فضيلة الشعر مقصورة على العرب! جابر عصفور

فضيلة الشعر مقصورة على العرب!

اشتركت منذ أسابيع في ندوة عن ترجمة الشعر. كان أول ما طرأ على خاطري، حين أخذت أتكلم عن ترجمة الشعر، عبارات الجاحظ الشهيرة التي وردت في كتابه "الحيوان"، والتي تقول: "إن الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب فيه، لا كالكلام المنثور". وأول ما استرجعت من دلالات عبارات الجاحظ، في سياق الحديث، هو معناها النقدي الذي ينزل ترجمة الشعر منزلة فعل الخيانة الذي يكشف سر الأصل، والذي لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة ما يخون إلا بضرب من الخلق الذاتي الذي يوازي فيه النص المترجم في اللغة المنقول إليها النص الأصلي في اللغة المنقول عنها. وكانت استحالة ترجمة الشعر، من منظور هذا المعنى، مرتبطة بنظمه الفريد الذي لا بد أن يختل عند الترجمة، على نحو ما نص الجاحظ، الذي كان حاسما في قوله "إنه متى تحول الشعر عن لغته تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب فيه". وتلك عبارات تجمع بين النظم والوزن في قران واحد، وترد الحسن إلى النظم بالقدر الذي ترده إلى التصوير، جاعلة منهما المبدأ الذي يرجع إليه سر التعجب أو سر اللذة التي يخلفها الشعر في نفوس المتلقين له. ويعني ذلك أن هذه العبارات تؤكد تميز الشعر عن النثر في السياق البلاغي لكتابات الجاحظ، وتؤكد تقديره للخاصية النوعية للشعر، من حيث هي خاصية تؤكد حضور النظم والتصوير اللذين يتقوم بهما الشعر من حيث هو قيمة جمالية، ويتميز بهما على ما عداه من أنواع الكلام، فيجاوز تصورات اللغويين والوعاظ الذين حسبوه مجرد صياغة موزونة للأفكار والمعاني.

وليس الجاحظ وحده

ولكن عبارات الجاحظ لا تحتمل هذا المعنى النقدي وحده، فهناك معان عدة يمكن أن تتداخل مع هذا المعنى النقدي، أو تلتبس به، أو تعكر على قيمته البلاغية الصافية. وأهم هذه المعاني معنى قومي يتصل بفخر الجاحظ الدائم بالعروبة، في مواجهة طوائف الشعوبية، وهو فخر دفعه إلى تصور أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب وحدهم، وعلى من تكلم بلسانهم، وأن هذه الفضيلة ترجع إلى خصائص ذاتية لا تعرفها لغة سوى العربية، ولذلك كان شعرها غير قابل للترجمة إلى لغة أخرى. ويرتبط بهذا المعنى القومي، ولكن على نحو مختلف في الاتجاه، معنى آخر يتصل بنظرية الترجمة، أو ما نسميه هذه الأيام في الرطان المعاصر "علم الترجمة" حينا أو "شعرية الترجمة" حينا ثانيا، أو "نظرية الترجمة" حينا أخيرا. وذلك معنى ينتقل بنا من الممارسة إلى التنظير، ومن فعل الترجمة إلى الوعي بهذا الفعل، من حيث خصائصه وحدوده وأبعاده وطرائقه وشروطه. إلى آخر ما يمكن أن يعالجه العلم الذي يجتلي نفسه في مرآته الذاتية، خاصة حين يتحول من "علم" ينشغل بوقائعه المباشرة المحسوسة أو الملموسة أو المتعينة إلى علم شارح ينشغل بنفسه من حيث هو علم يتعقل وعيه الذاتي الذي تتأسس به فلسفة العلم. واقتصر هذه المرة على المعنى القومي لعبارات الجاحظ. من حيث سياقها الذي يومئ إليه ما تنطوي عليه العبارات من فخر عرقي، قاده إلى تصور أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب دون غيرهم من الأمم. ولم يكن الجاحظ، بالطبع، يجهل أن لأمة اليونان شعراءها الكبار، شأنها شأن أمة الهند أو الفرس أو غير هاتين من الأمم التي سمع عنها وقرأ ما ترجم من ميراثها، على نحو ما أشار في كتبه أو تحدث في رسائله. لكنه في الوقت الذي كان يسلم فيه ببلاغة الأمم غير العربية في المنثور من الكلام، خاصة على مستوى الكتابة، لم يكن يسلم إلا لأمة العرب وحدها بفضيلة الشعر الذي رآه فخرها وعلامة مجدها البلاغي الخاص.

ولنلاحظ ، ابتداء، أن هذا النوع من الفخر لم يكن مقصورا على الجاحظ وحده مع أنه بدأ به فيما أعلم، فقد مضى غيره من العلماء في الاتجاه نفسه، متابعين للجاحظ فيما يبدو، متأثرين مثله بحماسة الرد على دعاوي الشعوبية، ومضيفين إلى كلامه مغزى دينيا لم يقصد إليه، فذهبوا إلى أن الأعاجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب الذين ظل كلامهم في المرتبة العليا من الفصاحة، بالقياس إلى غيره، لما فيه من وحي وإشارات واستعارات ومجازات. هكذا تحدث ابن قتيبة في القرن الثالث للهجرة عما خص الله به العرب من العارضة والبيان واتساع المجاز، وقال إنما يعرف فضل القرآن من فهم مذاهب العرب واقتنائها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصيصة من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعل علمه من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه، وهو البلاغة وقوة العارضة، فقد كان الخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما، لم يأت به من واد واحد. بل يفتن، فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام. ويكرر تارة إرادة التوكيد. ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين، ويشير إلى الشيء، ويكني عن الشيء وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام. وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي أقصى طوق اللسان، فيما يقول ابن قتيبة الذي ظن أن ألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين حرفا، كما ظن أن العرب متفردة بالمجازات في الكلام. ولقد ذهب ابن وهب صاحب كتاب البرهان في وجوه البيان إلى القول بأن الاستعارة إنما احتيج إليها في كلام العرب لأن ألفاظهم أكثر من معانيهم، وليس هذا في لسان غيرهم. وذهب ابن فارس، في القرن نفسه، إلى أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها، وأن في قوله تعالى من سورة الشعراء وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ما خص اللسان العربي بالبيان، وأكد أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه. والدليل العقلي على ذلك، في حجاج ابن فارس، أننا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرها من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذلك؟ وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟ هذا مالا خفاء به على ذي نهية "عقل". ويضيف ابن فارس ما سبق أن ذكره ابن قتيبة من أن للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير وغيرها من سنن العربية في القرآن مالا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله عز وجل بالعربية، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب. وتلك أقوال جعلت ابن رشيق، في القرن الخامس للهجرة، يذهب إلى أن الاستعارة هي من اتساع العرب في الكلام اقتدارا ودالة، وليس ضرورة، لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم: وليس في ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فإنما استعاروا مجازا واتساعا. ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة وهم يستعيرون له مع ذلك.

الجرجاني وآخرون

ويضيف السيوطي في كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها إلى أمثال ذلك ما ينقله عن الفارابي في كتابه ديوان الأدب من أن اللسان العربي كلام أهل الجنة، وهو المنزه من بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى من كل خسيسة، والمهذب مما يستهجن، أو يستصنع. وأن العرب تميل عن الذي يلزم كلامها الجفاء إلى ما يلين حواشيه ويرقها. وقد نزه الله لسانها عما يجفيه، فلم يجعل في مباني كلامها جيما تجاورها قاف متقدمة ولا متأخرة، أو تجامعها في كلمة صاد أو كاف، إلا ما كان أعجميا أعرب، وذلك لصلابة هذا اللفظ، ومباينه ما أسس الله عليه كلام العرب من الرونق والعذوبة. ويضيف السيوطي ما سبق أن أكده الزمخشري في كتابه "ربيع الأبرار" من أنه لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب، وهي من مفاخرها. وينقل عن المطرزي ما ردده من أن الله سبحانه وتعالى اختص العرب بأربع: العمائم تيجانها، والحب حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها. وقال: إنما قيل: الشعر ديوان العرب، لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم، ومعدن أخبارهم. ولهذا قيل:

الشعر يحفظ ما أودى الزمان به

والشعر أفخر ما ينبي عن الكرم

لولا مقال زهير في قصائده

ما كنت تعرف جودا كان في هرم .

صحيح أنه وجد من بين علماء العرب من أنكر هذا الفخر الجاهل بحقائق اللغات، وذلك ابتداء من عبدالقاهر الجرجاني الذي ذهب إلى أن المجاز موجود في كل اللغات، وأنه لا يميز لغة عن أخرى، وأن اللغة العربية مثل غيرها من اللغات في خصائص المجاز والتقديم والتأخير والحذف والوصل. وقد تعلم عبدالقاهر مما وصل إليه مترجما من كتابات أفلاطون وأرسطو عن الشعر والبلاغة، أن لكل أمة من الأمم بلاغتها، ولليونان شعرها الذي حاول أرسطو أن ينظر له فيما كتبه عن "فن الشعر" بعامة، وخطابتها التي لا تخلو من مجاز تأثر به العرب فيما كتبوا بعد ذلك. وقال عبدالقاهر كلماته الحاسمة التي تؤكد أن المجاز أمر يستوي فيه العربي والعجمي، وتجده في كل جيل، وتسمعه من كل قبيل، فالوجه أن يضاف إلى العقلاء جملة، ولا تستعمل لفظة توهم أنه من عرف اللغة العربية وطرقها الخاصة. وذلك فهم رحب للطبيعة الإبداعية للغات الشعوب، نقلها ابن خلدون عن عبدالقاهر من تأثروا به، فأكد في مقدمته أن الشعر لا يختص باللسان العربي لأنه موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو أعجمية، وقد كان في الفرس شعر، وفي اليونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أو هوميروس الشاعر وأثنى عليه فيما يقول ابن خلدون. ولست في حاجة إلى تأكيد أن هذه النظرة الموضوعية من عبدالقاهر وابن خلدون انبنت على علم حقيقي بحقائق اللغات. وعلى وعي متطور بعمليات المقارنة بين الآداب المختلفة. وهي تخلو من الفخر الأجوف الذي يؤمن بنقاء العرق والأفضلية المطلقة للجنس، الفخر الذي يسقط أفعل التفضيل من الدين على اللغة، ويخلط بين ما هو ديني إلهي وبشري دنيوي، تأكيدا لنزعات عرقية، هي تعبير سياسي اجتماعي بشري في آخر المطاف.

وأحسب أن تداخل البعد السياسي الاجتماعي والبعد الفكري هو الذي دفع إلى ترجمة التراث القصصي للأمم السابقة على العرب دون الشعر، وذلك لما وجده المترجمون في هذا التراث من إمكان الوفاء بحاجات فكرية ومطالب سياسية ودعاوي اجتماعية حرصوا على توصيلها من وراء أقنعة الترجمة. وكما ترجم ابن المقفع "كليلة ودمنة" ترجمة كانت نوعا من إعادة التأليف الذي يؤكد معاني خطرة، وينطلق خطابا مسكوتا عنه من أهداف قصد إليها ابن المقفع قصدا، ولم يستطع التعبير المباشر عنها، كانت "ألف ليلة وليلة" ترجمة تأليفية موازية، تؤدي من الأغراض ما يكمل المرامي الكامنة وراء ترجمة "كليلة ودمنة" في لغة النثر التي اقترنت بخطاب العقل والحكمة التي أصبحت نقيض الشعر "ديوان العرب" القديم.

ومع ذلك فقد وجد من بين القدماء، خاصة من أصحاب الاتجاه النقلي، من رفض ترجمة أمثال "كليلة ودمنة" وغيرها من آداب الهند والفرس، محتجا على ذلك بما ذهب إليه ابن قتيبة من أن الشعر العربي هو مصدر الحكم المضارعة لحكم الفلاسفة اليونان والمتفوقة عليها، وأن هذا الشعر هو علم العرب الذي هو، وحده، العلم الظاهر للعيان، الصادق عند الامتحان، فللعرب دون غيرهم الحكمة وفصل الخطاب. وأصحاب هذا المذهب هم الذين رددوا ما قاله الشافعي من أن الناس ما جهلوا ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس. ومضوا في تسفيه صنيع الفارابي وابن سينا وغيرهما ممن أضلهم أفلاطون وأرسطو وغيرهما من حكماء اليونان. وانتهى أصحاب هذا المذهب إلى أنه ما من كلمة تؤثر عن الأمم السابقة على العرب. ولا قول يسطر، ولا معنى يجير، إلا وللعرب مثل معانيه، محصورا بقوافيه، موجزا في لفظه، مختصرا في نظمه. ومن ثم فليس العرب في حاجة إلى الترجمة، وبخاصة ترجمة الشعر، فشعرهم ينطوي على كل ما يغنيهم ويحول بينهم والحاجة إلى غيرهم من أبناء الأمم الأخرى. وقد وصل الأمر بواحد من أصحاب هذا المذهب المتأخرين. هو محمد بن حسين اليمني، إلى تأليف كتاب، حققه الدكتور محمد يوسف نجم، بعنوان "مضاهاة أمثال كتاب كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب" ليثبت أن كل شيء في "كليلة ودمنة" حواه شعر العرب الذي هو القول الفصل والحكمة الأخيرة.

ويعني ذلك كله أن النظرة الموضوعية المقارنة التي تميزت بها كتابات أمثال عد القاهر وابن خلدون لم تكن هي النظرة السائدة تراثيا، فقد سيطرت النظرة المناقضة التي رفعت اللغة العربية فوق كل اللغات، ووضعت مجازات العرب فوق كل المجازات، وخصت العرب دون غيرهم بالفصاحة والبلاغة، وجعلت الشعر في الذروة من هذه الفصاحة والبلاغة، ومن ثم ظل ما جزم به لجاحظ، في القرن الثالث للهجرة، من أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب ومن تكلم بلسان العرب، هو القول المأثور الذي يردده أغلب الكتاب في التراث، بالقدر الذي يرددون به قول الجاحظ عن استحالة ترجمة الشعر الذي لا يمكن تحويل خصائصه العربية الخالصة إلى لغة أخرى.

إدراك متأخر

والمفارقة اللافتة للانتباه في هذا المجال أن حماسة الجاحظ العقلاني في الدفاع عن الشعر العربي، في مواجهة دعاوي الشعوبية، قد سارت في طريق غير عقلاني بواسطة فعل التقليد للجاحظ واتباع أفكاره التي لا تدعو في مجملها إلى الاتباع. وفي الوقت الذي أكد فيه الجاحظ الانفتاح السمح على ثقافات العالم القديم، على نحو كانت كتاباته تجسيدا فعليا لهذا الانفتاح. كانت حماسته في النظرة إلى الشعر العربي الذي لا يترجم، وتقديره النقدي لنظم الشعر الفريد الذي يفقد جماله عند الترجمة. سببا من الأسباب التي أدت إلى انصراف العرب عن ترجمة أشعار الأمم الأخرى، والنظر إلى التراث الشعري الإنساني نظرة الاستخفاف بالقياس إلى الشعر العربي الذي تصوره المتحمسون له أفضل شعر عرفته البشرية على الإطلاق، لأنه منظوم بأشرف لغة عرفها البشر. ومع أن فلسفة الجاحظ الاعتزالية كانت ترى العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس، ومن ثم لا تميز بين البشر على أساس من الجنس أو العرق بل على أساس من إنجاز العقل، فإن هذه الفلسفة لم تصل إلى مداها المنطقي الذي يجعل الإبداع الشعري قسمة عادلة بين الأمم، وجهدا مشتركا يتقاسمه أبناء المعمورة الإنسانية على اختلاف لغاتهم وأجناسهم.

والمؤكد أن النتيجة الأولى المباشرة التي ترتبت على شيوع التسليم بهذه النظرة العرقية التي كانت ثمرة الحماسة المتطرفة للشعر العربي هي انصراف العرب عن ترجمة أشعار غيرهم من الأمم إلى لغتهم ، خاصة الأشعار التي وردت في تراث الأمم السابقة عليهم، والتي نظر إليها العرب نظرة الأعلى إلى الأدنى. على نحو تواصل واستمر إلى أيام رفاعة الطهطاوي الذي تحدث في تخليص الإبريز عن تفرد العرب دون الفرنسيين بالبلاغة والفصاحة في الشعر.

وكان من الطبيعي أن يتقبل علماء العرب، قبل رفاعة الطهطاوي بقرون، مبدأ ترجمة ما كتبه أفلاطون، ومن بعده أرسطو، عن فني الشعر والخطابة، فقام الفلاسفة والبلاغيون والنقاد بتفسير كتاب أرسطو عن الشعر بوجه خاص. واختتم ابن سينا في القرن الخامس للهجرة تلخيصه لما جاء في كتاب أرسطو عن علم الشعر العربي كلاما شديد التحصيل والتفصيل. وجاء حازم القرطاجني الناقد بعد ابن سينا بحوالي قرنين ليحقق ما تطلع إليه سلفه الفيلسوف من الابتداع في علم الشعر المطلق كلاما شديد التحصيل، مدركا أن السبيل الأول إلى ذلك هو النظرة المقارنة الموضوعية، النظرة التي آمنت بأن أرسطو لو وجد في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثير من الحكم والأمثال واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية. ولكن هذه النظرة المقارنة لم تفرض لنفسها تيارا مؤثرا، ولم تفرض على حازم دراسة الشعر اليوناني أو غيره من أشعار الأمم الأخرى. ولم تقترن عند السابقين على حازم برغبة ، أو حتى فضول يدفع إلى ترجمة الشعر اليوناني، خاصة بعد أن ترجم العرب وشرحوا ما كتبه أرسطو عن هذا الشعر. ولذلك ظلت كلمات مثل "التراجيديا" و"الكوميديا" حبيسة سوء فهم لمعنى الشعر الدرامي الذي تم إسقاط معنى الشعر الغنائي عليه، ومن ثم فهم التراجيديا والكوميديا على أنهما نوعان من المديح والهجاء، كما ظل الشعر اليوناني نفسه، شأنه شأن بقية أشعار الأمم الأخرى، أقل شأنا من أن يترجم، وأكثر هوانا من أن ينظر إليه العرب نظرة تسوي بينه وشعرهم في القيمة والمكانة. ولقد ظل الشعر الأجنبي أهون من حكمة اليونان ونثر الفرس، وتحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. وظل العرب على اقتناعهم بما زعمه الجاحظ حين قال في حسم الحماسة الواثقة: "وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب" ورتب على ذلك القول جزمه الآخر الذي انتقل من الخصوص إلى العموم، خاصة حين ذهب إلى أن الشعر بعامة لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل. ولكنه سرعان ما عاد من العموم إلى الخصوص، فقال إن كتب الهند قد نقلت إلى العربية، وترجمت حكم اليونانية. وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا. وذلك قول يعني أن الحسن المضاف يرجع إلى ما تتميز به لغة العرب التي تضيف إلى غيرها من اللغات المنقولة عنها. أما دقة الترجمة التي لا تنتقص شيئا من الأصل فهي دليل على تمكن المترجمين العرب من النقل.

هوميروس في العزلة

قد نجد في المصادر العربية القديمة ما يشير إلى أن هوميروس الشاعر اليوناني كان معروفا في بيئات خاصة من بيئات العلماء في بغداد لعهد العباسيين، وأن هذا الشعر كان ينشده بأصله اليوناني، أحيانا، بعض التراجمة من حملة الكتب المقربين من الخلفاء. ودليل ذلك ما يذكره ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" عن اسحق المعروف بابن الخصي الذي أدبته خرشي جارية الرشيد الرومية بآداب الروم إلى أن تعلم من اللسان اليوناني ما كانت له فيه رئاسة. ويذكر بعض معارف ابن الخصي أنه عاده في مرض له، فإذا في منزله حنين بن اسحق المترجم، ينشد شعرا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم. ولكن مثل هذه الأخبار ترد على سبيل الاستثناء، وتحتمل الشك، ولا تدل حتى لو صحت على معرفة بشعر هوميروس الذي لا نسمع عنه سوى شيء من مثل ما جاء في طبقات ابن أبي أصيبعة من أن آرسطاطاليس كتب كتابا في مسائل من عويص شعر أوميروس في عشرة أجزاء، أو ما ذكره البيروني في الآثار الباقية من أن أوميروس هو الشاعر المتقدم عند اليونانيين كامرئ القيس عند العرب، أو ما ذكره الشهرستاني في "الملل والنحل" من أن أوميروس الشاعر كان من القدماء الكبار، يجريه أفلاطون وأرسطاطاليس في أعلى المراتب ويستدلان بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ. ولكن هل وصل إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي إلى ما يحث على ترجمة هذا الشاعر المتقدم عند اليونانيين كامرئ القيس عند العرب؟ بالقطع لا. لأن شعر هوميروس وأمثاله يظل في المرتبة الأدنى لدى قوم صدقوا ما أشاعه الجاحظ، وتابعوه في قوله الذي رددوه طويلا دون أن يمعنوا النظر في دلالة ما يجزم به من أن "فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب".

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات