز عليه في هذه السطور هو الإشارة إلى كيفية إقناع عبير للمخرج كوستا جافراس لكي يخرج فيلما عن القضية الفلسطينية.. أنها تقول بالحرف الواحد: بدأ فيلم "هانا.ك" بـ"لا" كبيرة.. استقبلني كوستا وزوجته بكل حرارة ولطف ولكنه قال إنه لا يؤمن بقضية الشعب الفلسطيني وبالتالي لا يستطيع ترويج فكرة ليس مقتنعا بها.. ولكن مع مرور الوقت وبعد إلحاح ومثابرة أستطعت إقناعه. وحسب تبعير كوستا.. كنت أخرج من الباب لادخل من النافذة إلى أن قال: " حسنا لنرض عبير هذه ونعط الفيلم فرصة". وهنا يصبح التساؤل هو.. هل استطاعت السيدة العربية أن تغير منظور كوستا جافراس تجاه قضية الشعب الفلسطيني.. أم أن الرجل اختار طريق التوازن بين قناعاته وما تؤمن به السيد العربية.. أم كان هناك طريق ثالث؟ الأمر الذي لم تكن تعيه السيدة العربية هو أنها أعجبت بأفلام كوستا جافراس دون أن تعي أعماقها فهو كما ذكر كاتب هذه السطور عقب عرض فيلم "هانا.ك" في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1983. "خرج من أفلامه على الكثير من التقاليد المألوفة في مجال ما عرف بالفيلم السياسي وأصبح موضع جدل عنيف من اليسار واليمين والوسط معا فهو يقف مع اليسار في "زد" ومع اليمين والصهيونية في "الاعتراف" ويؤيد الولايات المتحدة والمخابرات المركزية في "حالة حصار" ثم يعود ليناهض الولايات المتحدة ودورها في شيلي في "مفقود" إنه في نهاية الأمر شيوعي في يوم من الأيام، ومناهض للشيوعية في يوم آخر". فهل نحن أمام مهرج متناقض مع نفسه؟ لا بطبيعة الحال.. فليس هناك من هو أكثر انسجاما وتكاملا في الفكر من كوستا جافراس.. السبب فيما يبدو تناقضا هو أننا لم نحاول أن نستكشف لب أفلامه واكتفينا دائما بقشورها الخارجية، إن المضمون الحقيقي الذي يختفي في أعماق الصورة والذي يجب ألا يغب عن بال أحد هو أن كل أفلام جافراس تعكس ملامح بطل لم يقتصره تمرده على علاقاته بالاتجاهات والأحداث الإيديولوجية.. بل امتد فيها حتى شمل الكثير من التقاليد الفكرية المألوفة في المجتمع العالمي.. هذا البطل هو الشخصية اليهودية داخل أفلامه بداية من شخصية المحامي إيمانويل في فيلم "زد" وحتى الشخصيات اليهودية في أفلامه الأخيرة مثل "صندوق الموسيقى" و"خيانة" وغيرهما. إن جافراس لا يرضى في كل أفلامه بغير مقياس البطولة للشخصية اليهودية بديلا.. حتى ولو لم يكن لهذه الشخصية سوى دور ثانوي داخل الأحداث.. وهو على هذا الأساس نجح في الالتفاف حول المنتجة العربية البريئة ونجح في أن يقدم في فيلمه "هانا.ك" شخصية امراة يهودية تؤمن بأن التعايش بين الإسرائيليين والأقلية العربية يجب أن يكون أساسه المحافظة على ما تمتلكه هذه الأقلية داخل إسرائيل وليس من خلال دولة مستقلة لهم وأن يبتعدوا عن الإرهاب لأن إسرائيل ستحتضن العربي الطيب، وستواجه بكل حزم العربي الإرهابي وبذلك نجح جافراس- أيضا- في أن يلقي بظلاله على الأفلام الإسرائيلية التي شارك في بطولتها فيما بعد محمد بكري والتي تحاول التأكيد على حرية العرب في البقاء ولكن داخل حدود دولة إسرائيل.. وتدعو الإسرائيليين إلى أن يكونوا أكثر مرونة في معاملة الأقلية العربية "الإسرائيليين العرب".. ومن هنا يصبح الفلسطيني هو صورة كربونية من الهندي الأحمر ولكن مع اختلاف الزي ربما الملامح. لقد قدم جافراس الدرس للجميع.. المخرجين الإسرائيليين في أفلامهم التي حاولت ادعاء الديمقراطية والليبرالية في مواجهة العالم خاصة بعد غزو لبنان وبدء الانتفاضة.. وظهر في أغلبها محمد بكري وهو يلعب نفس الدور، دور الفلسطيني المؤمن بالعنف في أفلام مثل "رفاق السفر" 1984 إخراج يهود نيمان، "وراء القضبان 1984" إخراج أوري بارباش، "الكأس النهائي" 1991 إخراج فيران ريكليس. وأيضاً كان تأثير جافراس على أفلام المخرجين الفلسطينين المقيمين في إسرائيل أمثال على ناصر وفيلمه " درب التبانات" بطولة محمد بكري وهو من الأفلام المنتجة بدعم من الحكومة الإسرائيلية وتعكس إلى حد بعيد رؤيتها.. كما ظهر محمد بكري في أفلام ميشيل خليفي ورشيد مشهراوي المنتجة بالاشتراك مع جهات غربية.. مما أثر على مضمونها المطروح وحولها على حد تعبير السينمائي الفلسطيني الكبير " غالب شعث" إلى شيء أقرب إلى السينما في شمال إفريقيا.. تلك التي تبدو مضامينها استشراقية بعض الشيء. بين بكري ومتشائل حبيبي ويدخل محمد بكري عالم الإخراج بفيلمه الوثائقي "1948 " وفيه يحاول أن ينبش في الماضي الفلسطيني منذ عام 1948 ليتعرف على ما جرى وما يجري ويحاول أن يرسم- كما يقول- "صورة الفلسطيني وهو يقاوم مصادرة الروح.. بالتذكر حينا وبالسؤال حينا آخر عما فعل التاريخ والآخرون بنا وفعلنا نحن بأنفسنا معتمداً في ذلك على المزج بين لقاءات مع شخصيات فلسطينية وإسرائيلية داخل الأرض المحتلة وبعض مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.. ومشاهد تسجيلية لأحداث كان لها أهميتها خلال الخمسين عاما الماضية.. يربطهما جميعاً بتعليقات تجمع بين السخرية والمراة الصادرة من الشاب الفلسطيني المقيم في إسرائيل. " سعيد أبو الدحس المتشائل " كما يجسده محمد بكري نفسه في مونودراما " المتشائل " المأخوذة عن رواية الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي "1921- 1996" الذي يهديه محمد بكري فيلمه ليربط نفسه بأحد رموز التطبيع الثقافي مع إسرائيل.. وهو أمر طبيعي سنكتشف مغزاه من مواقف بكري في فيلمه من أحداث جوهرية في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي: مثل المذابح الإسرائيلية وفي مقدمتها مذبحة دير ياسين 1948، والفلسطيني وحق العودة، والتخاذل العربي في مواجهة الصراع وأخيرا يقدم لنا صورة متباينة الظلال لشخصية الصهيوني. وثائق في مواجهة الأكاذيب تصيب محمد بكري في فيلمه صحوة من الحماسة والقوة من أجل البحث والتنقيب واستحضار شهود الإثبات والنفي لكي يصل بنا في النهاية إلى أن "مذبحة دير ياسين" كانت مجرد حدث عابر حاولت الزعامات العربية استغلاله لأهداف دعائية وحاول الإنجليز الترويج له من أجل بث الرعب في نفوس العرب ودفعهم إلى مغادرة البلاد.. أما اليهود فلم يكن في نيتهم القيام بأي مذبحة.. إنما احتلال قرية دير ياسين كما احتلوا قرى أخرى من قبل. يقدم بكري شهادات مسيحية ومسلمة ويهودية لتأكيد رؤيته متجاهلا الوثائق التي نشرت عن هذه المذبحة.. وبأن هذه المذبحة كانت مجرد بداية تبعتها مذابح مثل قبية وغزة والرملة ونحالين وكفر قاسم والفكهاني والجنوب اللبناني وصبرا وشاتيلا.. وكلها تمت لتحقيق هدف واحد هو إبادة الشعب الفلسطيني وتصفيته أو بالقتل أو التهجير لمن لم تطلهم المذبحة عن طريق بث الرعب في نفوسهم ودفعهم إلى مغادرة البلاد.. كما حدث في مذابح "دير ياسين" 1948 و " كفر قاسم" 1956. يبدأ محمد بكري التعامل مع موضوع "مذبحة ياسين" بلقطات مبكرة لفلسطينية عجوز تقف وخلفها العلم الإسرائيلي وفوق ذراعها حفيدها الصغير. ولا نراها طوال الفيلم إلا وهي تبكي مرددة أهازيج حزينة حول مصير أسرتها وكيف ان "30 واحداً راح من أهلها في دير ياسين" تشكل كلمات المرأة الصورة الشائعة عما حدث في دير ياسين. وينبغي علينا كما يريد محمد بكري أن نرى ونسمع شهود النفي في مقدمتهم فلسطينية مسيحية تخبرنا أن الإنجليز صنعوا دعايات حول أن اليهود دخلوا دير ياسين واغتصبوا بنات وذبحوا وقتلوا.. وتعلق على ذلك بقولها: إن اليهود مش ناقصهم بنات" وكلها دعايات من أجل تطفيش العرب في ظل تقاليدهم عن العرض والشرف وأهمية الهروب ببناتهم. وينتقل بكري إلى شاهد آخر في هذه المرة هو ضابط يهودي متقاعد يخبرنا أن القيادة اليهودية أرادت بناء مطار قريب من القدس.. وتقرر أن المكان المناسب هو قرية دير ياسين.. كان المخطط أن تكون عملية احتلال القرية كما تم احتلال قرى أخرى قبل ذلك وليس تنفيذ أي مذابح، ويؤكد الرجل بخبرته الطويلة أن هناك ثلاثة أجهزة رسمية قد استفادت من موضوع دير ياسين.. الجهاز الرسمي البريطاني والجهاز الرسمي اليهودي وأخيرا الجهاز العربي الرسمي الذي هرب من فلسطين في البداية تاركا وراءه الفلاحين وحدهم وأن الإنسان الوحيد الذي ظل يدافع عن الفلسطينيين كان هو عبدالقادرالحسيني الذي قتل في معركة القسطل وبعد موته لم يبق أي قائد عربي لأنهم هربوا جميعا. وتأتي الشهاد الثالثة ليتجلى فيها القول الفصل فهي لعجوز فلسطيني مسلم عايش الأحداث ويبدو منفعلا حزيناً لأننا صدقنا ما يقال عن مذبحة دير ياسين.. ويبدو من كلامه أن العرب هو الذين ارتكبوا مذبحة ضد اليهود وليس العكس.. فهو يقول.. "اليهود طلبوا نجده لأن القتال كان عنيفا والذخيرة جفت معهم والله يا محمد (أي محمد بكري) ماطير طائر خش في دير ياسين سوى ولاد دير ياسين.. اليهود طلبوا قوات من القسطل عشان تقاتل ولكن ما أجا نفر وزعموا إن اتقتل 250 على أساس أن القتلى من المجاهدين والمناضلين.. وأنا باكذب أتخن قائد إسرائيلي واتخن قائد عربي كل اللي اتقتلوا في المعركة 93 بالدفتر عندي أكثر من كده لا " وهنا يرفع كف يده لينبثق من خلاله مستند رسمي يسجل أسماء القتلى وعائلاتهم بالأرقام.. ولن نجد بطبيعة الحال من بين العائلات التي كان لها ضحايا في هذه المعركة من فقد أكثر من ثلاثة أو أربعة أفراد وليس ثلاثين كما تدعي العجوز الكاذبة. حق العودة لمن ؟ ولا جدال أنه من الخطأ أن نطالب الفنان الفلسطيني الذي يعيش في الاراضي المحتلة بأن يكون معبراً عن أراء أي مواطن عربي يعيش بعيداً عن معاناته وآلامه ولكن محمد بكري يطلب منا مطلباً آخر وهو أن تكون على قناعة بأن الفلسطيني الذي يعيش في الأراضي المحتلة غير الفلسطيني الذي يعيش خارج هذه الارض. هما على طرفي نقيض في الحياة الفلسطينية: أولهما في برجه العاجي يحلم بمثالياته المنفصلة عن واقع الحياة.. وثانيهما يكافح في تيار الحياة بلا أحلام وبلا رحمة في إطار تسلط صارم وتيارات متلاطمة ثابتة من الداخل والخارج.. وبطبيعة الحال لا يمكن أن نرفض هذا المنظور رغم تحفظنا عليه.. ولكن ما يقلقنا حقيقة هو الهدف البعيد من ورائه. إن محمد بكري يكرر نفس منظوره للمرأة العجوز الكاذبة عندما يقدم لقطات لمجموعة من الصبية وهي ترفع الشعارات في أيديها وفي حناجرها : يوم النكبة والصمود حق العودة ما بيموت وحدة وحدة ياجماهير ففي أعقاب هذه الهتافات ينتقل بنا بكري إلى شخصية مثقفة وشاعر فلسطيني اسمه طه محمد علي من صفورية.. الرجل يتحدث بطلاقة عن الاستعلاء الصهيوني ويتذكر بأحسيس شاعرية صورة الوطن كما كان يراه في خياله " مزيج من مشاعر اقارب.. ناس. حيوانات.. بيوت.. أنهار.. حكايات.. ولكن حين أفكر في تصوير الصورة التي تحتل خيالي.. أجدها صورة تكاد تكون وهمية غامضة". ونتابع هذا الرجل في عدة مشاهد مليئه بالذكريات والآراء السياسية الرنانة الساخرة من هذا العالم الذي يتحدثون فيه عن الشرعية الدولية والأمم المتحدة وحقوق الإنسان ومجلس الأمن.. وفجأة عندما يسأله محمد بكري بوضوح: أنت حقك كيف تطوله.. كيف ترجع إلى صفورية ؟ تأتيه الإجابة التي ينتظرها " أنا مش عايز أرجع.. أنا بالنسبة لي صفورية رمز معين إذا أردت أن تعيدني إلى صفورية أعطني بيتي وأعطني جيرتي". وتبقى المشكلة هي كيف يتحقق للرجل أزدواجية البيت والجيران.. الواقع والأحلام !! ومع ذلك هناك نماذج يقدمها الفيلم وجدت بيتها كما تركته عام 1948 ومن هؤلاء المسئول الفلسطيني ياسر عبدربه الذي يقده الفليم بعد أن عاد في عام 1994 إلى وطنه وذهب لرؤيه البتي الذي ولد فيه في " يافا " فوجده كما هو " حتى البلاط مازال يلمع وألوانه لم تتآكل وكأنها صبغت بالأمس " " وحتى الأشجار التي زرعها جده وأبوه لم تتدخل يد لتقليمها أو الحفاظ عليها.. ولكن ظلت تروى من ماء البئر والبركة بشكل طبيعي.. كما تظهر الأديبة الفلسطينية لينا بدر لتحدثنا حديثاً طويلاً عن أن البيت بوجود أهله وبوجود الناس اللي فيه.. يعني البيت ليس جدراناً او مسكناً بارداً. ونكتشف أن حديثها عن بيت جدتها الذي صادرته السلطة الإسرائيلية لصالح " الجامعة". إن من يرى ويسمع هذه الاشياء ستراوده اسئلة كثيرة حول الفلسطيني الذي يعيش خارج فلسطين.. وحول حقيقة اساليب السلطات الإسرائيلية الفاضحة في مصادرة الأراضي وإفراغها من سكانها الأصليين وتهديم المساكن وإغلاق آبار المياه.. الخ.. يبدو أن محمد بكري يحاول اقناعنا بأن هناك لبساً وسوء فهم علينا ان نتداركه بمناسبة العيد الذهبي لقيام إسرائيل. التخاذل العربي والتنوع ويسهب محمد بكري في إدانة الموقف العربي من الشعب الفلسطيني ويعدد سلبياته التي لا تنتهي.. بداية من عدم إشراك الرجعية العربية للشعب الفلسطيني في العمل السياسي.. ثم أخذها بزمام القضية من يد أهلها بعد اضطرابات عام 1936 ومحاولة الحكام العرب مساومة بريطانيا وفرنسا لمصلحتهم الذاتية وبيعهم مصلحة فلسطين وعدم الاهتمام بالدفاع عنها أو بدعمها بأي شيء.. وكلها أمور يلخصها محمد بكري من خلال شخصية سعيد المتشائل عندما يقول : "50 سنة مش قادر أتنفس زي إللي بيغرق. بيحلم أنه بيرقد ومش قادر يرقد.. يا ما كنت أصرخ في الناس إللي حواليه وأقول يا ناس يا عالم أنا منكم. عاونوني. ساعدوني ما كان يطلع من بقهم غير نونوة بسة ( قطة ) ". والواقع أن هذا التعميم ليس بطبيعة الحال هو كل ما يلزمنا لمحاولة الوصول إلى رؤية مقبولة لطبيعة ما حدث ويحدث سواء في فلسطين أو العالم العربي الذي يجب ألا ننكر أنه كان يعيش في ظل بدايات المأساة الفلسطينية خاضعا لنفوذ بريطانيا وبعض الدول الأجنبية الأخرى.. وكلما كانت الأنظمة فاسدة أمكن استغلالها.. هذا شيء لا يمكن إنكارة ولكن أيضاً من الظلم تعميمه لكي يحاصر به كل العرب خلال نصف قرن من الزمان. وإنه لمن أغرب المفارقات أن " محمد بكري " بينما لم يجد في الشخصية العربية ما يمكن الإشارة إليه بالطيب.. فإنه يخلق حالة من التوازن العجيب في تقديم الشخصيات الصهيونية ويركز على شخصية مقاتل إسرائيلي عجوز يتعاطف مع العرب ونراه يعلم اطفالهم الموسيقى ويشاركهم في نشيد يقول " السلام جينا السلامو عليكو". وتسرى فكرة التوازن المقصود بين سطور حوار طويل يدور بين بكري وهذا العجوز الذي يصف نفسه: بأنه كان صهيونيا ولكن ليس صهيونيا من صهاينة اليوم طبعاً وليس صهاينة الماضي أنا آمنت أننا لن نقوم بإضرار العرب في هذه البلاد ما قبل الحرب بل على العكس تماماً آمنت أننا سنجلب التقدم ونطور ونساعد وأنا أعترف أني حتى قبل الحرب وجدت أن في الصهيونية ظاهرة أو هذا مغروس في طبعها". ويستمر الرجل في حواره معبراً عن شعور عميق الذنب تجاه ما حدث للعرب.. وليؤكد أن هؤلاء الصهاينة لم يكونوا جميعا على درجة واحدة من التطرف.. ولعل هذا التوازن هو ما كان مطلوبا من محمد بكري في تعامله مع كل أبعاد القضية وليس مع أجزاء منها.. وهو ما يجعلنا نتساءل: " من سمح بتصوير هذا الفيلم داخل إسرائيل ؟ ومن كتب السيناريو له ؟ ومن قام بتمويله؟". مع العلم أن كل هذه البيانات غير مذكورة على شريط الفيلم وهو ما يعني أشياء كثيرة !! وعموماً نحن على يقين من الإجابة الحقيقية على هذه التساؤلات حتى ولو قيل ما يخالفها.
|