الإمام المتنور.. والتجديد بالإسلام محمد عمارة

الإمام المتنور.. والتجديد بالإسلام

إن الذين يخلطون بين "التجديد الإسلامي" - وهو تطوير وتجدد من داخل النسق الإسلامي، ملتزم بثوابته وفلسفته ومبادئه ومقاصده - و"التنوير - الغربي - العلماني" - الذي يقيم قطيعة مع الدين، عندما يعزله عن شؤون الدولة والاجتماع الإنساني والعمران البشري، مكتفيا بعالم الشهادة والعقل والتجريب -، إن الذين يخلطون بين هذين النمطين من أنماط الإحياء والتقدم والنهوض، يمعنون في خلط الأوراق عندما يضعون أعلام التجديد الإسلامي، ومنهم - بل وفي مقدمتهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1265 - 323 هـ / 1849 - 1905 م) - عندما يضعونه في سلة واحدة مع "النخبة" التي رأت أن نهضتنا الحديثة مرهونة بإدارة الظهر لخصوصيتنا الحضارية، وبتبني النموذج الغربي في النهوض والتحديث والإحياء. فنراهم يضعون تراث محمد عبده مع فرح أنطون (1291 - 1340 هـ / 1874 - 1922 م) وشبل شميل (1276 - 1335 هـ / 1860 - 1917 م) وإسماعيل مظهر ( 1308 - 1381 هـ / 1891 - 1962 م) ولطفي السيد (1289 - 1383 هـ / 1872 - 1963 م) وسلامة موسى (1305 - 1377 هـ / 1888 - 1958 م) وأمثالهم من الذين دعوا إلى "استقلال" أمتنا عن ماضيها وعن محيطها ، وإلى التحاقها بأوربا ، زاعمين أن "العقل: يوناني و الحضارة: متوسطية - أوربية، والطريق إلى النهضة واحدة لا تعدد فيها، وهي أن نسير سيرة أوربا في "الحكم" و"الإدارة" و"التشريع"، فإسلامنا، كالنصرانية الأوربية، دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالسياسة أو الحكم، وقرآننا كالإنجيل مجرد "بلاغ" لا علاقة له ب "الشريعة" الحاكمة في شؤون الدولة والعمران، وتاريخنا في الدولة، كتاريخ أوربا: استبداد حكم فيه الخلفاء بالحق الإلهي، كالبابوية الأوربية، ومن ثم فإن " التنوير - الغربي - العلماني " هو " الحل " لمشكلاتنا التي ضاهت وماثلت مشكلات التخلف الأوربي ؟!.

يخلط "تلامذة" " التنوير - الغربي - العلماني " أوراق مشاريع " التحديث " "في عصرنا الحديث، عندما يصورونها مشروعا واحدا، يسوقون في الحديث عن دعاته أسماء أعلام " التجديد الإسلامي " مع أعلام " التغريب " والتحديث على النمط الغربي، مع أن هذه القضية لم تكن على هذا النحو من "خلط الأوراق" عند جيل " الرواد " من دعاة النهضة والإحياء والتحديث، سواء منهم " المجددون الإسلاميون " أو الذين دعوا إلى تبني النموذج الغربي في النهوض. فمحمد عبده، الذي مثل أبرز عقول التجديد الإسلامي في عصرنا الحديث، لا نبالغ إذا قلنا إن خيطا ملحوظا ومتصلا قد امتد عبر كل مشروعه الفكري ليبرز تميز مشروعه النهضوي والتجديدي عن النموذج الغربي في التحديث، وذلك انطلاقا من تميز إسلامنا عن نصرانية أوربا ولاهوت كنيستها، ومن تميز تطورنا الحضاري عن تاريخ الغرب في التطور الحضاري، ويكفي - مراعاة للمقام - أن نضرب على ذلك الأمثال:

لقد خصص محمد عبده واحدا من أهم أعماله الفكرية "كتاب" ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) ليقيم فيه الأدلة على تميز، بل وتناقض أصول الإسلام مع أصول النصرانية، كما عرفها الغرب واللاهوت الكنسي الأوربي، وعلى تمايز بل وتناقض الخلافة الإسلامية مع البابوية ودولتها الثيوقراطية وسلطتها الدينية، وعلى تميز الإسلام بالعقلانية التي لم تعرفها النصرانية، وعلى تميز الإسلام بل وتناقضه في موقفه من العلم والعلماء - فكرا وتاريخا - عن النصرانية في هذا الميدان، فجاء هذا الكتاب بيانا لتميز المشروع الإسلامي النهضوي عن النموذج الغربي في الإحياء والتحديث. ولم يستطع الدكتور طه حسين (1306 - 1393 هـ / 1889 - 1973) - وهو من أبرز دعاة السير سيرة الأوربيين في " الحكم " و" الإدارة " و" التشريع "، بدعوى أن عقلنا يوناني وحضارتنا أوربية وليست شرقية، وبزعم أن إسلامنا ولغتنا العربية لا يصلحان أن يكونا من مقومات بناء الدول، كما لم تصلح النصرانية لذلك في النموذج الأوربي!. لم يستطع الرجل أن يخلط أوراق محمد عبده بأوراق الداعين للسير وراء النموذج الغربي في التقدم والتحديث، فأعلن أن مشروع محمد عبده في التوفيق بين العلم والدين " لم يعد مواكبا للعصر ، ولقد صارت كل أفكار محمد عبده بشأن العلم والدين بالية، بل إن مذهب محمد عبده هذا ، في حد ذاته ، لم يكن صالحا للبقاء، " ؟ ! . . وتحدث عن "الاندفاع نحو الحضارة الغربية بابتهاج - (؟ !) - واتخاذها مثلا أعلى - (؟ !) - والنظر إلى آراء محمد عبده باعتبارها الآراء التي يتمسك بها " المحافظون ".. بل " المتخلفون"؟!

فطه حسين يميز مذهبه - في مرحلة انبهاره بالنموذج الغربي - عن مذهب محمد عبده.. ويقول: إن السبيل هو " الاندفاع نحو الحضارة الغربية.. باعتبارها المثل الأعلى" ؟!.. بدلا من مشروع محمد عبده، الذي رآه متخلفا وباليا وغير صالح في ذاته، ولا يتمسك به إلا المتخلفون؟!..

فإذا كان هذا هو موقف طه حسين، في صراحة التمييز بين "تجديد" محمد عبده وتبني النموذج الغربي، كمثل أعلى، وسبيل وحيد لنا في " الحكم " و" الإدارة " و" التشريع ".. فما بال "تلامذة" طه حسين يجتهدون في إجهاد الحقيقة فيخلطون الأوراق.. ليس فقط أوراق محمد عبده بأوراق طه حسين، وإنما أوراق " المجددين الإسلاميين " بأوراق سلامة موسى وفرح أنطون وشبلي شميل وإسماعيل مظهر ولطفي السيد، وغيرهم من دعاة " التنوير - الغربي - العلماني "، والذين احترف بعضهم الدعوة إلى الإلحاد.. وسوى بعضهم بين " الجامعة الإسلامية " وبين الاستعمار الإنجليزي والفرنسي.. ورأى بعضهم في الرابطة الشرقية سخافة، وفي الرابطة الدينية وقاحة يجب أن يترفع عنها أبناء القرن العشرين؟!..

وغير اجتهاد محمد عبده التمييز بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب في الموقف من علاقة الدين بالعلم.. نجد رفضه الصريح للنموذج الحضاري الغربي، لماديته التي ناقضت وتناقض الوسطية الإسلامية الداعية إلى الجمع ما بين المادة والروح.

ونحن نسأل، في عجب، أولئك الذين يضعون محمد عبده في سلة الذين رأوا أن نهضتنا لا سبيل لها إلا تبني نموذج الغرب في المدنية والإحياء.. ألم يقرءوا نقد محمد عبده لهذه المدنية الغربية، ورفضه لماديتها.. والذي يقول فيه: " إن هذه المدنية هي مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو " الجنيه " عند قوم، و " الليرة " عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك "!

وكيف يوضع محمد عبده ضمن الذين دعوا إلى النهضة ب " التنوير - الغربي "، وهو الذي علق على حيرة الفيلسوف الإنجليزي "سبنسر" (1820 - 1903) - عندما لقيه في سنة 1903 م - وتشاؤمه من نتائج المادية المتفشية في أوربا، حتى لقد "محي الحق من عقول أهل أوربا بالمرة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض لتتبين أيها الأقوى ليسود العالم. أو ليكون سلطان العالم"! - وهي النبوءة التي حققتها الحروب الكونية الاستعمارية الأوربية، والصراعات والهيمنة القائمة حتى الآن.. ! .. ولقد علق الأستاذ الإمام، متعجبا، من عجز " فلاسفة التنوير الغربي" عن اكتشاف العلاج الروحي في الدين.. والذي لا علاج سواه من هذا الذي أصابهم بالقنوط.. فقال، متعجبا: "هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرا مما يفيد في راحة الإنسان وتوفير راحته، وتعزيز نعمته، أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان، ويعرضوها على الإنسان، حتى يعرفها فيعود إليها. هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحي؟.

حار الفيلسوف -"سبنسر" - في حال أوربا، وأظهر عجزه، مع قوة العلم!. فأين الدواء؟.. الرجوع إلى الدين.. الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها "! لقد عرض لـ " الداء " الأوربي.. داء التقدم المادي، المفرغ من روحانية الدين، بسبب علمانية ومادية ووضعية " التنوير - الغربي ".. ثم قطع بأن الدين هو الدواء.. أفبعد هذا يقال إن مشروعه النهضوي كان هو مشروع الذين دعوا إلى عزل الدين عن العمران، والاكتفاء بالعقل والتجريب، لأن الدين لا يصلح أن يكون من مقومات الدولة، ولا أن يكون صديقا للعلم، ومن ثم فإن رابطته وجامعته ردة عن الوطنية، ووقاحة لا تليق بأبناء القرن العشرين؟!، أفي هذه " السلة " - ولا نقول " المستنقع "! - يضع منصف - أو عاقل! - الأستاذ الإمام؟!

وليس فقط النقد والرفض لواقع النموذج الأوربي الحديث والمعاصر، وإنما أيضا النقد والرفض لنموذجها التاريخي المتميز بالكهانة والبابوية والدولة الثيوقراطية، والحديث عن تميز الإسلام، ونموذجه التاريخي عن هذا النموذج " النصراني - الغربي "، ومن ثم خطأ دعاة " التنوير- الغربي " من أبناء جلدتنا، الذين حاولوا تصوير تاريخنا على نمط التاريخ الغربي، ليوهمونا بوحدة " المشاكل " تمريرا لدعوتهم إلى وحدة " الحلول " ؟!.

يرفض محمد عبده ذلك، ويتحدث عن رفض الإسلام للكهانة وللسلطة الدينية. التي تميز بها التاريخ الأوربي، والتي لم يعرفها التاريخ الإسلامي، فيقول: " إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوربا. فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم، والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الإفرنج " ثيوكرتيك "، أي سلطان إلهي.. فليس للخليفة - بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام - أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة يتناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي، فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه، بل إن قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجل أصول الإسلام "!

فهو هنا ينفي تماثل الشرق والغرب في التطور التاريخي، ويؤكد تميز تاريخنا، بسبب تميز الإسلام.

وهو لا يدع مجالا لمن يتوهم أن انتفاء " السلطة الدينية " عن الإسلام تعني انتفاء علاقته ب " السلطة.. والدولة.. ونظام الملك.. والاجتماع. . والعمران " الأمر الذي يفتح الباب أمام المسلمين لعلمانية التنوير الغربي ، التي عزلت الدين عن هذه الميادين.

لا يدع الأستاذ الإمام مجالا لهذا الوهم، فيبادر بالتأكيد على أن الإسلام عندما يرفض " السلطة الدينية "، فإنه يرفض اعتزاله للسلطة والدولة، لأنه ليس نصرانية تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. وإنما هو دين وشرع، أي دين ودولة وسياسة وعمران، فهو لا يقف عند " الاعتقاد الفردي "، كالنصرانية، وإنما هو نظام للفرد، والأسرة، والدولة جميعا، وبعبارة الأستاذ الإمام فإن الإسلام: " كمال للشخص، وألفة في البيت، ونظام للملك.."، وهو جامع لذلك بالوسطية، التي تجمع الدين والدولة والعمران، واقفة بالعلاقة بينهما دون" كهانة السلطة الدينية وثيوقراطيتها " وفوق " العلمانية " التي تفصل الدين عن العمران، فالوسطية هي مذهب الإسلام الذي ميز نظامه عن كل من " الثيوقراطية " و" العلمانية " كليهما، وفي تقرير هذا المذهب الإسلامي، في " إسلامية الدولة والعمران "، يقول الأستاذ الإمام: لقد " ظهر الإسلام، لا روحيا مجردا، ولا جسديا جامدا، بل إنسانيا وسطا بين ذلك، آخذا من كل القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره، ولذلك سمى نفسه: دين الفطرة. وعرف له ذلك خصومه اليوم: وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية. إن الإسلام دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا، ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد، وهو السلطان أو الخليفة، والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله، فكان الإسلام: كما لا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه .. "

ولست أدري - بعد هذا الحسم والوضوح في موقف الإسلام من السياسة والدولة والعمران، والذي جعله " المدرسة الأولى للرقي على سلم المدنية "، و " الدين.. والشرع "، الذي تقتضي حكمة " تشريعه " وجوب قيام " سلطة تنفيذية " تنفذ أحكام " السلطة القضائية " التي تقضي " بشريعته "- وهي سلطة " الخلافة ".. الأمر الذي ضمن للإسلام بوسطيته الجامعة، أن يكون " كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك ".. حتى لقد " ميز الأمة والحضارة والتاريخ " لمن تدين به عن نظائرها لدى الذين لم يدخلوا فيه.

لست أدري، بعد هذا الموقف الحاسم والواضح، كيف يجوز لعاقل ومنصف أن يضع الأستاذ الإمام، صاحب هذا الموقف، في سلة واحدة مع دعاة " التنوير - الغربي - العلماني ".. من أمثال علي عبدالرازق، الذي قال: " يا بعد ما بين السياسة والدين " ؟!.. وطه حسين، الذي نفى صلاح الدين لأن يكون مقوما للدولة، أو أن يكون له مدخل في السياسة؟!.. فضلا عن سلامة موسى الذي رأى في الرابطة الدينية وقاحة يجب أن يأنف منها ويبرأ أبناء القرن العشرين؟!.

وهذا النفر من دعاة " التنوير - الغربي - العلماني "، الذين أوهموا الناس أن دعوتهم إلى إحياء تراث " التنوير " إنما هي " لمواجهة المشروع الإسلامي الداعي إلى إسلامية النهضة والدولة والمعرفة والعمران " بلغت بهم الجرأة حد تقديم اسم الأستاذ الإمام كواحد من الذين يتصدى تراثهم ومشروعهم النهضوي لـ " إسلامية النهضة والمعرفة والعمران ".. مع أن الرجل كان في طليعة الذين واجهوا النموذج الغربي في التحديث - وهو نموذج وضعي - علماني - وقدموا بديلا عنه: النموذج الإسلامي للإحياء والتقدم، وهو الذي يتميز عن النموذج الغربي بالدعوة إلى " إسلامية النهضة "، وفي كل الميادين؟!

إن كل الدعاة المعاصرين إلى إحياء الأمة بالإسلام، وتجديد دنيانا بدين الإسلام، وصبغ نهضتنا بصبغة الإسلام واختيار الإسلام مرجعية لهذه النهضة العربية والإسلامية المنشودة ، إن كل الدعاة إلى هذا المشروع الإسلامي في النهضة والتقدم والإحياء، إنما هم الأبناء الشرعيون لفكر وتراث ومشروع الأستاذ الإمام، ويكفي برهانا على هذه الحقيقة - التي لم نكن نظن أنها في حاجة إلى برهان - أن نتأمل وهذه الكلمات للأستاذ الإمام، والتي يقول فيها إن الإسلام هو السبيل لأي إصلاح يمكن أن يكتب له الفلاح في دنيا المسلمين يقول: " إن أهل مصر قوم أذكياء، يغلب عليهم لين الطباع، واشتداد القابلية للتأثر. لكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية، وهي: أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة، دون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما العيب على الباذر. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعا فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرا غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا ينبت، ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك ما شوهد من أثر التربية التي يسمونها أدبية، من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادا - وإن قيل إن لهم شيئا من المعلومات - فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية على أصول دينهم فلا أثر لها في نفوسهم. إن سبيل الدين، لمريد الإصلاح في المسلمين، سبيل لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلى إنشاء بناء جديد، ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا. وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة فيه ما ليس لهم في غيره، وهو حاجز لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث مالا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟! " إننا إذا تأملنا هذه النصوص للأستاذ الإمام.. ورأينا كيف رفع لمشروعه النهضوي شعارا يقول: " إن سبيل الدين، لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها، لأن نفوسهم قد أشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعا فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرا غير صالح للتربة التي أودعه فيها ". وإذا نحن تذكرنا كلمات جمال الدين الأفغاني.. عن ذات الموضوع - سبيل الإصلاح الإسلامي - التي يقول فيها: " إن الدين قوام الأمم، وبه فلاحها، وفيه سعادتها، وعليه مدارها.. وهو السبب المفرد لسعادة الإنسان السعادة الكاملة والنعيم الكامل.. يذهب بمعتقديه في جواد الكمال.. ويصعد بهم إلى ذرة الفضل.. ويرفع أعلام المدنية لطلابها.. "

ثم استحضرنا عبارات الطهطاوي التي يقول فيها: " إن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقي والرأي.. ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع ".

ثم قارنا ذلك بمذاهب " التنوير - الغربي - العلماني " في عزل الدين عن الدولة والعمران، وإحلال العقل والعلم والفلسفة محل الله والدين، وإقامة المعرفة الإنسانية على العقل والتجريب وعالم الشهادة مع استبعاد الوحي والغيب والوجدان من مصادر المعرفة وسبل إدراكها.. إذا نحن صنعنا ذلك أدركنا، يقينا، أننا بإزاء مشروعين للإحياء والنهضة والتحديث: مشروع التجديد الإسلامي.. للنهضة والإصلاح والإحياء بالإسلام، كمرجعية تفجر في الأمة كل الطاقات الإبداعية في كل الميادين، وله أعلامه الذين مثلوا مناراته الحديثة منذ الطهطاوي وحتى هذا التاريخ. ومشروع " التنوير - الغربي - العلماني "، الذي جاءنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الحديثة، فانبهر به من انبهر من مفكرينا ومثقفينا، كاجتهاد خاطئ تم العدول عنه في مرحلة النضج، أو كعمالة حضارية من الكارهين لبديله المتمثل في الإسلام!. فهما مشروعان للتحديث والإحياء والتقدم.. وليس مشروعا واحدا - " للتنوير " - كما زعم ويزعم الذين خلطوا الأوراق، فحشروا " التجديد الإسلامي " في زمرة " التنوير - الغربي - العلماني ".

 

محمد عمارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




محمد عبده