الوطنية الاقتصادية في عصر الكوكبة محمد السيد سعيد

الوطنية الاقتصادية في عصر الكوكبة

كان آدم سميث - الذي يسمى "أبا الاقتصاد الحديث" مؤمنا بأن العادات التي أنشأتها الرأسمالية سوف تنتشر إلى بقاع الأرض بسبب تفوقها في خلق ثروة الأمم. وكان كارل ماركس - الذي هو الخصم الكامل للرأسمالية الحديثة - مؤمنا بدوره بأن الرأسمالية سوف توحد العالم في سوق واحد كبير بعد أن تدك السلع المتداولة في التجارة الدولية حتى أعتى الأسوار - مثل سور الصين العظيم - التي حجزت الأمم والثقافات عن بعضها البعض لآلاف السنين.

وقد تبعهما في هذا اليقين مئات، بل وآلاف من أساتذة الاقتصاد وأنصار وتلاميذ العلوم الاجتماعية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وصار هؤلاء يمثلون تيارا عريضا في الفكر السياسي والاجتماعي، وذلك بغض النظر عن موقفهم من الرأسمالية. فقد صارت فكرة أن الرأسمالية قادرة على التوحيد الاقتصادي للعالم كله لا مجرد نظرية علمية وإنما قبل وفوق ذلك أصبحت نوعا من الاعتقاد النبوئي بما يجعلها لدى الكثيرين في صف واحد مع اليقين.

غير أنه حتى هؤلاء: أي أنصار مدرسة سوق واحد حتمي في كوكب الأرض بتأثير وضغط الرأسمالية لم يدر بخيالهم المدى المذهل الذي تتحقق به نبوءتهم ونحن نقترب من القرن الواحد والعشرين. فالسلعة صارت لها قوة خارقة وقدرة إعجازية على النفاذ عبر الحدود، واختراق الأسوار والانتشار حتى في الثقوب الصغيرة عبر جغرافية المعمورة كلها.

ومن الناحية العلمية البحتة لا نستطيع أن نتحدث عن كوكب اقتصادي أرضي واحد، بعد. فلا يزال هناك تعدد في النظم الاقتصادية - حتى بعد انهيار الاشتراكية كنظام منافس ومناقض للرأسمالية. ولا تزال هناك أسوار إدارية وغير إدارية تقلل أو تحجب سرعة اندفاع السلعة بين الدول ذات السيادة، بل وهناك تكتلات تتصارع حول الامتيازات داخل وخارج نطاقاتها السياسية والاقتصادية بوسائل لا يرضى عنها أساتذة وأنبياء الاقتصاد الرأسمالي بصورته الصافية، وهناك انقطاعات وحدود كثيرة بين الأمم والأقاليم والثقافات تجزئ الاقتصاد العالمي وتشوش كثيرا صورة توحده.

ومع ذلك، فإن ما لا شك فيه أن هناك عملية نشطة وقوية جدا لضم أجزاء الاقتصاد العالمي وتوحيده وهدم الأسوار التي تحول دون الحرية الكاملة لتدفق عناصره ومبادلاته وحركة عوامله: سواء كانت سلعا أو رأسمالا أو عمالة أو تكنولوجيا.. أو غير ذلك. و ذلك هو ما يسمي بعملية الكوكبة الاقتصادية: أي بناء اقتصاد عالمي واحد في كوكب الأرض.

معان مختلفة

إن تعبير الكوكبة بالمعنى المشار إليه هو جزئيا دال دلالة صحيحة، وجزئيا مضلل إلى حد بعيد. فاستخدام تعبير "كوكبة" أو بديله تعبير "عولمة" ينطوي على معنى موضوعي، محايد حيادا بدائيا من حيث إنه يعني بالحيز الطبيعي في الكون الذي يملكه الإنسان، ولكنه لا يزعم أن ثمة شيئا ما إنسانيا حقا في العملية.

إن ما يفسح المجال لحريته في الحركة الكاملة في هذا الحيز الطبيعي هو السلع والأشياء. وكل ما يصل بين هذه العملية الحيادية - الموضوعية المجردة من ناحية و"مال الإنسان" من ناحية أخرى هو اعتقاد أنصار الرأسمالية أن هذه العملية تضاعف من ثروة العالم أو الرفاهة الجماعية للشعوب مأخوذة ككل: أي كمجموع حسابي.

وقد يكون هذا الاعتقاد أو الاستنتاج صحيحا أو خاطئا، غير أنه ينطوي على نوع من التعميم المضلل، والذي يستر بأكثر بكثير مما يكشف عن جوانب سلبية، بل ومأساوية في الأوضاع الاقتصادية للعالم: وللشعوب بصفة محدودة. فمجرد جعل الكوكب الأرضي حيزا متحدا للحركة الحرة للسلع والموارد، لا يحقق وحدة هذا الكوكب، من حيث إن ما يميزه ليس هو حقيقته الطبيعية المجردة، وإنما أنه هذا الجزء من الكون الذي يسكنه الإنسان. والكوكبة الاقتصادية بالمعنى الذي يشار إليه عادة لا توحد الإنسان وظروفه، ولا تشير بشيء إلى تطلعاته. بل ولا حتى إلى مجرد وحدته بالأصل: أي وحدة الجنس البشري. فحتى أكثر المتفائلين بالكوكبة وأنبيائها الكبار ورسلها الصغار في مجالات العلم الاجتماعي المختلفة لا يذهبون إلى القول باختفاء الفقر أو بنهاية التمايزات الاجتماعية العميقة بين الشعوب أو تجسير الفجوات المذهلة بين ظروفهم المعيشية والاقتصادية بصورة عامة وانقسامهم بين غنى فاحش وفقر مدقع وعنيد.

ماذا عن اقتلاع الفقر؟

هذه المعاني الأخيرة تشير إلى مستوى مختلف تماما لعملية توحيد العالم، أو العولمة، في أي مجال كان، فعلى المستوى الاقتصادي هناك عولمة أو كوكبة للسلع ولكن هناك عملية موازية لإعادة إنتاج الفقر والثروة وهو ما يترتب عليه تضاعف الحرمان في مناطق كثيرة من العالم . وعلى المستوى الاجتماعي: فإن العولمة بتأثير تنميط أشكال الثروة والمكانة ، ولكن هناك فوارق طبقية متوسطة ومتناهية ليس بين الشعوب فحسب، ولكن داخلها أيضا. وعلى المستوى الاتصالي، أدت ثورة التكنولوجيا المعاصرة إلى جعل العالم قرية (اتصالية) صغيرة، ولكن التفاهم بين الشعوب لم يتعزز، بل كشف هذه القرية بأشكال التعصب العرقي والديني والثقافي. وبالاتجاهات التي تدعو للنفي المتبادل. وعلى المستوى السياسي، يتحدث البعض عن نظام عالمي جديد، ولكن الحروب الأهلية تتعاظم والعنف لا يزال منفلتا من عقاله، والكراهة، الانتقام، والتمييز والأنانية المطلقة والافتقار للتعاطف ووهن قوة الدفع نحو السلام العالمي الحقيقي يجعل هذا النظام الجديد حيزا للظلم والطغيان والعنف الهيكلي.

في ظل هذا كله، لا يمكن أن تكون الكوكبة الاقتصادية عملية تامة أو إيجابية بالضرورة. بل هي بتأثير الرأسمالية عملية حافلة بالتوترات والتناقضات. وأهم هذه التناقضات على الإطلاق هو ذلك الذي يدور بين الأمم والقوميات والشعوب.

اضمحلال القومية

من هذا المنطلق، يمكننا أن نعرف عملية الكوكبة الاقتصادية بأنها تلك التي توسع مجال الحركة للموارد الاقتصادية المادية، وتؤدي إلى تنميط متزايد لشروط المبادلات الدولية: أي حركة السلع، التجارة السلعية، وحركة التكنولوجيا: تجارة التكنولوجيا، وحركة رأس المال: أي تجارة الائتمان الدولي.. إلخ.

ومما لا شك فيه أن هذه العملية تضرب في الأعماق الأشكال التقليدية التي مارست بها الدول سيادتها القومية: أي قدرتها على التشريع الحر في نطاقها الجغرافي بشأن تحريك الموارد الاقتصادية والتحكم في حركة هذه الموارد من خلال أدوات اختصاصها السيادي.

وقد خلط الاقتصاديون بين هذا المعنى وفكرة أفول أو هبوط القوميات والنزعات الوطنية بما أدى بهم إلى التنبؤ بنهاية عصر المدرسة القومية أو الوطنية عموما، وفي مجال الاقتصاد بصفة خاصة. وباختصار بدت لهم الكوكبة أو العولمة الاقتصادية نقيضا مطلقا للقومية أو الوطنية الاقتصادية، على كل المستويات وفي كل الحالات ، وبالنسبة لكل الأمم والشعوب.

ومن هنا تظهر نظرية اضمحلال الوطنية والقومية بتأثير عملية الكوكبة أو العولمة الاقتصادية التي تجسدها "الشركات عابرة القومية"، وهي تلك التي تستثمر وتملك وتدير عمليات ومشروعات في عدد من الدول خارج بلدها الأم.

والواقع أن نبوءة اضمحلال القومية والوطنية قد ظهرت منذ بداية الخمسينيات. وهي فترة كافية نسبيا لاختبار مصداقيتها. فعلى النقيض، نجد أننا نشهد إحياء للفكرة القومية والنزعة الوطنية. بل ونشهد إحياء لخطاب الهوية بصفة أعم سواء كانت ثقافية أم عرقية. وهناك من يعتقد لهذا السبب أن مؤسسة الدولة القومية تواجه تحديا مزدوجا: أي هذا التحدي المتمثل في عملية الكوكبة الاقتصادية، وذلك المتمثل في إحياء الهويات الفرعية: الدينية والجهوية والعرقية واللغوية.. إلخ داخل إقليم الدولة.

ومع ذلك، فالظاهرة الواضحة على نحو متزايد هي التأكيد المضاعف على القومية الوطنية وعلى سلطة الدولة القومية وسيادتها.

هذا التأكيد على سلطة الدولة القومية وسيادتها يظهر أكثر قوة في المجال السياسي. وكأنه قد صار هناك نوع من الاعتراف بأن القومية السياسية في حالة صعود بينما القومية الاقتصادية في حالة هبوط ، بالارتباط مع عملية الكوكبة. وهذا بدوره غير صحيح بالضرورة.

فماذا يحدث إذن على صعيد الوطنية والقومية الاقتصادية؟

الواقع أن حقيقة الأمر هي أن شكلا معينا للقومية الاقتصادية قد صار مهجورا على نحو متزايد بسبب انهيار مفاهيمه، بينما تسعى الدول والأمم إلى الاستجابة للظروف الجديدة المشتقة من عملية الكوكبة من خلال إنتاج شكل أو أشكال جديدة للتعبير عن مصالحها الوطنية ، في الحقل الاقتصادي.

فالوطنية أو القومية الاقتصادية قد ارتبطت في الماضي باستخدام الأدوات الإدارية والسياسية لتحقيق المصالح الاقتصادية الوطنية. وأهم هذه الأدوات هي سياسة الحماية التجارية وضمان السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية، والإجراءات التقليدية الخاصة بالاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا.

ولم يقتصر استخدام تلك الأدوات والآليات التقليدية على الدول المتخلفة والنامية. بل استخدمتها كذلك الدول الصناعية المتقدمة، سواء فرادى أو من خلال التجمع في تكتلات تجارية واقتصادية.

ويلاحظ كذلك أن الحمائية التجارية قد أخذت في الصعود رويدا رويدا في الولايات المتحدة حتى صدر القانون الشامل للتنافسية عام 1988. ويوظف هذا القانون شتى ضروب الحماية التجارية القديمة والمستحدثة.

ونجد نفس الشيء في حالة اليابان والدول الصاعدة الجديدة في شرق آسيا.

غير أن هذه الضروب التقليدية من الحماية الجمركية وغير الجمركية لم تثبت فعالية كبيرة. هذا فضلا عن أنه محكوم عليها بالاضمحلال، وخاصة بعد توقيع اتفاقية مراكش التي توجت دورة أوروجواي لمنظمة الجات وأنشأت منظمة التجارة العالمية. فبفضل هذه الاتفاقية سوف ينشأ نظام صارم للرقابة يحول دون توظيف الأدوات الحمائية التقليدية، بصورها المختلفة.

والواقع أن الجديد في هذه الاتفاقية - وغيرها من التركيبات - يمس أكثر كثيرا إمكان تطبيق صور الحماية التقليدية من جانب دول العالم الثالث، بما في ذلك بالطبع الدول العربية.

ومما يلفت النظر أن الدول الصناعية المتقدمة كانت تطبق أشكالا تقليدية معينة من صور الحماية التجارية. ولكنها اتخذت سياسة مغايرة جذريا فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية المباشرة. أو أنها لم تشجع هذه الاستثمارات فحسب. بل كانت تتنافس حول جذبها. وهو ما يدل بصورة قطعية على أن الصراع حول اجتذاب رءوس الأموال والاستثمارات الأجنبية هو بحد ذاته مظهر من المظاهر المستحدثة والجديدة للوطنية والقومية الاقتصادية. ولا شك أن الدافع الأساسي وراء هذا التشجيع والصراع القومي حول اجتذاب الاستثمارات الأجنبية ليس هو رءوس الأموال، وإنما المحتوى التكنولوجي لهذه الاستثمارات فضلا عما تنطوي عليه من فرص للعمل ، والآثار التحفيزية والانتشارية التي تنتجها في الاقتصاد المحلي.

لقد ظلت الدول الصناعية المتقدمة تحرص على تشجيع الاستثمارات الأجنبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بينما طبقت الدول المتخلفة والنامية استراتيجية مغايرة وخاصة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات. ففي غضون هذين العقدين هبت عاصفة التأميمات للاستثمارات الأجنبية، واتبعت معظم الدول النامية والمتخلفة سياسات تقييدية شتى ضد هذه الاستثمارات، إلى الحد الذي جعلها أحد أركان ما يسمى بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي مثل الشعار المرفوع لحركة العالم الثالث خلال هذين العقدين.

غير أن التطورات العاصفة في العقدين التاليين برهنت على أن جانبا كبيرا من الإجراءات التقليدية للقومية الاقتصادية في العالم الثالث لم تعد ممكنة أو حتى مفيدة.

فاتفاقية مراكش الموقعة في ديسمبر عام 1994 تحتم إجراء تخفيض كبير في مستوى الرسوم الجمركية وصور الحماية الفعلية الأخرى من جانب جميع الدول، بما في ذلك دول العالم الثالث، بينما أدت قراءات واتفاقات دولية أخرى إلى تقييد قدرة الدول على استخدام إجراءات إدارية وسياسية في مجال التكنولوجيا والائتمان الدولي.

وهكذا يصبح من غير الممكن بصورة متزايدة توظيف هذه الأدوات والإجراءات التي مثلت الشكل الأساسي للوطنية الاقتصادية في عقدي الستينيات والسبعينيات، إلا إذا رغبت الدولة في عزل نفسها عن الاقتصاد العالمي، وهو أمر ثبت أنه يضر أكثر مما ينفع.

القومية الاقتصادية الجديدة

نستطيع إذن أن نستنتج أن القومية أو الوطنية الاقتصادية يمكن بالفعل أن تضمحل في الظروف الجديدة للنظام العالمي، وخاصة جانبه الاقتصادي، إلا إذا استطاعت الأمم والدول القومية أن تبدع أشكالا جديدة لتعظيم مصالحها الاقتصادية. وهذا هو التحدي الذي يواجه العالم الثالث عموما، والوطن العربي خاصة.

فجوهر الوطنية الاقتصادية يمكن أن يستمر حتى في الطور الجديد لتطور الاقتصاد الكوكبي. ذلك أن هذا الجوهر يتعين تحديدا في الصراع أو التنافس التوزيعي. هذا الصراع لا - ولن - ينهي عملية الكوكبة الاقتصادية، ولكنه يمكن أن يغير من التوزيع النسبي لعائد هذه العملية بين الأمم والشعوب والدول القومية.

إن هذا الصراع هو ما يجسد الآن ظاهرة القومية الاقتصادية ويبقيها حية، تحاصر الجوانب الجوهرية والضرورية لتنظيم العالم، حتى يحل محلها ترتيبات حقيقية تجسد مبدأ أعلى وهو المسئولية الجماعية والتنمية والرفاهية واقتلاع الفقر. مسئولية تصدر عن القناعة بوحدة الأصل الإنساني والميراث المشترك للإنسانية.

ولكن كيف تنجح الأمم النامية - وخاصة وطننا العربي - في تحسين موقعها التوزيعي في إطار عملية الكوكبة الاقتصادية؟.

إن الأفكار التالية قد تفيد كثيرا في البحث عن صيغ جديدة، ممكنة موضوعيا وفعالة اقتصاديا في تحقيق هذا الهدف:

أولا: إن الإقلاع عن الأشكال التقليدية للقومية الاقتصادية تدريجيا، وخاصة الصور المختلفة للحماية التجارية صار أمرا ضروريا، وذلك لأن هذه الأشكال تعبر عن استراتيجية دفاعية في المجال الاقتصادي، والتوزيعي. هذا بينما صارت الأشكال الممكنة لتغطية المصالح الاقتصادية للدول النامية والمتخلفة، وعلى رأسها وطننا العربي هي تلك القائمة على استراتيجية هجومية.

الاستراتيجية الدفاعية هي تلك التي تحول بين الغير والحصول على - أو الاستيلاء الاقتصادي على أسواقنا القومية. بينما الاستراتيجية الهجومية هي تلك التي تسعى على نحو نشط للحصول على نصيب كبير ومتزايد من الأسواق القومية، ومن فرص الاستثمار والتكنولوجيا وموارد التراكم الأكبر، التي تتحرك في المحيط الكوكبي.

هذا هو المبدأ العام الجوهري الحاكم لتطور القومية الاقتصادية الجديدة والمناسبة للوطن العربي.

ثانيا: في هذا الإطار الاستراتيجي الجديد، بينما يجب ترتيب حماية فعلية قوية لفروع أو أنشطة اقتصادية حساسة معينة، يجب أن تنصرف السياسة الاقتصادية القومية الجديدة إلى تعزيز قدرة السلع العربية على المنافسة الفعالة في الأسواق العالمية. ويتوقف ذلك على التركيبات الداخلية التي تعزز الإنتاجية والتنافسية النوعية والسعرية للسلع العربية، وخاصة في مجال الصناعة التحويلية.

ولكي ينجز الوطن العربي هذا الهدف يجب أن يتحرك بفعالية أكبر لتحقيق الانطلاق التنموي والاقتصادي من خلال مزيج من السياسات الكلية والجزئية. فعلى المستوى الكلي لا مناص من رفع معدلات الادخار والاستثمار، وتحسين الإنتاجية والتنافسية من خلال توظيف أفضل للسياسات المالية والنقدية، فضلا عن التحولات الهيكلية المطلوبة التي تمنع الإهدار وتحاصر الفساد الاقتصادي وتخلق طبقة واسعة جديدة من المنظمين الصناعيين وتعزيز قدرتها على المخاطرة والابتكار. أما على المستوى الجزئي فهناك مجال واسع للغاية لتحسين الإنتاجية والتنافسية من خلال عدد كبير من الإجراءات.

ثالثا: ينصرف جانب كبير جدا من المنافسة التوزيعية في الاقتصاد الكوكبي البازغ إلى اجتذاب الاستثمارات الأجنبية بشرط أن تتمتع بكون تكنولوجي وتنظيمي وفرص عمل كبيرة، وضمان توسيع فرص التعلم والاحتكاك وخاصة من خلال صور مختلفة للمشاركة في ملكية وإدارة المشروعات ذات المكون الأجنبي. ويتحقق ذلك على نحو أفضل مع القوى الصاعدة الجديدة في الاقتصاد الكوكبي، والتي لديها دوافع أكبر في نقل أنشطة البحث والتطوير التكنولوجي إلى الدول المضيفة، أي في هذه الحالة إلى الوطن العربي.

رابعا: ومع ذلك فإن جوهر المنافسة التوزيعية هو التسابق حول الحصول على فرص أفضل للنمو الاقتصادي. والقلب المحرك لفرص النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني هو البشر من ناحية، والتكنولوجيا من ناحية أخرى.

وتلعب التكنولوجيا والثورات المتعاقبة في مضمارها الدور الرئيسي في التكيف الاقتصادي الهيكلي وفي المنافسة والسباق العالمي. ولا تبدو ثمة أدنى إمكانية لتعظيم المصالح القومية الاقتصادية للوطن العربي دون تحقيق قفزة جبارة في الاهتمام بمسألة التطور التكنولوجي فيه. وبينما يستطيع العرب حفز التطور التكنولوجي من خلال آليات خارجية، وخاصة آليات النقل الحقيقي للتكنولوجيا، فإن مستقبلهم في هذا المضمار، وفي غيره، ينهض أساسا على التنمية التكنولوجية الوطنية والقومية.

ويمكننا أن نساوي من دون أدنى مبالغة بين المعنى والدلالة الحديثة لمبدأ القومية الاقتصادية من ناحية والتنمية التكنولوجية من ناحية أخرى. فبينما استندت الوطنية والقومية الاقتصادية التقليدية على الحماية الإدارية والجمركية، فإنه لن يكون لهما أي دلالة حقيقية أو فعالية تذكر دون الولوج بقوة شديدة إلى مجال التنمية التكنولوجية الوطنية والقومية.

والواقع أن هذه المسألة هي القاسم المشترك بين القومية العربية في المجالين السياسي والاقتصادي معا. ولا نحتاج لسرد براهين طويلة للقول بأن الأمن القومي العربي ينهض فوق كل شيء على التنمية التكنولوجية القومية، وخاصة في الميدان العسكري. فلا شك أن السبب الرئيسي وراء تدهور موازين القوى بين العرب وإسرائيل هو الفارق في مستويات التطور التكنولوجي: بصفة عامة، وفي المجال الدفاعي بالذات.

وبالتالي، فإن ثمة حافزا مزدوجا للنهوض القوي بأنشطة البحث والتطوير العربية، الأول هو المنافسة حول فرص النمو في الإطار العام لعملية الكوكبة الاقتصادية، والثاني هو ضرورات الأمن القومي والدفاع العسكري الفعال.

خامسا: وبالارتباط مع كل المسائل السابقة: تظهر ضرورة حاسمة لوضع استراتيجيات نمو وتطور جديدة في العالم العربي، ترتكز أساسا على مفهوم التنمية البشرية. فالفوارق بين تنافسية وإنتاجية الأمم ومعدلات تطورها بالذات تتفق تمام الاتفاق مع الفوارق في المستويات المتحققة للتعليم والصحة وتدريب وتنظيم القوى العاملة والتطور في الهيكل المهاري للسكان. وهو ما يرتبط أيضا بأنشطة البحث والتطوير التكنولوجي.

ويحتاج الوطن العربي بصورة حاسمة من أجل تأمين مستقبله الاقتصادي والسياسي إلى التركيز على التنمية البشرية. حيث صارت معظم الدول العربية، وخاصة الأقل غنى، من بين أقل دول العالم إنجازا في مؤشرات التعليم والصحة والحقوق الإنسانية للسكان، كما يظهر بوضوح من تقرير التنمية البشرية في العالم الذي يصدره البنك الدولي. ولا نبالغ إذا أكدنا أن كل فكرنا السياسي والاقتصادي يجب أن يتركز حول هذه المسألة. فبينما قامت الحكومات بجهد أساسي في نشر صور التنمية البشرية، فإن اهتمامها الأكبر بملكية وإدارة مشروعات اقتصادية لم تكن كلها ناجحة أو ناجعة قد قلل من قدرتها على الاستثمار في أنشطة التعليم والصحة الثقافة والرياضة وتدريب قوة العمل ، والإنفاق على أنشطة البحث والتطوير التكنولوجي. وقد يصبح من المحتم في بلاد عربية عديدة أن تتم عملية كبيرة لإعادة صياغة دور الدولة بحيث تركز على التنمية البشرية في مقابل تخففها من أعباء إدارة مشروعات اقتصادية والاستثمار على جبهة واسعة من الفروع والمنتجات الاقتصادية من خلال سياسة عملية للخصخصة.

سادسا: إن المظهر المميز للوطن العربي في ذلك كله هو إمكان تحقيق معنى الاندماج الكامل بين الوطنية الاقتصادية التي تنصرف دلالتها إلى الدول فرادى والقومية الاقتصادية التي تنصرف دلالتها إلى الوطن العربي ككل.

فمن الملاحظ أن عملية الكوكبة الاقتصادية لم تقلل قوة الدفع لتكوين تكتلات تجارية واقتصادية على مستويات جغرافية محددة مثل الاتحاد الأوربي ومنطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. ومنطقة التجارة الحرة لدول الباسيفيكي، وغيرها.

وتتعاظم الحاجة لتكوين تكتل تجاري واقتصادي عربي بالنظر إلى أن قدرات كل دولة عربية منفردة قد لا تؤهلها للمضي قدما في المنافسة الفعالة على المستوى الكوكبي.

وقد طور الوطن العربي هيكلا قانونيا معقدا للعمل المشترك في المجال الاقتصادي، بدءا من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية لعام 1950، مرورا باتفاقية إنشاء السوق العربية المشتركة لعام 1964 وميثاق التضامن الاقتصادي القومي عام 1980 واتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية لعام 1982 وغيرها من الاتفاقات.

والمشكلة أن أياً من هذه الأطر لم ينفذ ولم يدخل حيز التطبيق إلا على نحو هامشي للغاية. وبينما كانت الدوافع الأساسية للعمل العربي المشترك خلال أربعين عاما ونيف مضت سياسية ، فإنها الآن قد تحسم أيضا المصير الاقتصادي للمواطن العربي.

بل وقد لا يكون من الممكن تطبيق استراتيجية هجومية للدفاع عن المصالح الاقتصادية للدول والأقطار العربية فرادى إلا من خلال عمل قومي متكامل في المجال الاقتصادي.

 

محمد السيد سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات