جمال العربية

جمال العربية

عبقرية العربية في الترجمة
أقباس وتجليات

تقاس عبقرية اللغات بمدى قدرتها على الوفاء بحاجات أبنائها الثقافية والحضارية والإبداعية، واتساعها للجديد من ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلوم، فضلا عن الترجمة التي يقوم بها الموهوبون ممن يمتلكون مع لغتهم القومية لغة أخرى يترجمون عنها وينقلون إبداعاتها.

من بين هؤلاء المبدعين الموهوبين في مجالي الكتابة بالعربية والترجمة إليها الأديب الكبير الراحل أحمد حسن الزيات الذي ارتبط اسمه بمجلة " الرسالة " التي كانت بمثابة السفير العربي للثقافة، يخترق الحواجز والأسوار، ويتنقل بين العواصم والثغور، ويحمل أشواق الكتاب والقراء في آن.

كان الزيات صاحب مدرسة أسلوبية، تعتمد على التوافق والتناسق، وتحرص على حسن الإيقاع ودقة تقسيم العبارة إلى فواصل، وكان وجدانه الفني يخلع على لغته عالما من الصور النابضة بالحياة والجمال، ومعجما من المفردات التي تتسم بالرشاقة ودقة الأداء.

يترجم الزيات من أشعار لامرتين - شاعر الحب والجمال في الأدب الفرنسي - مقطوعة جميلة عنوانها " المساء " فيقول: " أقبل المساء وهمدت الأصوات، وأنا جالس على الصخور الجرداء أتابع بنظري مركبة الليل وهي تتقدم في معامي الفضاء.

ثم لاحت الزهرة في حاشية الأفق، وأرسل الكوكب العاشق على الأرض ضوءه الخفي، فشعشع تحت قدمي خضرة الروض.

ومن دوحة الزان ذات الورق الفينان واللون الأحوى، أسمع اختلاج الأغصان، كما تسمع خفقان الأشباح بين أجداث الموتى.

وعلى حين فجأة انفصل من كوكب الليل شعاع تسلل إلى جبهتي الساهمة ومشى فى لين عيني الحالمة.

أبهذا الانعكاس اللطيف للكرة الملتهبة، أيها الشعاع الباهر ماذا تبتغى مني ؟ أجئت تحمل إلى أحشائي المضطربة قبس النور إلى نفسي وعيني ؟ "

ثم يقول الزيات في ترجمته الجميلة عن الفرنسية :

" إن قلبي يشتعل في ضوئك، وشعوري يتملكه مرح مجهول، وفكري منصرف إلى أولئك الذين ضحا ظلهم في الحياة، فهل أنت أيها الضوء اللألاء أرواح أولئك الأحياء؟

أنا أشعر بأني أقرب ما أكون إليهم، فلعل أرواحهم السعيد قد لبست صورهم البعيدة، ثم عادت تطوف بهذه الربوع، وتجوس خلال هذه الغيضة.

فإذا كنت أيتها الأشعة أشباح الأحبة، فعودي إلي في كل مساء، بعيدة عن الغوغاء والضوضاء لتمتزجي بأفكاري وأحلامي، وتنيري ظلام ليالي وأيامي.

أعيدي السلام إلى صدرىالمضطرب، والحب إلى قلبي الملتهب، واسقطي على كبدي كما تسقط أنداء الليل على قيظ النهار ولفح الهاجرة !

تعالي إليّ وأقبلي عليّ.. ولكن ابخرة محزنة تصاعدت من جنبات الأفق - فحجبت ذلك الشعاع اللطيف، ثم غابت هي وهو في ظلام كثيف ".

قبس من شعر إقبال

ومن بين النماذج العالية في الترجمة عن الآداب الأجنبية، ترجمات الدكتور عبد الوهاب عزام لشعر محمد إقبال، وتجليات عبقرية اللغة العربية من بين ثنايا هذه الترجمة التي حملت روح شاعرية إقبال إلى قارئ العربية، وارتفعت بالصياغة العربية إلى ذروة شاهقة من الصفاء الرائق والإحكام الشديد والقدرة على التجسيد والتصوير. كل ذلك في سلاسة متدفقة كأنه غدير الماء الصافي وينبوعه الرقراق.

يقول الدكتور عبد الوهاب عزام في ترجمة " قصة الطائر الذي أنهكه العطش " من شعر محمد إقبال :

" بلغ العطش من الطائر جهده، فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء. وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس، فتوهم الحجر الصلب ماء سائلا، وغره من هذا الجوهر بريقة فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته، قالت الماسة: أيها الطائر المسحور، لشد ما ضربت بمنقاره الغرور، لست قطرة من الماء، ولا شربة للظماء، ليست حياتى من أجل غيرى. إن محاولة التقاطي جنون وغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الطهور، إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه.

خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنينا هذه النغمات. ثم بصر بقطرة من الطلل على فتن من الورد، تلألأ كدمعة في عين البلبل، ضياءها استغراق فى حمو الشمس، وهي من جوف الليل في رعدة. كوكب خفاق ولدته السماء، فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء، وخدعته ألوان الأكمام والأزهار، فلم يأخذ من الحياة نصيبا، كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل. ويسرع الطائر إلى فنن الورد، فيلتقط قطرة الندى.. "

أيها المبتغي نجاه من الأعداء ! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء ؟ ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقي بحياة غيره حياته ؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر.. فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطره. كن ناضج الفطرة راسخا كالجبال، وتحمل بحارا من السحاب الهطال، وجد نفسك بقوى نفسك، واستحل فضة بجمود زئبقك. أظهر نغمة الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسراراها ".

ويقول الدكتور عبد الوهاب عزام فى ترجمة مقطوعة شعرية ثانية لإقبال عنوانها " قصة الماس والفحم ": وهذا حديث يفتح لك من الحقيقة بابا :

" قال الفحم للماس وهما في المعدن: يا من أودعت هذا التجلي الأبدي ! نحن رفيقان، وفي المنشأ صنوان، وهأنذا أموت في معدني ذلة، وأنت تعلو تيجان الملوك عزة، وقدري من سوء الجبلة دون الحصاة، وجمالك يصدع قلب المرآة. يضئ بظلمتي المجمر الوقاد، فإذا غاية جوهري هذا الرماد. منزلتي من الناس مواطئ الأقدام، وغايتي أن أكون طعام النيران. إنها لحياة جديرة بالبكاء، فما وجودي إلا هباء، موجة من الدخان مركومة، وأما أنت فكالنجم وجهك وسيمتك تفيض بالنور كل جوانبك، فأنت حينا قرة عين قيصر، وأخرى حلية في مقبض كالخنجر.

قال الماس :" أيها الرفيق البصير، إن التراب الأغبر إذا نضج فهو جوهر، وأنا مازلت أجالد ما حولي حتى أنضج الجلاد نفسي، فانقلبت صلبا كالحجر، مضيئا كالنجم، وامتلا صدري بهذه التجليات. وأنت من حياتك النيئة ذليل، محترق من رخاوة بدنك العليل، فرغ من الخوف والغم فؤادك، وانضج كالصخر وكن ماسا بجهادك، فكل من جاهد في الحياة صبورا، يملأ العالمين نورا. إن الحجر الأسود كان ترابا بالتكريم غير خلق، فصار حلية في صدر البيت العتيق، فاق الطور رفعة وصعد، حتى صار مقبل الأحمر والأسود. إن في الصلابة ماء الحياة وسر البقاء، وإن في النبؤة الهوان والضعف والفناء ".

وقبس من شكسبير مترجما إلى العربية

أما الترجمة فهي للناقد وأستاذ الأدب الإنجليزي والمترجم البارع الدكتور محمد عناني الذي عرف بالعديد من الترجمات الأمينة والدقيقة عن أصولها في الأدب الإنجليزي خاصة لشكسبير شاعر الإنجليزية الأكبر، فضلا عن جمال لغته العربية فى الترجمة، التي ترتفع فى الكثير من تجلياتها لتصبح إبداعا عربيا موازيا للإبداع الأصلي. والدكتور عناني يفيد في ترجماته من وعيه العميق بالعربية على مستوى الدراسة والممارسة الإبداعية في كتابة الشعر العربي، وأيضا على مستوى الحس الدرامي والوعي الجمالي بالكلمة وهندسة التركيب.

يقول في ترجمته لمشهد من مسرحية " هنري الثامن " لشكسبير على لسان الملكة كاثرين ملكة إنجلترا بعد أن قرر زوجها الملك هنري الثامن التخلص منها تمهيدا للزواج من غيرها، تقول الملكة وهي راكعة بين يدي الملك:

" سيدي، أنشد منكم العدل والإنصاف

وأن تشملني بشفقتك وعطفك

فأنا امرأة مهيضة الجناح، غريبة عن هذه الديار

رأيت النور خارج المملكة

وليس لي قاض محايد ينظر في أمري

أوأي ضمان بالإنصاف في إجراءات المحاكمة

أو العطف على حالي. واأسفا يا سيدي !

قل لي فيم أسات إليك ؟ ما الذي أغضبك مني

ومن سلوكي، حتى اعتزمت أن تطرحني

وتحرمني عطفك ورضاك ؟ فلتشهد السماء

أنني كنت وما أزال الزوجة المخلصة الوديعة

الخاضعة لإرادتك دائما وفي جميع الأحوال

وكنت دائما أخشى أن أثير سخطك

بل كنت تابعة لأهوائك في الأفراح والأتراح

حسبما أشاهد في محياك ! قل لي متى خالفت مشيئتك؟

أو لم أجعل مشئيتك مشيئتي ؟ قل لي مَنْ مِنْ

أصدقائك لم أصادقه، حتى ولو كان لي عدوا، ومن

من أصدقائي غضبت يا مولاي عليه فلم أقطع صداقتي به ؟

بل إنني كنت أعلن أنه مغضوب عيه طريد !

أرجوك يا سيدي أن تذكر أنني كنت وما أزال زوجتك

مطيعة لك مخلصة، لما يربو على عشرين عاما،

كما رزقت منك بأطفال كثيرين ،

أنني ارتكبت أي شئ يمس شرفي

على امتداد هذه الفترة الطويلة، أو يمس

رباط زواجي بك..

أو حبي وواجبي إزاء شخصكم المقدس،

فلك باسم الله أن تنبذني، وأن تلقي بي

في محبس العار والاحتقار، حتى تلتهمني أحد أسنان العدالة

أرجوك يا مولاي أن تذكر والدك الملك العظيم

وما اشتهر به، أميرا حكيما بالغ الحصافة

ذا ذكاء وقاد، وقدرة على الحكم الصائب لا تجاري !

واذكر والدي الملك فرديناند، ملك أسبانيا

الذي كان أحكم من تولى الحكم من الأمراء

قبل سنوات عديدة، ولا مراء في أنهما جمعا

مجلسا من الحكماء من كل إقليم، وناقشوا هذه المسألة وأقروا بشرعية زواجك مني

ومن ثم فإنني أرجو بكل تواضع منكم

وأتوسل إليكم أن تمهلني

حتى أطلب المشورة

من أصدقائي في اسبانيا

وإذا لم يجبني مولاي إلى طلبي

فإنني سأنصاع باسم الله إلى إرادته ".

وعندما يتدخل الكاردينال " وولزي " لإيقاف حديث الملكة عند هذا الحد، خشية التأثير على الملك، فإنها ترفض دعوة الكاردينال إلى الامتثال والصبر، وتدجبيبه في إباء وقوة :

" سأعرف الصبر عندما تعرف التواضع

ولن أظهر الصبر قبل ذلك، وإلا فليعاقبني الله !

لدى اعتقاد راسخ، يستند إلى براهين قاطعة

بأنك عدوى، ومن ثم فإنني أطعن في صلاحيتك

للحكم في قضيتي. إنك أنت الذي أوقد لهيب هذه الجمرة التي اشتعلت بيني وبين مولاي،

وأدعو الله أن يحيلها بردا وسلاما

ولذلك فإنني أكرر أنني أمقتك مقتا شديدا

وأرفض أن تكون القاضي في هذه المسألة

بل إنني أعتبرك ألد وأخبث أعدائي

ولا أراك مطلقا ممن يصادقو الصدق ! "

***

وهي نماذج ثلاثة، من عيون الآداب العالمية، تكشف عن عبقرية اللغة العربية، وعبقرية من يبدعون في الترجمة إليها عن هذه الآداب الثلاثة: الفرنسية والفارسية والإنجليزية ولكل من الثلاثة لغته وأسلوبه وطرائقة في التعبير عن مكنون هذه النصوص في لغاتها الأصلية، وإضاءة تجلياتها في النص العربي.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات