المستقبل وتحديات التكنولوجيا فتحي غانم

المستقبل وتحديات التكنولوجيا

استيقظ رجال الصناعة والأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية صباح يوم الإثنين 19 أكتوبر 1987 ليستقبلوا أنباء كارثة مالية بانهيار بورصة الأوراق المالية في "وول ستريت" بمدينة نيويورك. وكان الانهيار بدرجة عظيمة من الضخامة ، فدخل ذلك اليوم سجلات تاريخ أسواق الأوراق المالية تحت اسم يوم "الإثنين الأسود"!

وكانت ردود الأفعال بين رجال الصناعة الأمريكية تشير إلى حالة من الذهول أو اليأس، وانطلقت صيحات ذعر تتساءل عن مصير الاستثمارات في الصناعات الأمريكية. وتدخل بعض رجال الاقتصاد بآراء انفعالية، وتحدثوا عن خطر المنافسات اليابانية والألمانية التي سيطرت على أسواق العالم حسب مؤامرة وتدبير محكم من جانب اليابان وألمانيا، للانتقام من هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. لكن العقلاء من رجال الاقتصاد رفضوا هذه التفسيرات الانفعالية وقالوا إن يوم "الإثنين الأسود" هو نتيجة جمود الفكر الاقتصادي الأمريكي الذي تخلف في تطبيق التقدم التكنولوجي بينما استفادت الصناعات اليابانية والألمانية إلى أقصى حد من استغلال الابتكارات التكنولوجية في الإنتاج الذي يحتاج إليه السوق المدني. والدليل على ذلك أن السيارات اليابانية بما أضافته من ابتكارات وكماليات اكتسحت السوق الأمريكي، وتراجعت مبيعات السيارات الأمريكية داخل السوق الأمريكي، وفقدت السيارات الأمريكية مميزاتها التي كانت في وقت ما إحدى علامات التقدم الصناعي الأمريكي في القرن العشرين. والآن يفضل المستهلك الأمريكي السيارة اليابانية والأجهزة الإلكترونية اليابانية فانقلب الميزان التجاري ومعه ميزان المدفوعات الأمريكي من دائن إلى مدين، وتتصاعد مديونية أمريكا بإقبالها على استيراد البضائع المنافسة من الخارج، حتى وصلت هذه المديونية إلى عدة تريليونات من الدولارات.

وأصبح من الضروري مواجهة الكارثة برؤية جديدة وسياسة جديدة يتبناها رجال الصناعة والأعمال لدخول معركة المنافسة على الأسواق العالمية والانتصار فيها.

اقتصادات الوهم

وفي ذلك الوقت ظهر مقال مهم في مجلة "فورين أفيرز" Foreign Affairs الأمريكية كتبه أستاذ جامعي اسمه "روبرت ريش" وهو الآن وزير العمل في إدارة الرئيس كلينتون، وقد اختاره ليقود عملية الإصلاح الجذري وتوجيه الفكر الاقتصادي الأمريكي في الطريق الصحيح ليتغلب على تحديات المستقبل ويلحق الإنتاج الأمريكي بقطار التقدم التكنولوجي.

ومقال "روبرت ريش" المشار إليه كان بعنوان "اقتصادات الوهم ووهم الاقتصادات"، وقد وضع فيه الأفكار التي تبناها الرئيس كلينتون وهو يحشد الجهود الدبلوماسية مع العلاقات التجارية والإصلاح الجذري لفلسفة الإنتاج لتدخل الولايات المتحدة المنافسة في الأسواق العالمية بإنتاج متميز. وأهم ما نبه إليه "روبرت ريش" هو الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، والاعتماد على المعلومات، والاعتماد على التقدم المستمر الذي يتحقق بثورة الاتصالات. ونبه "ريش" إلى الخطأ الذي وقعت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة عندما فصلت بين الدبلوماسية والاقتصاد وفصلت بين سياسة الأمن وسياسة فتح الأسواق، فكان من نتيجة ذلك أن أكبر مخازن للمعلومات لدى الولايات المتحدة وأهم أسرارها التكنولوجية محبوسة ومضروب عليها حصار من السرية التامة لتظل في خدمة المؤسسة العسكرية "البنتاجون"، وبالإضافة إلى ذلك تحتفظ وكالة الفضاء والطاقة بأسرارها والمعلومات التي حصلت عليها من اكتشافات ورحلات الفضاء.

وطالب "ريش" بالإفراج عن هذه المعلومات والاكتشافات لتساهم في تطوير الصناعات الأمريكية لتكون قادرة على منافسة الإنتاج الأجنبي بل وتتفوق عليه. وطالب أيضا - بأن تفرج وكالة المخابرات المركزية عن أسرارها التكنولوجية الخاصة بالاتصالات، وأن تقدم ما لديها من معلومات سرية في هذا المجال لخدمة السوق، واستخدام هذه الاتصالات في مراقبة ومتابعة مراكز المال والصناعة المنافسة. وقال "ريش" إنه بغير هذه الأسرار التكنولوجية ومعها ذخيرة المعلومات لن يتقدم الإنتاج المدني الأمريكي بدرجة تسمح له بالتغلب على المنافسين له.

وإذا كان "روبرت ريش" قد وضع أسس الإصلاح الجذري لتطوير الإنتاج المدني الأمريكي في الثمانينيات، فإن فيلسوفا إنجليزيا قد سبقه في الثلاثينيات، وهو "برتراند رسل" الذي كتب مقالا عام 1933 بعنوان "في مدح الكسل" ثم نشره مع مقالات أخرى في كتاب له نفس العنوان . وقد نبه "رسل" في ذلك الوقت المبكر إلى أن التقدم العلمي يحتاج بالضرورة إلى تجديد الفكر عند القائمين على الإنتاج الصناعي، لأن الفكر إذا تجمد أو تحجر لا يستطيع أن يتلاءم مع المتغيرات ويفقد القدرة على تحقيق انسجام مع الواقع، لأن القرارات والسياسات تسقط في خانات ومربعات الفكر المتجمد. وضرب "رسل" مثلا بمصنع ينتج الدبابيس ويقوم بتشغيله بنجاح آلاف العمال، ثم يحدث تقدم في البحث العلمي فيصبح من الممكن إنتاج أضعاف أضعاف الكمية اللازمة لسد حاجة السوق أو - ربما سد- حاجة أسواق العالم !! عندئذ لا يدرك أصحاب الفكر المتجمد ضرورة تعديل سياسة الإنتاج لتنسجم مع الابتكارات الحديثة التي ضاعفت الإنتاج، ويسيرون وفق النهج القديم الذي يفرح بزيادة الإنتاج ويراها المقياس على النجاح الذي يحقق المزيد من الأرباح، وفجأة تقع الأزمة، لأن المصنع نجح إلى درجة لا يستطيع معها تسويق بضاعته، ولا يستطيع أن يفرض على المستهلكين شراء دبابيس أكبر من حاجتهم إليها. وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يلجأ إلى السياسة التقليدية بخفض الأسعار لإغراء المستهلكين على زيادة الشراء. إن الفكر الجامد الذي يخطط لمثل هذا المصنع لم يعد يصلح لأداء وظيفة ولا بد من أفكار جديدة ورؤية جديدة. وهذا المثال يتكرر بين وقت وآخر حتى أن رجال الاقتصاد يتداولون فيما بينهم النكتة التي تقول: "نجح البنك في سياسته حتى أفلس" أي أن المسئولين عن إدارة البنك فقدوا المرونة وتمسكوا بقواعد نظرية ثابتة طبقوها بإصرار حتى أفلس البنك! والحمقى - وهم كثيرون - يرفضون تغيير أفكارهم الثابتة ولا يدركون أن الظروف تتغير حتى يواجهوا الأزمة ويضطروا إلى طرد آلاف العمال وإيقاف الإنتاج ، ويحصل العمال على راحة إجبارية أو "كسل إجباري" وهو الذي يمتدحه ساخرا رسل ، عندما تصل السياسات الخاطئة في إدارة الإنتاج إلى "مدح الكسل" كعلاج للأزمة.

تغيير العقليات

إن رؤية المستقبل والقدرة على مواجهة أعبائه ومتطلباته، تحتاج إلى تغيير العقليات، أي تغيير كل دماغ يتشبث بالمناهج والأساليب البالية في مواجهة واقع جديد يكتسح كل من يعترض طريقه. والذي يتشكك في ذلك عليه أن يراجع النجاح الذي حققته دول اليابان أو دول جنوب شرق آسيا، ثم الصين حيث كان التركيز على المعلومات والاتصالات والتدريب والتعليم عمليات مستمرة لا تتوقف. وهذا هو نفس ما خطط له "روبرت ريش" منذ بداية توليه وزارة العمل ، فقد عقد مؤتمرا موسعا جمع بين خبراء العمل وخبراء التعليم ،ليناقشوا ربط مناهج التعليم في المدارس والجامعات بخطط الإنتاج والتطور التكنولوجي، وهاجم "ريش" الأسلوب القديم في التعليم الذي يعتمد على الشهادات العلمية في تقييم العامل، لأن الشهادة العلمية لا تعني أكثر من أن صاحبها استمر في تحصيل العلم حتى تاريخ صدور الشهادة. مع أن التقدم التكنولوجي مستمر يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر.

والكتب التي تصلح لمتابعة التقدم عام 1996 تختلف تماما عن الكتب القديمة التي لا تصلح للتدريس الصادرة عام 1995! وهذا كلام لا يكاد يدرك خطورته المسئولون في جامعات مازالت تقدم لطلبتها كتبا ومصادر للمعلومات تعود إلى العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. فالمطلوب الآن استمرار التعليم والتدريب "من المهد إلى اللحد" ، والذي يتجاهل هذا المطلب يتعرض لمخاطر هائلة. فالعمال الذين يتخلفون في تحصيل العلم والتدريب يتعرضون للطرد أو للمنافسة ضد عمال أفضل منهم . ولم تعد الشهادة الدليل على المهارة، فالتدريب المستمر أهم، والأجهزة الإلكترونية الحديثة لا تحتاج إلى شهادات فقط، إنها تحتاج قبل أي شيء إلى كفاءة تشغيلها، وهذه الأجهزة تحدد برامج التدريب عليها وبرامج العلوم واللغات المطلوبة للاستفادة من هذه الأجهزة. أما البرامج التقليدية للتعليم فلا تصلح . والتدريب الجيد ساعد في وقت ما العامل الكوري على أن ينافس العامل المصري في عمليات البناء داخل مصر.

ولا بد أن يضع المسئولون عن سياسات الإنتاج في اعتبارهم أن خمسين في المائة من الوظائف والأعمال الحالية، لم تكن موجودة منذ عشرين أو ثلاثين عاما. وبين العلوم المطلوب دراستها أكثر من خمسة وثمانين في المائة منها تخصصات كانت مجهولة وتشمل تخصصات في الجراحة والسياحة والإنشاءات ووسائل الإعلام وغيرها. ومع الأسف الشديد لا يدرك كثيرون أن التخصصات الجديدة تحتاج إلى دراسات وتدريبات شاقة وليس من السهل العثور على طلبة قادرين على استيعابها بين أجيال تتربى معتمدة على الضغط على الأزرار لمشاهدة برامج التلفزيون، مما أدى إلى ضعف ثقافتها وصعوبة تحصيلها المعلومات. وكان من نتيجة ذلك انتشار الأمية في البلاد المتقدمة وفي الولايات المتحدة الآن حوالي ثلاثة وعشرين مليون أمي لا يستطيعون كتابة وقراءة أسمائهم ولا يعرفون عن الكمبيوتر سوى الألعاب الإلكترونية!.

وأصبح من الضروري رفع شعار" التغيير صديقنا وليس عدوا لنا" حتى لا يخشى الناس التغيير ولا يستسلمون بلا تفكير للحصار التكنولوجي تفرضه عليهم معلومات وأخبار تتناقلها وسائل الإعلام من كل مكان في الأرض ،إلى أي مكان على الأرض فيؤثر فيهم ما يتلقون وتتشكل العلاقات بين الشعوب والحكومات بتكنولوجيا الاتصالات الخاضعة لسيطرة أجنبية أو مجهولة. إن كاميرات التلفزيون أبلغ وأفضح في نقل المعاني المراد إيصالها للجماهير. ولم تعد منابر الخطابة أو المنشورات السياسية أو المؤتمرات والاجتماعات الحزبية أو الثقافية صاحبة اليد العليا في التأثير على الجماهير أو كسب أصوات الناخبين. ومن المسلم به أننا نعيش في عصر تساهم في توجيه أحداثه قناة تلفزيونية مثل "سي إن إن "CNN ومعها بعض الصحف الكبرى التي تنقل صفحاتها إلى قراء العالم عن طريق شبكات التلفزيون مثل "الواشنطن بوست"، و "نيويورك تايمز "و صحيفة "هيرالد تربيون". ومثل هذه القوى الإعلامية أصبحت تحدد جدول أعمال مجلس الأمن فالأولوية لما تذيعه شاشات التلفزيون وتتولاه كبريات الصحف بالتعليق، وليست الأولوية لمواجهة أخطار سوف تظهر على المدى البعيد، وعندما نقلت شاشات التلفزيون مشاهد الحياة المدنية في غرب أوربا والولايات المتحدة للمشاهدين في الاتحاد السوفييتي أصبح من السهل إقناع هؤلاء المشاهدين بالتمرد على النظام الشيوعي، أما السوق المالية فلم تعد تحت سيطرة دولة بعينها لأنه كما قال "ولتر ريستو" في دراسة عن "التكنولوجيا والسيادة" لم يعد هناك مكان للاختباء والبيانات الصادرة من الحكومات والبنوك المركزية وأخبار الأسواق تنتشر في لمح البصر، فتقابلها ردود أفعال وقرارات سريعة من كل موقع في العالم، ولا تستطيع حكومة واحدة أن تواجه فيضان المعلومات وهو يتدفق، وأي تهاون أو تراخ في المواجهة السريعة قد يؤدي إلى ضياع ثروات، فالأسواق لم تعد قائمة باعتبارها مواقع جغرافية. إنها الآن بيانات على شاشة التلفزيون وأزرار ومفاتيح كومبيوتر تضغط عليها في عقر دارك فتدخل أي سوق في العالم وتبيع وتشتري.

ولقد أصبح الخيار صعبا أمام الحكومات. فإما أن تواجه أعاصير المعلومات تجتاح العالم بسرعة مخيفة وتؤدي إلى تداعيات وردود أفعال من الصعب السيطرة عليها أو توجيهها، وتكون هذه المواجهة قائمة على الدراسة والبحث عن وسائل جديدة - باستمرار - للمساهمة والمشاركة مع التطورات المتسارعة. وإما - وهذا خيار آخر - أن تحاول الحكومة الدفاع عن سياستها القديمة، وهذا يؤدي إلى السقوط في دوامة القرارات الصادرة من حولها في كل موقع في العالم.

الحل التكنولوجي

إن التحولات التي تحدث نتيجة التقدم التكنولوجي في المجتمعات البشرية أصبحت أقرب إلى القضاء والقدر. ولكن من حسن الحظ أن علماء الاجتماع الذين يدرسون هذه التحولات وتأثيرها في المجتمع البشري يقولون إنها تحدث تغييرات في السلوك الإنساني، وفي القيم السائدة بصورة تدريجية. فاستخدام التكنولوجيا المتطورة لا يؤدي إلى تقلصات اجتماعية مفاجئة برغم ضخامة الفارق بين استخدام الأجهزة التكنولوجية أو عدم استخدامها.

والسبب في ذلك هو ما استقر عليه رأي علماء الاجتماع أنه لا يوجد شيء يسمى بالحل التكنولوجي لمشاكل البشر.

إن كل الابتكارات التي صاحبت ثورة الاتصالات والمعلومات التي احتشدت لتكون في خدمة الإنسان لا تستطيع أن تصنع الحل. إنها تستطيع خفض تكاليف الإنتاج ، تستطيع تحسين وتيسير وسائل الاستغلال والانتفاع، غير أنها لا تستطيع أن تعالج مشاكل البشر وفي مقدمتها مشكلة البطالة. ذلك لأن العقول وليست الآلات هي التي تقود الإنتاج التكنولوجي. والعقول هي الأهم، لأنها هي المسئولة عن قبول التغيير والاستعداد له ، ولأن التطور التكنولوجي سيظل مرتبطا بالتطور الإنساني والعقل الإنساني. لذلك يظل الشرط الأساسي للتفوق ومواجهة تحديات العصر التكنولوجي هو احترام العقل، وأن تكون الأولوية لاستمرار التعليم واستمرار التدريب بلا استسلام أو تراخ أو انبهار بأي تقدم يتحقق تكنولوجيا. بالعكس إن التقدم في مجال التكنولوجيا هو التحدي المستمر ليقظة العقل البشري.

 

فتحي غانم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات