كمال الشيخ.. مخرج التشويق هاشم النحاس

كمال الشيخ.. مخرج التشويق

استطاع كمال الشيخ بأول فيلم من إخراجه "المنزل رقم 13" 1952، وما تلاه من أفلام أن يسجل اسمه باعتباره رائدا لأفلام التشويق في السينما العربية عامة. وإذا كان كل عمل فني لا يخلو من التشويق بالضرورة، فإن ما نقصده بأفلام التشويق هنا هو الأفلام التي تعمل على إثارة نوع معين من التوتر الذهني والعاطفي لدى الجمهور مما يدفعه إلى ملاحقة أحداثها وترقب نتائجها، والأهم من ذلك أنها تجعل من هذه الإثارة هدفا في حد ذاته باعتبارها مصدر متعة للجمهور وليست مجرد وسيلة لتمرير مضامين معينة، وإن كانت هذه الأفلام لا تخلو من مضامين (أخلاقية عادة)، وفيها تقوم الجريمة بالدور الرئيسي غالبا حيث تمثل مركز الثقل في معظمها.

ويعتبر فيلم المنزل رقم 13 - في رأيي - نموذجا نمطيا بارزا لأفلام الجريمة التي أبدعها كمال الشيخ، حيث يبدأ بجريمة غامضة يرتكبها (عماد حمدي) دون وعي وإن كان يتذكرها كما لو كانت حلما أو كابوسا، إلا أنه يجد على قميصه بقعة دم، كما يجد مفتاحا غريبا في جيبه نعلم فيما بعد أنه مفتاح الشقة التي ارتكب بها الجريمة، ومع تقدم الأحداث نعلم أن المجرم الحقيقي هو الطبيب النفسي "محمود المليجي" الذي يعالجه، وقد ساقه لارتكاب الجريمة تحت تأثير التنويم المغناطيسي للحصول على التأمين الذي رصده الضحية لعشيقته من بعده.

ويعتمد السيناريو في إثارة التشويق على توظيف "المفارقة الدرامية" حينما يكشف للمتفرج عن شخصية المجرم الحقيقي بينما تبقى مجهولة بالنسبة للضحية. وإمعانا في إثارة التوتر ورفع نسبة التشويق بتطوير استخدام نفس الحيلة وهي المفارقة الدرامية نجد عروس الضحية "فاتن حمامة" بعد القبض على عريسها وسجنه تلجأ إلى الطبيب "محمود المليجي" وهو المجرم الحقيقي طلبا لمعونته في إنقاذ عريسها، وفي سبيل ذلك تكشف له عن خطة المحامي في البحث عن المجرم دون أن تعي خطورة ما تقدم عليه.

وتلعب المفاجأة دورها في إثارة التوتر عندما تقبل العروس "فاتن حمامة" على شقة الشاهد الوحيد على المجرم في نفس اللحظة التي يغتاله فيها "محمود المليجي" لكنها بدلا من أن تكتشف حقيقته يستطيع هو أن يختبئ لتفاجأ بالقتيل ثم تفاجأ بقدومه ليأخذها بعيدا عن موقع الجريمة بينما ترك حقيبتها إلى جانب القتيل ثم يبلغ عنها البوليس. ويدفع المجرم الأحداث إلى مزيد من التشويق عندما يجبر العروس وهي تحت تأثير التنويم المغناطيسي على كتابة اعتراف بقتل الشاهد وقرارها بالانتحار.

ويصل الفيلم إلى ذروته بحيلة التشويق التقليدية التي تتمثل في "المطاردة والإنقاذ في آخر لحظة"، حيث يهرب البريء "عماد حمدي" من سجنه ليطارد المجرم "محمود المليجي" بعد أن عرف حقيقته، في اللحظة التي يقود فيها المجرم عروسه فاتن حمامة للانتحار من فوق الكوبري. ويتم الإنقاذ في آخر لحظة بعد معركة بين البطل والشرير، ويأتي البوليس في الوقت المناسب للقبض على المجرم الحقيقي.

ويلجأ كمال الشيخ في هذه المطاردة الأخيرة إلى استخدام تكنيك "التوليف المتوازي" لينقلنا بالتناوب عدة مرات بين طرفي الصراع حيث نرى الطبيب وهو يقود ضحيته إلى موقع الانتحار، بينما يحاول البطل اللحاق به قبيل تنفيذ جريمته. وهي نفس الحيلة التي اشتهر باستخدامها هتشكوك لإثارة الترقب والتشويق في كثير من أفلامه.

وقد لجأ كمال الشيخ إلى علي الزرقاني لكتابة سيناريو الفيلم الذي جاء على صورة تخالف الفيلم المصري التقليدي الشائع وقتها بابتعاده عن الرقص والأغنية والأحداث الرومانسية أو الميلودراما. كما جاء الفيلم على مستوى من التمكن الحرفي في سرد الأحداث وضبط الإيقاع والأداء عامة - بالنسبة لمرحلته التاريخية - مما يجعله فتحا جديدا لهذه النوعية من الأفلام في السينما العربية، مستعينا في ذلك بأساليب التشويق الدرامية التي وظفها بمهارة على نحو ما ذكرنا، وحافظ على استخدامها في أفلامه التالية بحيث أصبحت من سمات أسلوبه المميزة.

هذا بالإضافة إلى أن الفيلم تضمن أيضا من الأفكار ما كان بمثابة الجذور أو المحاور الرئيسية لبعض أفلامه الأخرى مثل: الجريمة الغامضة (كما في: تجار الموت، والخائنة، والليلة الأخيرة، وعلى من نطلق الرصاص) والمتهم بريء (كما في: لن أعترف والخائنة) واستخدام المفارقة الدرامية باللجوء إلى المجرم نفسه طلبا للمعونة (كما في: لن اعترف، والمخربون) واستغلال فكرة بوليصة التأمين (كما في تجار الموت، ومن أجل امرأة) والاستعانة باكتشافات علم النفس (كما في أفلامه النفسية التي نتعرض لها لاحقا).

ويعتبر فيلم "الليلة الأخيرة" - 1963 نموذجا لاستخدام الغموض الفني في أفلام كمال الشيخ حيث نرى الفتاة "فاتن حمامة" من بداية الفيلم تقوم من النوم لتكتشف أن كل ما حولها غريب عنها فحجرة النوم ليست هي حجرتها، وثيابها ليست هي ما تعرفه عن ثيابها، وتفاجأ بأن "محمود مرسي" زوجها بينما ما تعرفه أنه زوج أختها كما تفاجأ بأن لها ابنة واليوم هو يوم زفافها، حتى اسم فوزية الذي يطلقونه عليها ليس اسمها وإنما هو اسم اختها أما هي فاسمها "نادية".

ويظل المتفرج في حيرة طوال الفيلم من حقيقة الفتاة: هل هي نادية كما تدعي وتحاول أن تثبت ذلك رافضة الحياة المفروضة عليها، وإن عرضها ذلك للمخاطرة بحياتها أم أنها فوزية كما يؤكد زوجها؟

ولا ينقشع هذا الغموض إلا في النهاية بعد عمليات من التحقيق والمقاومة بمساعدة أحد المعارف من الأطباء "أحمد مظهر".

وفيما عدا الزوج المجرم في "الليلة الأخيرة" الذي يكشف انفعاله عن افتقاده للثقة بالنفس ورباطة الجأش، نجد أن المجرمين في بقية الأفلام يقومون بتخطيطهم الإجرامي عن ثقة شديدة بأنفسهم كما في "المنزل رقم 13" و"تجار الموت"، 1957 و "من أجل امرأة" 1959، وتمثل هذه الثقة إحدى السمات الرئيسية لشخصياتهم في هذه النوعية من الأفلام فضلا عما يبديه المجرم من ذكاء وإقدام وقدرة على الاستجابة السريعة مما يساعد على حدة الصراع وإثارة التشويق لدى المشاهد.

ويتولد اهتمامنا في هذه الأفلام من خلال رغبتنا في رؤية التنفيذ الناجح لخطة عويصة، وهو ما يثير إعجابنا مادامت لا تمثل خطرا مباشرا علينا. ويؤدي هذا الإعجاب إلى اتهام هذه النوعية من الأفلام أحيانا بتشويه القيم وإضفاء البهاء على المجرم إلا أن الحس الأخلاقي في أفلام كمال الشيخ يعلو دائما بحيث لا يدع لهذا الاتهام من موضع. ولا يقتصر ذلك على أن ينال المجرم الجزاء العادل على ما اقترفه في النهاية، وإنما غالبا ما نجد الشخصيات الخيرة التي تعين الضحية ،وتتكرر في أفلامه حالات يقظة الضمير لدى الشخص المقدم على المشاركة في الجريمة كما في "تجار الموت" و"الشيطان الصغير" أو بعد ارتكابها كما في "لن اعترف" أما في "ملاك وشيطان" فيتحول المجرم إلى منقذ للطفلة متأثرا ببراءتها. وهو ما يكشف عن مثالية كمال الشيخ الأخلاقية الزائدة أحيانا مما قد يضعف من شأن الدراما.

ويحتفظ كمال الشيخ بنفس النزعة التي تمثل بعدا أساسيا في بقية أفلامه الأخرى من احترام للقيم الأخلاقية السائدة والأسرية منها علي وجه خاص.

التشويق دون جريمة

لا يقتصر كمال الشيخ في خلق التشويق على الجريمة وحدها التي تمثل العنصر الرئيسي في هذا النوع من الأفلام في تاريخ السينما عامة، ولكنه يوسع من نطاق أفلام التشويق لتشمل أفلاما أخرى بعيدة عن تناول الجريمة. وفي فيلمي "حياة أو موت" و "أرض السلام" يقدم لنا مستوى آخر من مستويات هذا التشويق البعيد عن الجريمة.

كان "حياة أو موت" - 1954 هو ثالث أفلام كمال الشيخ، وثاني أفلامه المهمة التي لفتت إليه الأنظار وحققت له المكانة حيث يعتبر إضافة جديدة لريادة كمال الشيخ لنوعية أفلام التشويق. الفيلم لا يعتمد على قصة وإنما مجرد موقف يتمثل في حصول طفلة من الصيدلية على مادة سامة تحملها بدلا من الدواء، إلى والدها المريض بالبيت. وزمن الأحداث لا يتعدى نصف نهار. هذا وقد تم تصوير معظم الأحداث في شوارع القاهرة. والفيلم في كل هذا يمثل محاولة غير مسبوقة في السينما العربية.

والحيلة الأساسية التي يلجأ إليها السيناريو إلى جانب المطاردة - لخلق التشويق، هي وضع العقبات أمام الشخصيات وهي في طريقها لتحقيق غايتها. فالفيلم عبارة عن سباق مثير، تعترضه العقبات، بين الطفلة التي تسعى للوصول إلى أبيها بالدواء والصيدلي الذي يسعى للوصول إليها أو للوصول إلى والدها قبل أن يتناول هذا الدواء السام مستعينا بالبوليس والجيران وحتى حكمدار العاصمة والإذاعة.

أما فيلم "أرض السلام" - 1957 فكان أول فيلم عربي يتطرق إلى موضوع القضية الفلسطينية وإن اكتفى بتقديم رموز القضية دون التعرض لتفاصيلها. والفيلم إذ يقوم بناؤه من بدايته على متابعة عملية فدائية، حافظ على أسلوب المخرج في التشويق وهو ما يتمثل هنا في عمليات التسلل والصدام مع العدو والهروب والاختباء ومفاجآت الهجوم والمطاردة.

كما تمثل الإضرابات النفسية وما يكتنفها من غموض مجالا خصبا لأفلام التشويق، وعليها اعتمدت السينما العالمية في تقديم بعض أفلامها.

ويميل كمال الشيخ إلى الإفادة من علم النفس واكتشافاته عامة في قصص أفلامه كما في "المنزل رقم 13" و "الملاك الصغير" و"الليلة الأخيرة".

غير أن فيلم "بئر الحرمان" 1969 - المعد عن قصة إحسان عبدالقدوس هو أكثر أفلام كمال الشيخ التصاقا بعلم النفس المرضي، فالحالة المرضية هنا ليست مجرد وسيلة لبناء أحداث درامية (خارجة عنها) وإنما هي الوسيلة والغاية معا، حيث يعتبر الفيلم دراسة درامية لحالة من حالات ازدواج الشخصية. ناهد (سعاد حسني) المصابة بازدواج الشخصية تتحول في المساء إلى شخصية أخرى تحمل اسم "ميرفت" التي ترتدي فستانا أحمر مثيرا وتضع على وجهها مكياجا ثقيلا وتطلق لنفسها العنان بالتحرر في علاقاتها بالرجال مما يوقعها في المشاكل وإلى جانب الغموض الذي يكتنف تصرفات ناهد، تشوب العلاقة بين والديها قدر من الغرابة والغموض مما يضاعف من إثارة المشاهد وتشويقه إلى أن تتكشف له الأسباب تدريجيا مع نهاية الفيلم.

ومن خلال فيلم "الصعود إلى الهاوية" - 1978 يقدم كمال الشيخ عملا آخر من أعماله الرائدة، حيث إنه أول فيلم عربي عن الجاسوسية. والفيلم قائم على أحداث حقيقية مأخوذة من ملفات المخابرات المصرية عن فتاة مصرية تنجح المخابرات الإسرائيلية في تجنيدها أثناء وجودها في بعثة علمية بباريس.

يتميز الفيلم بأحداثه المتلاحقة في إيقاع حي ومفاجآت مقنعة تكشف عن مباراة حامية بين ذكاء المخابرات المصرية والمخابرات الإسرائيلية. فضلا عن توتر البحث، والتسلل، والمطاردات، واصطياد الفريسة من قبل المخابرات الإسرائيلية مرة ثم المخابرات المصرية مرة أخرى. وكلها من العوامل المثيرة للتشويق التي يتيحها هذا النوع من أفلام الجاسوسية.

ويعتبر الفيلم فيلما وطنيا إلى جانب أنه فيلم من أفلام التشويق الناجحة، التي يصل فيها كمال الشيخ إلى أفضل مستوياته الفنية. وعنه فاز بجائزة أحسن مخرج في مسابقة وزارة الثقافة لعام إنتاجه.

ويخوض كمال الشيخ من خلال فيلم "قاهر الزمن" - 1987 مجالا آخر من مجالات الابتكار والريادة على مستوى السينما العربية، حيث يقدم لأول مرة فيلما من أفلام الخيال العلمي. ولا شك أن الخيال العلمي بما يثيره في الذهن من توقعات متضاربة يمثل أحد الروافد الغنية بالتشويق، الجديرة بتغذية هذه النوعية من الأفلام التي حرص كمال الشيخ على تقديمها.

وتدور الفكرة الرئيسية للفيلم حول طبيب "جميل راتب" يجري تجاربه النهائية على الإنسان من أجل تجميد جثته لفترة من الوقت ثم إعادتها للحياة.

في رواية "اللص والكلاب" لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ وجد كمال الشيخ ضالته من عوامل التشويق التي تثير اهتمامه ويتسم بها أسلوبه، وتمثل الجريمة أحداثها الرئيسية، غير أن الرواية - إلى جانب ذلك قد أمدته بالمعنى الاجتماعي والسياسي وراء الأحداث، مما حقق نقلة كيفية داخل إطار أفلامه عن الجريمة تجاوز بها التشويق إلى التحريض بما تحمله هذه الأفلام وأولها اللص والكلاب 1962 - من وجهة نظر اجتماعية سياسية تدعو المشاهد إلى تغيير المجتمع وإعادة النظر فيما يدور حوله من أمور الحياة.

ويحقق المجرم في فيلم (اللص والكلاب) 1962 - تفوقا على أقرانه في أفلام الجريمة عند كمال الشيخ من ناحية إثارة الاهتمام والتشويق، وليس ذلك فقط لاندفاعه ومهارته (برغم إخفاقه) ولكن من خلال التمسك بوجهات نظر أخلاقية فيما يقوم به من أعمال. فهو ينتقم من الخونة والانتهازيين الذين أوقعوا به. ونحن إذ لا نقره (اجتماعيا) على تصرفه العدواني الفردي نحوهم فإننا نشاركه الحكم عليهم بالخيانة والانتهازية. وهنا قد نجد مكانا لمقولة الناقد الأمريكي "روبرت شو" عن رجل العصابة الذي يراه بطلا ينوب عن الإنسان المعاصر الذي يعاني ضغوط إلغاء الشخصية في حياة المدينة.

ويعتبر فيلم " على من نطلق الرصاص " - 1975 سيناريو رأفت الميهي واحدا من أشد الأفلام نقدا للقطاع العام، كما تنبأ بالمأساة الاجتماعية الاقتصادية لعصر الانفتاح الاستهلاكي الذي لم يكن قد بدأ رسميا بعد. وهو إذ يواجه الواقع مباشرة يؤكد طوال العرض أنه يتناول الواقع المعيش في حينه (وليس تاريخا لواقع سابق قريب أو بعيد).

غير أن الفيلم برغم تحليله الاقتصادي السياسي للمجتمع يحتفظ بنفس عوامل التشويق الأساسية التي تميز أفلام كمال الشيخ وتوفرها الجريمة والتحقيق والغموض الذي يتكشف في النهاية. فالفيلم يبدأ بجريمة قتل غامضة حيث يقتحم الشاب "محمود ياسين" مكتب رئيس الشركة "جميل راتب" ويطلق عليه النار. لكنه ما أن يندفع هاربا في الطريق حتى تصدمه سيارة. وتأتي الإسعاف لتحمل الاثنين معا. تنكشف لنا الحقائق تدريجيا خلال سلسلة متشابكة من الأحداث تنتهي بوضع الحراسة على رئيس الشركة المجني عليه وقد أصبح متهما بعد فتح ملف المهندس "مجدي وهبة" من جديد لتأخذ العدالة مجراها. ولكن برغم تعقد الأحداث وتشابكها وما تضمنه الفيلم من استرجاعات كثيرة لأحداث ماضية (فلاش باك)، ظل الفيلم محتفظا بوضوحه، كما كان لحيوية إيقاعه السريع ومفاجآت اكتشافاته، فضلا عن تماسك بنائه الدرامي، وسلامة بناء الشخصيات وأدائها، وذكاء الحوار، الفضل في الحفاظ على اهتمام المشاهد طوال الفيلم وإثارة تشويقه.

أفلام الشخصية

يبتعد فيلم "الرجل الذي فقد ظله" - 1968 عن مواصفات أفلام التشويق المعهودة لكمال الشيخ القائمة على الحركة المثيرة التي تتمثل في المطاردات والتحقيقات والجريمة والمفاجأة.. إلخ، ومع ذلك فهو من أنضج أفلام كمال الشيخ ومن أكثرها أهمية، ولا يخلو من تشويق، يبدو - في نظري أكثر عمقا وأقوى تأثيرا في النفس. ويقوم التشويق هنا على أساس البناء الدرامي للشخصية. والفيلم مأخوذ عن رواية فتحي غانم التي تحمل نفس العنوان.

يقدم الفيلم شخصية الصحفي الانتهازي "يوسف عبدالحميد السويفي" الذي يبيع كل شيء من أجل التسلق للطبقة الأعلى. يتخلى عن أهله، ويشي بصديقه، وينافق أستاذه، ويقضي عليه عند اللزوم، ويمالئ السراي والإنجليز، وحتى حبه يتنازل عنه من أجل أن يصل. ولأنه باع كل شيء، فقد كل شيء، حتى ظله، وإن كان ما يدور في ذهنه في آخر الفيلم، يرهص بما ينوي من تغيير جلده ليواصل التسلق حتى آخر لحظة، فعندما تجتاح البلاد المظاهرات ضد الحكومة والسراي نسمع ما يدور في ذهنه وهو يعد نفسه للمرحلة القادمة بالكشف عن أصوله الفقيرة، ليجعل من نفسه البطل المكافح ويركب الموجة القادمة.

وبرغم أن فيلم "ميرامار" - 1969 لم يلتزم الدقة عامة في ترجمة شخصيات رواية نجيب محفوظ المأخوذ عنها وتحمل نفس العنوان، وذلك على نحو ما بيناه في كتابنا "نجيب محفوظ على الشاشة" 1975 عندما تعرضنا لشخصيات ميرامار بين الفيلم والرواية، فإن الفيلم استطاع أن يقدم لنا شخصية الانتهازي سرحان البحيري في ثوبه الجديد في عهد الثورة والاشتراكية، وهي الشخصية الوحيدة التي حافظ الفيلم على أبعادها تقريبا كما جاءت في الرواية. فهو يحب زهرة العاملة في البنسيون التي أحبته لكنه يرى أن الزواج صفقة لا جدوى منها إذا لم ترفعه درجة. ولذلك يصادر حبه لزهرة ويقنع نفسه بالزواج من مدرستها- دون عاطفة - لأنها تحقق له نفعا أكبر بوظيفتها وأسرتها.

كان وفديا قبل الثورة، ومع الثورة تحول إلى اشتراكي ونفذ داخل منظماتها السياسية. ويؤدي به طموحه المادي المنحرف في النهاية إلى الجريمة حيث يدبر مع صديقه المهندس مؤامرة لسرقة حمولة لوري بالغزل من الشركة التي يعملان بها.

وقد نجح يوسف شعبان في تجسيد هذه الشخصية وكان الفيلم - كما كانت الرواية - صفعة على وجه الانتهازية السياسية في عهد الثورة الاشتراكية. كما أدان الفيلم الشيوعي "عبدالرحمن علي" لتخاذله وفقدانه الإرادة، والإقطاعي "أبوبكر عزت" لاستغراقه في اللهو، والشيخ الوفدي القديم لعجزه عن الفعل. والفيلم على هذا النحو يشارك - نوعا - فيما قصدته الرواية من نقد للأوضاع السياسية والاجتماعية في حينها، وذلك تحريضا على طلب التغيير المنشود، بالتخلص من كل هذه السلبيات. وكان موت سرحان البحيري في الفيلم (والرواية) بمنزلة النبوءة لنهاية النظام الذي يمثله.

ويعود كمال الشيخ إلى تقديم نموذج آخر من نماذج الشخصية الانتهازية في فيلم "شيء في صدري" - 1971 المأخوذ عن رواية إحسان عبدالقدوس التي تحمل نفس العنوان.

وتختلف شخصية الانتهازي في هذا الفيلم عن شخصية سرحان البحيري في "ميرامار" من ناحية المرحلة التاريخية التي تمثلها حيث تدور أحداثها قبل الثورة. كما تختلف عنها وعن شخصية يوسف عبدالحميد السويفي في "الرجل الذي فقد ظله" من ناحية المجال الاجتماعي الذي تتحرك داخله. فإذا كان سرحان البحيري يعمل بالقطاع العام ويمارس النشاط السياسي، ويوسف عبدالحميد السويفي يعمل بالصحافة فالباشا في هذا الفيلم "شيء في صدري" من رجال الأعمال. وكمال الشيخ بهذه الثلاثية يقدم لنا دراسة واقعية لتنوعات شخصية الانتهازي في أزمان مختلفة ومجالات مختلفة، محاولا أن يكشف عن بشاعة هذه الشخصيات وفسادها وإفسادها، مما يحرض المشاهد على اتخاذ الموقف المضاد لها.

ويعتبر نموذج الباشا الانتهازي في فيلم "شيء في صدري" من أنضج النماذج السينمائية في تقديم الشخصية، وإن كان يؤخذ على الفيلم وضوح حبكته القصصية المدبرة على خلاف "ميرامار" و "الرجل الذي فقد ظله" ولكنه كان بهذه الحبكة أكثرها درامية وأقرب هذه الثلاثية من أفلام كمال الشيخ في إثارة التشويق حيث يبدأ الصراع مبكرا مع بداية الفيلم بقرار الباشا اختراقه لأسرة غريمه المتوفى محمد أفندي، مما يضع المشاهد في حالة من الترقب الدائم وانتظار النتيجة لهذا الصراع الذي يجري سجالا بين الباشا المقتدر وأعضاء الأسرة الفقيرة التي فقدت عائلها. أما الصراع الأساسي في "الرجل الذي فقد ظله" وفي "ميرامار" فيأتي بعد تقديم الشخصيات الذي يستغرق وقتا من الفيلم ليس قصيرا.

وإن كانت شخصية الباشا في "شيء في صدري" أكثر إشباعا من شخصية سرحان البحيري في فيلم "ميرامار" الذي توزع الاهتمام فيه بين عدد كبير من الشخصيات، فإن شخصية يوسف عبدالحميد السويفي في "الرجل الذي فقد ظله" تبقى هي أكثر الشخصيات إشباعا لأن الفيلم يتابع نمو الشخصية من بدايتها. كما كانت نهايتها في الفيلم أوقع من الموت الذي انتهى إليه كل من الباشا وسرحان البحيري، حيث نراه وهو يعد نفسه لتغيير جلده استعداد للمواءمة مع العهد الجديد، الأمر الذي يرهص بامتداد حياته برغم سقوط الرموز التي تسلق عليها، باتخاذ رموز جديدة. وهذه النهاية أكثر مصداقية وأكثر تحذيرا، كما أنها أكثر تحريضا بما تحمله من استفزاز مثير. وبفضل هذه المجموعة من أفلام الشخصيات بالإضافة إلى ما تقدم من أفلامه يوسع كمال الشيخ من استخدامه لعوامل التشويق لتشمل اهتمامات متعددة مما يثري هذه العوامل من ناحية ويضفي الجاذبية على موضوعاته من ناحية أخرى، وكان في كل ذلك رائدا له أسلوبه الخاص المتميز في السينما العربية على نحو ما بيناه. ولا تزال السينما العربية تنتظر ما يجود به من إبداعات.

 

هاشم النحاس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سعاد حسني في فيلم على من نطلق الرصاص





فيلم المنزل رقم 13





جميل راتب ومديحة كامل في صعود إلى الهوية





المخرج كمال الشيخ