50 عاما من عمر نفط الكويت: ماذا أعطانا النفط .. وماذا أخذ منا؟ محمد الرميحي

50 عاما من عمر نفط الكويت: ماذا أعطانا النفط .. وماذا أخذ منا؟

حديث الشهر

لا يحصى التاريخ بمرور السنين فحسب، فالأحداث هي، دائما، أفضل التقاويم، ولا أجد في تاريخ الكويت حدثا يوازي تلك الذكرى التي عشناها في أواخر يونيو الماضي، وأعني بها الاحتفال بمرور خمسين عاما على تصدير أول شحنة من نفط الكويت.

خمسة عقود فقط من الزمن هي التي تفصل مشقة الماضي عن رحابة الحاضر. فبين زرقة مياه الخليج الصافية، ولزوجة سائل النفط الأسود، عاشت الكويت عصرين مختلفين كالفرق بين هذين العنصرين اللذين تحكما في حياتها. لقد تحولت من بلد صحراوي هامشي إلى أن أصبحت في قلب الموازين العالمية، ولم توجد سلعة كالنفط أثارت كل هذه الصراعات والنزاعات، ولم توجد سلعة أيضا مثلها حملت كل وعود الثراء والخلافات. لقد أصبح النفط العربي هو المشجب الذي نعلق عليه كل شيء، هو سبب الرخاء الذي نحلم به وسبب الأمراض التي نعانيها، وهو العنصر المهم وراء كل الإنجازات والعامل المؤثر في استعار نيران الشقة والخلاف، طوق النجاة وسبب الانكسار.

إن تجربة النفط العربي واحدة من أهم تجارب التاريخ العربي، ومسيرة الكويت يمكن أن تعتبر نموذجا لتجربة المجتمعات العربية مع التحديث وكيفية استخدام عائدات النفط، بكل ما في هذا الاستخدام من إيجابيات وسلبيات، والحديث هنا ليس تأملا للماضي بقدر ما هو محاولة لاستشراف المستقبل.

مفاوضات شاقة مع حاكم الكويت

"لا يمكن أن أصف المفاوضات التي جرت بيننا وبين شيخ الكويت إلا أنها كانت بالغة المشقة".

هذه كلمات الميجور هولمز ممثل المجموعة الشرقية للتنقيب عن البترول حول مفاوضاته مع المغفور له الشيخ أحمد الجابرحاكم الكويت الأسبق للحصول على امتياز التنقيب عن النفط في دولة الكويت. وإذا كان المفاوض البريطاني البارع يعترف بذلك ، فماذا يمكن أن يقول الشيخ أحمد الجابر نفسه الذي كان محاطا بمناورات القوى السياسية الكبرى التي كانت تتلاعب بمصائر العالم في تلك الأيام من بداية القرن؟ كانت الإمبراطورية البريطانية خارجة مشرعة الأظفار من حربها العالمية الأولى ، شرهة إلى كل مصادر الطاقة الممكن الحصول عليها، وفي مواجهتها الولايات المتحدة أيضا تتلمظ لمشاركة الإمبراطورية العجوز كل ما تملك حتى تتمكن من طردها منها في نهاية الأمر، وكان الشيخ أحمد الجابر لا يملك في مواجهة كل هذا إلا حسه الفطري الذي اكتسبه من حياة الصحراء ، هذا الحس الذي أهله لأن يتلاعب مع الذئاب دون أن يعرض نفسه لمخالبها.

وبرغم أن الاتفاق النهائي على التنقيب قد وقع في 23 ديسمبر عام 1934 فإن أنظار شركات النفط كانت تحوم حول الكويت قبل ذلك بحوالي عشرين عاما أو يزيد ، وقد سمح الشيخ - بحذر شديد - لبعض البعثات التابعة لهذه الشركات للقيام بالمسح الجيولوجي الأولي ربما كي يتأكدوا من أن الصفقة تستحق هذا السعي عليها ، ولكنه في المقابل ظل يرفض كل العروض التي تقدم إليه لأنها لم تكن تحقق مصالح الكويت بالشكل الذي يراه.

كانت شركة المجموعة الشرقية قد حصلت على امتياز التنقيب عن النفط في البحرين، ثم حصلت على امتياز النفط من المغفور له الملك عبدالعزيز بن سعود عام 1923، وبدأت خطواتها الحثيثة من أجل الحصول على موافقة الشيخ أحمد الجابر، ولكن الرجل لم يكن سهلا كما وصفه كل المفاوضين. فقد أبقى على الاقتراحات التي قدمتها شركة "أبوك" لمدة ستة أشهر قبل أن يرد عليها بالرفض. وهو لم يفعل ذلك من فراغ ولكنه كان قد درس موقف الشركة بعناية وقام بزيارة حقول نفطها في عبادان في إيران.

وبدأت الولايات المتحدة تبحث عن موطئ قدم لها من خلال شركة "جلف"، ولكن المعاهدات الموقعة بين الكويت وبريطانيا كانت تمنع الشيخ أحمد الجابر من التفاوض مع أي شركة دون موافقة السلطات البريطانية، وبدأت الولايات المتحدة الضغط على بريطانيا لاتباع سياسة "الباب المفتوح" في الكويت كما هو الحال في مناطق الخليج الأخرى، ولكن بريطانيا ظلت تحاول مقاومة الضغوط دون جدوى ، وكان واضحا أن شيخ الكويت قد وجد ثغرة من خلال هذا التناقض بين مصالح الطرفين حتى يحقق أكبر مصلحة ممكنة لبلده.

ويبدو أن الشركتين قد أحستا بخطة الشيخ أحمد الجابر فقررتا الاتحاد معا وتكوين شركة واحدة تحت عنوان "شركة نفط الكويت المحدودة" وبذلك أصبحتا معا شريكتين في التفاوض وقدمتا معا عرضا معدلا، وكانت المفاجأة أن الشيخ قد رفض عرض الشركتين معا لأنه لا يلبي كل شروط الكويت، وأن هناك شركة بريطانية أخرى قد قدمت له عرضا أفضل. وأمام ذهول الشريكين الجديدين رفض الحل الوسط الذي قدماه ووضع لهما مهلة عدة شهور لتقديم شروط أفضل.

لقد أثار هذا الإعلان ذعر الجميع وأسرعت الشركة تتصل بالسلطات في لندن لترى إن كان الشيخ صادقا أم أنها إحدى مناورات التفاوض، وزاد رعبها عندما أدركت أنه لم يكن يناور، وأن هناك شركة أخرى بالفعل هي "تريدرذ ليمتد" التي حصلت على موافقة مبدئية من شيخ الكويت بشرط موافقة السلطات البريطانية.

لم يكن الأمر إذن مجرد مناورة أو إشاعة، وأحست شركة نفط الكويت بأن الصفقة التي سعت خلفها طويلا قد أوشكت أن تضيع منها خاصة بعد أن تقدمت شركة "تريدرذ ليمتد" رسميا إلى السلطات البريطانية تطلب الإذن بالتعاقد مع الشيخ، وأسرعت الشركة الأولى إليه لتطلب منه التعديلات التي يراها ضرورية حتى يوقع الاتفاق. وعلى الفور أبرق المفاوضان إلى لندن يوم 10 ديسمبر 1939 لإعلام الشركة هناك بالتعديلات وتمت الموافقة عليها فورا، ونقلا هذه المعلومات إلى الشيخ الذي أخبرهما أخيرا بموافقته ومثل أي مفاوض صادق فقد أخبر شركة "تريدرذ ليمتد" بقراره في اليوم نفسه.

وفي 21 ديسمبر 1934 وافقت الحكومة البريطانية على قرار الشيخ أحمد الجابر بمنحه امتياز نفط الكويت إلى شركة نفط الكويت المحدودة، وبعد ذلك بيومين فقط تم التوقيع على الاتفاقية. وقعها الشيخ من الجانب الكويتي وهولمز وتشير هولمز نيابة عن شركة نفط الكويت المحدودة.

ولا يملك المرء نفسه من الإعجاب بتلك الصلابة التي أبداها المرحوم الشيخ أحمد الجابر في ذلك الوقت. فقد كانت المفاوضات طويلة والإغراءات كثيرة والتهديدات - بلا شك - كانت بالغة الشراسة، وقد شاهد بأم عينيه نقود النفط وهي تنسال على المنطقة من حوله، وبلاده تعاني الشظف دون أن يضعف ذلك من عزيمته أو يغريه بالقبول السريع لأية شروط. كان يدرك أنه لا يتفاوض من أجل نفسه أو من أجل الجيل الذي يعايشه، ولكن من أجل أجيال المستقبل. ولعله بذلك ترك درسا مازال باقيا حين وضعت الكويت جزءا لا يستهان به من عائدات النفط في صندوق الأجيال القادمة، كي تستفيد مما يمكن أن تدره عائدات النفط.

المرحوم أحمد الجابر لم يكن حاكما عاديا بأي حال من الأحوال، ولكنه كان يمتلك ذلك الحس التنويري الذي دفعه إلى محاولة وضع بلاده وسط آفاق العصر الذي يعيش فيه. فقد تم في عهده إنشاء المدرسة الأحمدية، وقيام أول مجلس للشورى في منطقة الخليج، وإجراء الانتخابات البلدية وكذلك إنشاء أول مطبعة. وكلها كانت إشارات مهمة على منهج التحديث الذي يسير عليه، ولكن يبقى أن الحدث الأساسي الذي أحدث انقلابا هائلا في بنية المجتمع الكويتي هو منحه امتياز النفط وحفر أول بئر استكشافية عام 1936 واكتشاف النفط في حقل برقان" البئر رقم 1" عام 1938، وبذلك انتقلت الكويت بقوة من عصر إلى عصر آخر.

السلب والإيجاب في مسيرة التحديث

والتحديث في الكويت لم يكن فقط مباني تقام أو طرقا تمتد، ولكنه كان يهدف دائما للاستثمار في الإنسان، وقد أدركت منذ وقت مبكر أهمية التعليم في تحقيق الشكل الأكثر منفعة لذلك الاستثمار، وقد كانت الكويت الدولة الخليجية الثانية بعد البحرين التي اهتمت بإنشاء المدارس النظامية منذ وقت مبكر. ومع الثروة النفطية لم تجعل التعليم مجانيا وإلزاميا فقط بل عملت على توفير كل الأدوات التعليمية - من المسطرة إلى الكمبيوتر كما يقولون - وقدمت وسائل النقل والغذاء والإعانات المادية، وأرسلت العديد من البعثات إلى الخارج لدراسة كل التخصصات المختلفة، وقد أحدثت ثورة في القضاء على الأمية. فقد انخفض عدد الأميين من جملة الكويتيين من 48.3% في السبعينيات إلى 11.5% في التسعينيات ، تلك هي الثورة الصامتة التي حققتها الكويت، وتلك هي ثروتها الحقيقية.

لقد ظهرت آثار هذه السياسة التعليمية بوضوح أيام محنة الغزو العراقي ، فقد كان لحس الشعب ووعيه الأثر الأكبر في تماسكه وصموده وتعاونه أمام الآلة العسكرية العراقية بكل ما تحمل من دعاوى زائفة وما تمتلكه من آلة عسكرية عاتية. لقد كان أثر التعليم من القوة بحيث لم يستطع العدو إيجاد من يمكن إقناعه بالتعاون معه أو تصديق ما يدعيه.

وبرغم ذلك فإن علينا أن نوجه النقد إلى هذه المسيرة التعليمية، فهي قد ركزت على الجانب النظري أكثر من اهتمامها بالجانب العملي، وبذلك فقد كان الكثير من مخرجات النظام التعليمي أبعد ما تكون عن حاجة سوق العمل. كما أن أجهزة الإعلام قد قصرت في دورها حين لم تغرس في نفس المواطن الكويتي قيمة العمل وأهميته. إننا في حاجة الآن - ونحن على مشارف نصف قرن من تعاملنا مع عائدات النفط - إلى أن نعيد حساباتنا بدقة لا بقيمة الادخار المالي، ولكن بقيمة ما أحدثته تلك العائدات في نفس الإنسان. لقد غيرت الكثير من الأشياء إلى الأفضل، ولكنها خلال لهاث التحديث السريع لم تنتبه إلى أنها خلقت مواطنا ينتظر حتى يأخذ، بدلا من أن تخلق مواطنا يبادر حتى يعطي.

ولا يمكن التكلم عن مسيرة التحديث في الكويت بمعزل عن دور المرأة في هذه المسيرة. فتلك الأم الكويتية التي حافظت على تماسك المجتمع في أيام الانتظار الطويلة عند رحلات الغوص، التي يخرج فيها الرجال إلى عرض البحر، واصلت عادتها في الحفاظ على صمود المجتمع أيام الغزو المريرة. لذا فقد كان لها دائما وضع اجتماعي متميز.

وهي ليست من أوائل نساء الخليج اللواتي خرجن إلى مجالات التعليم والعمل فحسب ولكنها أيضا من أوائل اللواتي تولين العديد من المناصب الإدارية العليا، ولعل الكويت هي الوحيدة التي لديها سفيرة ومديرة للجامعة ووكيلة للوزارة بين دول الخليج، وقد بلغت نسبة المرأة في المجتمع الكويتي وفق تعداد 1993 حوالي 50.4% من عدد السكان أي أنها تزيد على النصف قليلا، ومع ذلك ففي الوقت الذي كنا نتطلع فيه إلى زيادة مكاسب "أخت الرجال" وفقا لتعدادها واستنادا إلى ما قدمته وأن تظفر بحقها الدستوري في الانتخابات التشريعية لتقرر هي أيضا من يمثلها في مجلس الأمة إذ بهذا المجلس يتقاعس وتحاول بعض عناصره محاصرتها من خلال مشروعات قوانين تقيدها.

وفي ذلك ما ينبئ بأن مسيرة التحديث تعاني بعض الشوائب وبعض جوانب القصور في الرؤية .. فالتحديث لا يمس جانبا واحدا من أي مجتمع ولكنه يشمل بالتأكيد كل الجوانب سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية.

وإذا كنا قد تحدثنا عن بعض السلبيات فيجب ألا ننسى إحدى السمات الإيجابية لإدارة الكويت لفوائضها النفطية. فقد قامت خلال ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات بتكوين الاحتياطات العامة، وكذلك احتياطات الأجيال القادمة ، وقد ظل الأول يستخدم في مواجهة متطلبات الإنفاق الطارئة والاستثمار المحلي والانخفاضات المفاجئة التي تحدث في أسعار النفط بينما ظل احتياطي الأجيال القادمة يستخدم في تكوين عائد من الاستثمارات الخارجية يساهم في تعزيز الدخل القومي وعدم الاعتماد على ريع النفط كمصدر أوحد للدخل، وقد مثل هذا الاحتياطي تخطيطا بعيد المدى ظهرت أهميته عندما وقعت كارثة الغزو وتوقف دخل النفط نهائيا وقامت هذه الاستثمارات الخارجية برعاية أبناء الكويت في الخارج والإنفاق على حرب التحرير وكذلك المساهمة في إعادة التعمير بعد زوال العدوان.

ولا شك أن هذه العائدات قد تأثرت كثيرا بهذا الاستنزاف وهي في حاجة إلى دعم كبير وتخطيط جديد يتوافق مع المتغيرات الدولية حتى يمكنها أن تستعيد عافيتها من جديد وهو أمر لن يتأتى إلا من خلال النهوض بالاقتصاد الكويتي من الداخل أولا.

نعمة النفط ونقمته

ماذا فعلت الثروة النفطية بأهل الخليج بشكل عام.. وأهل الكويت بشكل خاص؟..

هل كانت نعمة أم نقمة؟. .

الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة كما يبدو. فمن الممكن أن نسير وراء المتشائمين الذين يقولون إنه نقمة زيفت حضارة الخليج القديمة وأفسدت رجاله ، وخلقت أنماطا شرهة لا تقدس قيمة العمل كما أنها أثارت حقد الجيران الأقربين، ومن الممكن أيضا أن نغرق أنفسنا في أرقام الإنجازات التي تحققت ونقول مع القائلين إن النفط قد خلق الخليج بعد خلق الله، ولكن الأمر هنا يحتاج إلى نظرة موضوعية متأنية نرى فيها حصاد هذه السنوات من عمر النفط .. ونرى أيضا ماذا كسبنا وماذا خسرنا ومؤشرنا الأول والنهائي هنا هو الإنسان وليس البنيان.

دون كثرة من الحنين إلى الماضي فقد عاش أهلنا على هذه البقعة من الأرض عيشة مليئة بالشظف. كانت هذه الأرض معبرا للرحيل.. تمر بها الهجرات الكبرى من أعماق إفريقيا إلى سهوب آسيا. لا أحد يتوقف فيها لأنه لا يوجد فيها ما يستحق التوقف، ولكن أجدادنا من أهل الكويت القدامى قرروا أن هذا هو نصيبهم من العالم. صحراء ظامئة وبحر أجاج، وقد حولوا هذه البقعة الحارة بحكم الموقع إلى نقطة ارتكاز تجارية تربط عالم المحيط الهندي مع الغرب وعرف أول ميناء أقيم فيها باسم "كاظمة"، ونشأت مدينة الكويت في عام 1613 م حين هاجر إليها العديد من الأسر والقبائل من وسط الجزيرة العربية وشواطئ الخليج واستقر الأمر عندما تولى آل الصباح الحكم بعد ذلك بحوالي مائة سنة.

لم يستسلموا طويلا لقسوة البر، كان خلاصهم في البحر الواسع الذي يضم في أعماقه ثروات الطبيعة من لؤلؤ وأسماك، وهي ثروة لم تبذل نفسها بسهولة ولكنها احتاجت دوما إلى جهد ومكابدة. كانت مهنة الغوص هي أشق مهنة على ظهر الأرض بعد العبودية، وكان الخليج الذي يبدو وادعا يخفي في أعماقه دائما موتا مترصدا.

وانعكست طبيعة هذه الحياة على نفس الإنسان الكويتي وصاغت الكثير من الصفات التي مازال يتحلى بها حتى الآن. فقد علمتهم الشدائد أن التلاحم والتكافل بين أعضاء المجتمع الشوري هو أمر ضروري ضرورة الوجود، وتعلموا من رحلات الخطر على شاطئ البحر الانفتاح على مختلف المجتمعات والأفكار الجديدة فاكتسبوا نوعا من المرونة والتفتح الذهني والاستعداد لقبول كل ما هو جديد مختلف.

والمصادفة ليست عمياء كما يقولون، فقد جاء النفط في موعده تماما مع انهيار مورد الرزق الأساسي الذي كانت تقوم عليه المنطقة وهو اللؤلؤ فمع ظهور اللؤلؤ الصناعي القادم من أسواق آسيا انهارت مهنة الغوص - كأن ما فيها من مشقة لم يكن كافيا - وتحول اللؤلؤ إلى حصى ، وكان الأمر في حاجة إلى معجزة حقيقية حتى تستطيع هذه المنطقة أن تواصل الحياة.

وبرغم أن النفط قد اكتشف في الكويت بكميات تجارية منذ عام 1938 فإن تصديره قد تأخر إلى عام 1946 بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، ومنذ هذه اللحظة وقد ارتفع إيقاع التحديث في بنية المجتمع الكويتي. كانت هناك محاولة لاهثة لإقامة البنية الأساسية من جهة وتضييق الفجوة بين الكويت والدول المتقدمة من جهة أخرى، وقد بدأ ذلك بإعادة تخطيط مدينة الكويت لتحويلها من مجرد بيوت قديمة تؤوي الصيادين والتجار إلى مدينة عصرية حافلة بكل الخدمات الضرورية وتزامن ذلك مع دراسة المشروعات الأساسية للمرافق والخدمات الاجتماعية وإنشاء مشروعات الكهرباء والماء والرعاية الصحية والمؤسسات التعليمية وبقية الخدمات الضرورية وكذلك بدأ الانتقال النوعي بمستوى الدخل والمعيشة من خلال توظيف المواطنين الكويتيين وتقديم الدعم المباشر لهم.

إن عملية التحديث ليست سهلة، وهي لا تقتصر فقط على الكلفة المادية، ولكن هناك معالم وآثارا وأنماطا من الماضي يجب أن تزال نهائيا حتى تحل القيم والمعتقدات الجديدة بدلا منها، وقد حدث هذا بالفعل في الكويت. لقد زالت كثير من أنماط الإنتاج القديمة، وانتهى السعي إلى العمل في البحار الخطرة، وكذلك توقف كل ما كان يرتبط بها من حرف مختلفة، وانتهى دور الرجال الذين تعودوا على حياة الشقاء كي تأتي أجيال جديدة تطالب بدولة الرفاهية.

وقد ساهم الإنفاق الحكومي وحده تقريبا في كل جوانب عملية التحديث التي شهدها المجتمع الكويتي، وربما كان هو المرآة التي عكست الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية لدولة الريع التي كانت ترى أن الإنفاق العام ليس هو الأسلوب الوحيد لتنفيذ سياستها التنموية فقط، ولكنه الوسيلة الأكثر عدلا لتحقيق عائدات الثروة النفطية، وقد شهد الإنفاق الحكومي زيادة متوالية طوال العقود السابقة حتى بلغ نحو (70699) مليون دينار كويتي خلال الفترة (1956 - 1994) أي ما يعادل 241.8 ألف مليون دولار أمريكي.

ويلاحظ أن هذا الإنفاق كان يمثل 25.3% من الناتج الإجمالي في المتوسط سنويا خلال السبعينيات، ثم ارتفعت هذه النسبة خلال الثمانينيات إلى 53.5%. وواصلت ارتفاعها مع وحشية الاحتلال العراقي إلى 108% سنويا في الفترة 1990 - 1993 وهي الفترة التي شهدت حرب تحرير الكويت وبداية التعمير بعد زوال الاحتلال ولم تنخفض إلا إلى 82.5% عام 1993، ومع ذلك فهي تعد نسبة مرتفعة جدا لا تنبئ بكرم الدولة فقط بقدر ما تشير إلى مواطن الخطر في موارد الدخل القومي.

من الذي آمن بتقسيم الثروة ؟

عندما قام صدام حسين بغزوه الشهير للكويت رفع شعارا زائفا مؤداه "تقسيم الثروة". وكان يريد من خلف ذلك أن يعطي لأطماعه غطاء ساميا ويثير أحقاد الدول الفقيرة لعلها تقف خلفه. وصدام نفسه من أصحاب الثروة فالعراق بلاد غنية بثروات طبيعية وموارد معدنية ولكنه لم يفكر في يوم من الأيام في تقسيمها، وإن كان قد فعل ذلك فقد قسمها على مصانع الأسلحة الغربية والشرقية كي يقيم منها تلك الترسانة الدموية التي استخدمها في الاعتداء على جيرانه.

ولكن الكويت كانت هي التي آمنت بتقسيم الثروة فعلا لا قولا وحققته على أرض الواقع. وليس بواسطة الشعارات. فقد بدأت منذ بداية الستينيات في توزيع المساعدات على أشقائها العرب أولا ثم المسلمين ثانية، وأستطيع القول دون مبالغة أن يدها اليسرى لم تكن تدري ما تنفقه يدها اليمنى. كما أن المعاونة لم يكن مصدرها الجانب الحكومي فقط ولكن شاركت فيها عشرات الجمعيات الأهلية والخيرية والأفراد العاديون.

ومنذ أيام قليلة عاد أحد المحررين الزملاء في المجلة من رحلة استطلاع في جمهورية كازاخستان التي كانت إحدى الجمهوريات الإسلامية التابعة للاتحاد السوفييتي سابقا وأخبرني أنه حضر افتتاح حفر ثماني آبار للمياه العذبة في إحدى القرى النائية في تلك الدولة، وكان أهالي القرية يعانون شح المياه منذ ثلاث سنوات كاملة ويذهبون لإحضارها من على بعد أميال كثيرة، وقد قام بالإنفاق على هذه الآبار أفراد كويتيون عاديون امتلأت قلوبهم بالخير دون أن يعرفوا أين تقع هذه القرية بالضبط، ولكنهم كانوا متأكدين من أن سكانها مسلمون وفي حاجة إلى المساعدة وقد أشرفت على حفر الآبار إحدى جمعيات الخير الإسلامية وما أكثرها في الكويت.

ولا أريد هنا أن أستعرض المساعدات التي تقدمها الكويت على سبيل المن والعياذ بالله، ولكن أشير إليها في معرض حديثي عن العائدات النفطية وكيف أنها فجرت ينابيع الخير الموجودة في قلوب أهل هذه البلاد . فقد كانت الكويت من أسبق البلدان العربية منحا للمساعدات وأنشأت لهذا الغرض الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية الذي يهدف إلى تقديم القروض الميسرة لتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية، ثم توسعت مساعداته ليشمل الدول الإسلامية والصديقة.

إن هذا الموقف كان جزءا أساسيا من انتماء الكويت العربي الإسلامي الإنساني. ومن أجل ترسيخ علاقات التعاون والمصالح المتبادلة مع جميع البلدان الصديقة والمتقدمة وكذلك مناصرة قضايا الإنسانية المعاصرة والإسهام الفعال في مواجهة الكوارث والمشكلات التي تتعرض لها البلدان الصديقة.

وتشير التقديرات المتاحة بمركز البحوث والدراسات الكويتية إلى أن إجمالي المساعدات الرسمية قد تجاوز مبلغ 50 ألف مليون دولار أمريكي في الفترة من 73 إلى 1994، وبذلك فإن المتوسط السنوي لهذه المساعدات خلال فترة ال 22 عاما يصل إلى نحو (2272.7) مليون دولار وهي لا تقتصر على الدول العربية فقط ولكنها شملت حوالي 72 دولة منها 16 دولة عربية.

ولعل الشروط التي وضعها صندوق التنمية الكويتي للاقتراض هي أيسرها على الإطلاق فمعدل الفائدة يتراوح عند 3% مع فترة سماح تصل إلى أربع سنوات ونصف السنة مقارنة بما تقدمه مؤسسات الإقراض والتي تصل الفائدة التي تتقاضاها إلى حوالي 15%.

وكذلك يصل متوسط معدل عنصر المنح إلى 45.5% ومتوسط مدة القرض تزيد على 22 عاما، ولم يحدث أن مارست الكويت أي نوع من الضغوط لاسترداد هذه الديون بل إنها أيضا كانت المبادرة بمطالبة جميع البلدان الدائنة بالتخلي عن جانب من الديون والفوائد عن الدول المعسرة شديدة الفقر، وقد جاء ذلك على لسان سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر 1988 عندما أعلن مبادرته الشهيرة بإلغاء الديون عن الدول الفقيرة تأكيدا لدور الكويت الرائد في تحقيق التنمية الدولية.

وسوف نذكر فقط على سبيل المثال لا الحصر بعض المشروعات التي قام الصندوق الكويتي بتمويلها في عدد من الدول النامية في العالم: مشروع علاج مرض العمى النهري بدول غربي إفريقيا - مشروع إعادة إحياء بحيرة كورلي في أكرا (غانا) - مشروع إعادة توطين اللاجئين في روديسيا (زيمبابوي) - مشروع تنمية الصيد البحري في موريتانيا - مشروعات التنمية في الصين - مشروع تحسين الطرق بأندونيسيا- تطوير ميناء السلطان قابوس بسلطنة عمان - معالجة آثار الزلزال في مصر ومشروع محطة كهرباء سيدي كرير البخارية واستصلاح 400 ألف فدان بشمال سيناء ومشروع ورق طباعة الصحف بمدينة قوص والمشروعات الأربعة الأخيرة كلها في مصر، وكذلك مشروع توسيع وتحديث الاتصالات الهاتفية في سوريا.

وتبقى كلمة أخيرة حول نسبة المساعدات الكويتية إلى ناتجها القومي، فقد كانت شكوى الدول النامية أنها كانت تريد زيادة نسبة المساعدات التي ترد إليها إلى 1% من الناتج القومي المحقق في البلدان المتقدمة، ولم تكن نسبة هذه المساعدات تتجاوز 0.35% بأي حال من الأحوال، وبمقارنة هذه الأرقام بنسبة المساعدات الكويتية إلى الناتج القومي الكويتي تجدها تراوحت بين 5% إلى 8% خلال السبعينيات وقد بلغت في التسعينيات 4.4% وهي تعادل أكثر من 14 مرة ونصف المرة من تلك النسبة التي تقدمها البلدان الصناعية المتقدمة.

المستقبل وحلوله الصعبة

لا أريد أن أغرق نفسي والقارئ بمقدار الخسائر والأضرار التي لحقت بإنتاج النفط الكويتي من جراء الغزو العراقي وقيامه بحرق كل الآبار. ولكن ما أريد أن أصل إليه أن هذه الأزمة الطاحنة مازالت آثارها تتداعى حتى الآن.

لقد بلغت الخسائر وفق تقديرات أجهزة الدولة حوالي 300 مليار دولار أمريكي ومازال الحساب مفتوحا. فبفضل هذه الكارثة - وغيرها من الأسباب - تحولت دول الخليج العربي التي كانت في مرحلة ما من تطورها أكبر مصدر لرءوس الأموال في العالم إلى أن تصبح متلقية لهذه الأموال . ففي عام 1991 حصلت الكويت على قروض مشتركة من أسواق المال الدولية وصلت قيمتها إلى 5.5 مليار دولار وكذلك الحال بالنسبة للسعودية والبحرين وقطر. وتم نفس الأمر بالنسبة لدولة الإمارات ولكن بدرجة أقل. وتشير التوقعات إلى أن هذه المنطقة سوف تكون في حاجة إلى 50 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة.

هل يمكن التغلب على آثار هذه الكارثة العاتية في ظل الاعتماد على مصدر واحد للدخل هو النفط ؟

علينا أن نعترف جميعا أن أمامنا أياما صعبة لقد انتهى وقت الدعة وحان وقت العمل الشاق، فكل الأشكال الاقتصادية في الخليج في حاجة إلى إعادة هيكلتها وفق مقتضيات آليات السوق، وهي آليات لا ترحم المتخاذل، ولعل أول القطاعات التي يجب أن نفكر في إعادة الروح إليها هو قطاع النفط.

إن الخصخصة تطرح نفسها بإلحاح على كل المرافق الحيوية. وخصخصة قطاع النفط هي الكفيلة بإعادة الازدهار إلى ذلك القطاع الذي غلب عليه الروتين الحكومي. فخصخصة شركة النفط الوطنية كفيلة برفع كفاءتها التشغيلية والتسويقية وجعلها أكثر استجابة لظرف المنافسة المحيطة بها.

وستعود الخصخصة بالفائدة على كل من الدولة والمواطن في آن واحد ، فسوف تساهم عائدات البيع في تدفق السيولة لدى الحكومة مما يمكنها من الإنفاق على بقية الأشياء الضرورية دون أن تقوم بتسييل استثماراتها الخارجية ، كما أنه سيتيح للمواطنين فرصة المشاركة في تملك الشركات عبر شرائهم للأسهم المطروحة وبذلك تؤدي عملية التخصيص إلى إعادة توزيع الثروة بين كل فئات المجتمع.

ولا أعني بالخصخصة هنا انتفاء سيادة الدولة على هذا المرفق المهم ، ولكن عليها أن تحتفظ لنفسها بالحصة الأكبر من الأسهم، أي أنها يمكن أن تصبح مالكة السهم الذهبي في الشركة على غرار العلاقة بين الحكومة البريطانية وشركة بريتش بتروليوم، الأمر الذي أشار إليه العديد من الباحثين في هذا المجال، وبذلك يمكنها المحافظة على الجانب الاستراتيجي الذي يخص الدولة من الناحيتين السياسية والاقتصادية ، في نفس الوقت تحافظ على قوة الدفع التي ترفع من حالة الشركة فنيا وإداريا لتدر الربح على مواطنيها.

إن قضايا النفط كثيرة.. وكلها مرتبطة بهمومنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبقدر ما يحمل لنا اليوبيل الذهبي من ذكرى بشائر الخير فهو يحمل علامات الإنذار بأن العالم لم يعد هو العالم وأن الشقة بعيدة بين العجلة الفضية التي دارت في الأربعينيات والعجلة الذهبية التي تدور في التسعينيات. لقد قطعنا شوطا طويلا في مسيرة التحديث ولكننا لم نعمل كثيرا بوصية الأجداد. لقد رضوا بهذه الأرض على شظفها وعلينا نحن أن نحافظ على غناها بالمزيد من العمل ، وعلينا أن نتفاءل بالمستقبل لأن التشاؤم لم يربح معركة أبدا.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات