نادرة بنت محمود فنانة من عمان أسامة أبوطالب

نادرة بنت محمود فنانة من عمان

تحاول " نادرة محمود " أن تعيد كم هذا الواقع وترتيبه، وتقوم البعثرة الضاربة فيه في محاولة لإعادته إلى حالة الجمال التي كان عليها يوما ما. يوما ما ربما لم يعشه الإنسان إلا في الحلم أو الأسطورة.

ذلك لأن عين الفنانة لا تقع على الخارجي - الظاهر -، وإنما تغوص في عمق العمق محاولة أن تصل للقاع والقرار كي تصطاد "جوهرة الباطن" الأجمل، فتحررها من تشويه الاعتياد، وصدى الألفة وتعيد للمرء المفاجأة وقدرة الإدهاش، وبراءة " الحالة الأولى " وجاذبية الاجتلاء!!

هكذا وأمام لوحاتها، تتذكر العين حاسيتها المنسية، أو ربما المفقودة أو الباهتة، فترى وتبدأ، وقد أعيدت ومضة الكشف، وتتذكر أن ذلك الجمال قد تراءى لها ذات مرة ثم غاب! فلغة "نادرة محمود" في أعمالها ليست فقط كما تقول أنها تتمثل في تكثيف صور الحياة، وإعادة توزيعها فيما يشبه الحزمة الضوئية الملونة!، وإنما في الرؤية الأعمق لصور الحياة هذه وبعين أكثر حساسية ونفاذا، فلا تراها كما يراها الآخرون، وإنما تجتليها وتتملاها سارقة الفتنة من خدرها ومثبتة ملامحها في لحظة وقد خبأتها في اللوحة، كي ترى، بعد أن كانت محرمة " في خدرها الأعلى " و "أصحاب الأحول" و"الكاشفين"!

هذه الفرشاة الساحرة - العرافة -، لقد سرقت من النار قبسا آخر نسميه هذه المرة باللوحة، والصورة كأنها (بروميثيوس) آخر، جديد، مثل آخرين معها وفي كل العالم ينتظرون أولئك الذين لم يفقدوا نعمة الإحساس باللهب بعد، يشتاقون للعين التي ترى وما زالت مباركة بالدهشة، وبالرعشة التي لم تتحول في عصر تفتت الحساسية إلى خمود!.

تجربة التجريد

لم تعد " التجربة التجريدية " في حاجة إلى من يبررها، ذلك لأن العالم كما تراه العين هو تجريد كبير، ولأن الاقتراب من التفاصيل - في مجمله - إعدام للعلاقة بالكل، وأيضا لأن التجريد - على مستوى الخصوص - هو التفلسف، أو الدعة في مس الجوهر، وهو الاختراق وصولا للمتناهي والمطلق والممتد، التجريد هو وقفة الفنان أمام "الهيولي" خارج بيضة الرخ  مستثارا أولا، ثم ناقلا للدهشة ثانيا، بمعنى أنه الوسيط الشفاف لما يفهمه بالداخل - داخل البيضة - من اختلاط الأصفر بالأبيض، النقا بالمح، بخيوط الدم الذي سوف يكون. إنه المراقب للتخلق، الراصد له في مرحلة ال "لما يكتمل بعد" هكذا هو التجريد. الرصد المأخوذ للظاهرة العالم في أطوار التكوين بعد أن أصبح "التجسيم" وربما بعد أن أفسد واستهلك - واكتفاء، بالتسجيل. تسجيل "الصورة الأخيرة" - الطور النهائي لما أصبح عليه المتكون، بعد أن كان في الماضي عند الفنانين العظماء وبقي هكذا عند البعض القليل المتبقي والمخلص للمعالجات القديمة إضافة "ما لم يتكون بعد"!

إنه إذن هو الدخول إلى المشيمة، وإلى رحم الموجودات وهو أيضا الولوج "غرفة الحلم " الساخطة إنما بوعي وليس الوقوف أمام عتبات اليقظة، بنصف يقظة ونصف منام. والتجريد هو أيضا، الكراهية لوجه النهار في منتصف يومه القائظ، وحيث تضيق حدقة العين كي ترى، فترى ما هو أكثر سحرا، تدلل الفسق أمام وقفة العاشق، وعجز اللسان عن البوح، وسقوط الكلمات أمام الشمس المولية - صانعة الفتنة والرعشة والبكاء - في الغروب ومن لوحات " نادرة محمود "، يتجسد هذا الانجذاب للحظة الخطرة المقدسة، لحظة ما بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الليل. حينما تتفتق عن الارتعاش والتوتر والتهدج، وحيث تمتد العين لها مكانا في الدائرة الصغيرة الحرجة الضيقة - كأنها النقطة وتتوق إلى أن تكمن في فاصلة رهيفة تزيح المنصرم عن الآتي، وفي نفس اللحظة تربطهما معا، وتطعم "التأمل العميق" فتغني الألوان وتخلق الظلال والخطوط لها بيتا، ليس على سطح الورقة وإنما في حناياها. فالرسم في لوحاتها لا يترك "السطح" في هدوئه ولا يقبل منه السكون ولا الثبات ولا المصالحة، وإنما يستفزه كي ينفر، وينشرح، ويتفتق بما يشبه المفاجأة، حين يصبح "للسطح" جوف، وعمق، ومدى، وفراغ في الداخل وأبعاد حيث تنوء بالنضج فيتشقق تشقق الثمرة كي تنحني أمام ما فيها صارخة بأن ينقذها "القطاف".

الهروب من الشكل

وهكذا ينتفي المكان على سطح اللوحة المكان السالب المستقبل فقط، تاركا مساحته لتفاعل يصبح تحول مادته الورقة واللون وعذاب من يحملها ويسميه الصورة فيما بعد، الصورة ليست على ظاهر الورقة وإنما هي الورقة وكيمياء الألوان وسط صهر الأحاسيس ولهيب التجربة بعد التحول إلى الوحدة غير القابلة للتجزئة، لقد أصبحت الورقة رقما مباهيا بالجنين، وقد احتل منه جداره أو زاويته، أو لم يترك له فراغا إلا وقد تحول به ومن خلاله ومعه إلى "ملاء"!.

وفي رسمها تهرب "نادرة محمود" من أعراف الشكل وتقاليد المساحة، ومصطلح الألوان، هروبها من الدلالة المحاصرة والرمز السجين وكل ما اتفق عليه، وأصبح لكسل العقل وسمنة التجربة وترهلها قانون يكبل المبدعين. كما تهرب "نادرة محمود" من كل ما له علاقة بالإطار الثابت والتشخيص الصادم برحلة العين والشعور. ولكنها في نفس الوقت "تشخص" من تحت شفافية اللون حيث يبرز إلى - ما تحت السطح وليس فوقه - تراقص هائم شفاف اللون خجلا، وناعما ورتيقا كأنه يطل من أعماق سديم لا يكاد يشي بحضوره حتى يعود فيخفيه، ولا تكاد العين تسلمه إلى "العقل" كي يتعرف عليه حتى ينفلت منه هاربا في "جنة التجريد" و"غابة اللون والمساحة" إلى إطلاقة متاهة اللانهائي والمطلق. وليس من مدخل للوحات "نادرة محمود" غير التجريد لأنه "مهر الصورة" هو الإحساس، وبائنتها هو الانفعال لكن الارتواء لا يأتي أبدا، لأن الصورة تخطف، تجذب، وتسحب تاركة من يرى في حالة من الوصل، لا يسلمه أبدا إلى "مقام الاتفاق" ولذا فإنها تظل دائما جديدة، نضرة وفي كل لحظة تطلع عليها العين تفاجأ دائما بالنداء!

سطور من حياة الفنانة

ولدت في مسقط عام 1959 ودرست القانون ثم تفرغت للفن.

أقامت العديد من المعارض الخاصة والجماعية منذ عام 1989 وحتى الآن. فقد أقامت سبعة معارض خاصة في الشارقة وسوريا ومسقط وتونس، وأخيرا في الكويت. كما اشتركت في حوالي أربعة عشر معرضا جماعيا.

حصلت على أكثر من جائزة منها جائزة السعفة الذهبية في المعرض الثاني للفنون التشكيلية لفناني دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1992.

يغلب على أعمالها طابع التجريد وتأخذ لوحاتها شكل موجات متتالية مختلفة بألوانها وخطوطها. ويقول عنها الفنان الدكتور فاروق بسيوني: إنها من أكثر الفنانات العرب اهتماما بالتجريد وهي تجمع بين فعل الطبيعة البدائي الخشن ومحاولة تحويل المشاعر والأحاسيس والحس الداخلي إلى أشكال وتراكيب حيوية.

 

أسامة أبوطالب 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




نادرة بنت محمود





الهروب من الشكل





التشخيص الصادم برحلة العين والشعور





الصورة تخطف، تجذب