الأب.. بين الحضور والغياب أحمد ضبيع

الأب.. بين الحضور والغياب

لا يزال دور الأب - الذي لا يقل عن دور الأم في الأهمية - شبه مهمل في المعالجات النفسية الثقافية والإعلامية، برغم خطورة هذا الدور، الذي يستحضره هذا المقال.

قبل أن يفهم ما سيأتي، أنه كتابه عن الأب لحما ودما أو حتى الأب نفسيا أود أن أوضح أن هناك صورة أو مفهوما للأب داخل كل منا، وقد تكون صورة الأب هذه لها أهمية ودلالة نفسية أكثر من الأب الفعلي اللحم والدم والنفس. وبرغم أن مفهوم الأب هو تابع لوجود الأب الفعلي فإن هذا ليس حتما، فقد يولد طفل ولا يرى له أبا فعليا نتيجة الوفاة مثلا، فإنه يتكون مفهوم عن الأب وتتكون صورة أب ما داخل هذا الطفل. وهذه الصورة الأبوية مستقاة من كل الآباء أو ممن يمثلون الآباء، خاله، عمه، مدرسه، عمدة بلدته، أو حتى المؤسسات والأنظمة، الدين والسلطة، كل هذا يصب في النهاية ليكون الأب المعنى أو صورة الأب. وهذه الصورة هي أهم نفسيا من الأب الواقعي، والأب المعنى هو ما نتصوره عن الأب الحقيقي وربما تكون تصوراتنا قريبة أو بعيدة عن الحقيقة وغالبا ما تكون قريبة مع بعض المحو والإضافة، محو نقائص وإضافة قدسية.

وغالبا ما يحدث هذا الخلط والتحوير في مراحل الطفولة، حيث تأليه الأب وحيث تكوين صورة أكثر هيبة وروعة من حقيقة الأب، ولذلك أثره الرائع في تشكيل نفسية الطفل، ويمكننا ملاحظة الموروث الشعبي والثقافي متحدثا عن الأوطان والبلدان مستخدما لفظ الأم تأكيدا لمفهوم الاحتواء الحنون. يستخدم هذا الموروث لفظ الأب مع كل ما هو سلطوي. بقي أن أشير إلى أن كل الأدوار التالي ذكرها قد تكون أدوارا لصورة الأب وليس الأب ذاته وهذا هو لب موضوعنا.

الأب / الدفاع

الأب كما يراه الابن هو نظام دفاعي جاهز للعمل وهذا الدفاع يختلف كثيرا عن دفاع الأم، فالأب يدافع بمهاجمة الآخرين وقت الخطر حماية لأبنائه، ويمكن أن نسميه دفاع " الحضن " أو " الزود عن "، بينما يمكن تسمية ما تصنعه الأم في موقف مماثل دفاع " الهرب ب.. " وكلا الشكلين لازم غير أن صورة الأب في هذا الخصوص تصنع نوعا من الأمان لدى الطفل.

الأب / الحدود

إذا كان الحد لغويا هو الحاجز بين شيئين أو هو نهاية شيء ليبدأ آخر فلكل شيء تقريبا حد، والأهم هنا أن للنفس حدا نسميها حدود الذات ونعني بها حدود النفس، لكن ما علاقة كل هذا بالأب بالذات؟

يمكننا اعتبار أن الأب هو واضع الحدود للأبناء، فهو الذي يعاقب طفله إذا ما تخطى الحدود في سلوك ما. أي أنه هو السلطة في المنزل، والأب جسديا ونفسيا أقرب لتمثيل دور السلطة العقابية أكثر من الأم التي هي في الغالب متسامحة أكثر منه لعاطفتها وحنانها الغالبين عليها. إذن للأب علاقة وثيقة بإرساء حدود السلوكيات عند أطفاله وبسببه يتعلم الطفل أول مفاهيم الحدود. لكن هذه حدود سلوكيات لا علاقة لها بالنفس وحدودها؟، فهذا المفهوم يتأثر بشدة بالتفاعل بين الحدود الموروثة وحدود السلوك الذي أرساها الوالد بل بحدود الدولة وحدود سماح المجتمع أو قهره. وأهمية هذه الحدود الداخلية للذات ( النفس ) أنها تمثل الحد الفاصل بين الأشياء، بين الحقيقة والخيال، بين ما يحدث داخل العقل وخارجه، بين المرض والسواء. بل إن هناك مجموعة كبيرة من الأمراض النفسية يمكن أن نعللها باضطراب حدود الذات ( Ego Boundary Disorder ) وحتى في حالة السواء قد تكون هذه الحدود قوية أو متليفة متكلسة لا تسمح بالنفاذية فيقهر الإنسان نفسه ويحرم من تبادل الحوار والخبرات نتيجة إغلاق مسام هذه الحدود وعدم النفاذية. وهذا الشكل غالبا انعكاسه لأب قاهر جائر على الأبناء وربما هذا أقرب للتربية الشرقية. الشكل الآخر للحدود هو التميع والنفاذية الشديدة مما لا يسمح بالاحتفاظ بالخبرات فينتج شخصية غير متماسكة متميعة في مواقفها، وقد يتكون شكل آخر من الحدود وهو أقرب إلى المثالية في السماح والنفاذية والتماسك فيحوي إيجابيات الالتزام والتماسك من ناحية، وتبادل الخبرات والعلاقة بالآخر فالنمو من جهة أخرى.

الأب / المسافة

هناك مسافة بين الأب والأبناء وقد تتزايد هذه المسافة في العلاقة فتصبح علاقة شبه رسمية أو علاقة عن بعد أو تزايد التكلف في المعاملة وهي تمثل الأب شديد الهيبة مع الابن الخائف وهي سمة تنشئة الأجيال الأسبق. وقد تتناقص هذه المسافة وتذوب الكلفة وتتحول علاقة الأب بأبنائه إلى صداقة وتبسط أو ما شابه وقد تتميع المسافة بلا تناسق فتتزايد وتتناقص في ظروف أو أوقات غير مناسبة مما يربك الأبناء. وفي تزايد المسافة إرساء لحدود قاسية وفي تناقصها إلغاء للحدود أو تعد للحدود.

وتتسم المسافة البعيدة بتقديس الأب بما يستتبع ذلك من إحساس بالأمان واحترام وما يستتبعه من الالتزام بالحدود، ولكن قد يتحول الإحساس بالهيبة إلى خوف من العقاب ويتزايد الإحساس بالمسافة إلى درجة الشعور بعدم وجود الأب عند اللزوم ويتولد القهر والاعتمادية على الأب واللاتلقائية، وربما توجد هذه السمات كثيرا في المجتمعات الشرقية. وفي تناقص أو ذوبان المسافة مساحة من الحرية فالنمو والاستقلالية والإبداع أو قد تتحول سلبا إلى عدم احترام الحدود والتسيب أو الفساد والتدليل وقد يكون هذا النموذج الغربي في التنشئة وهو أيضا أقرب إلى الجيل الحالي مقارنة بالأجيال السابقة. ولا شك أن هناك مسافة أيضا بين الأم والأبناء إلا أنها في أغلب الأحوال أقرب من مسافة الأب. فطبيعة الرجل من عقلانية وخشونة وتحكم وسيطرة وجدية وواقعية، أقرب إلى خلق مسافة أكبر مما تخلقه الأم نتيجة عاطفتها ورحمتها وتسامحها ورقتها وكلاهما لازم.

الأب / الصحة.. والمرض

لعل الأب أقرب ما يكون من مفهوم الصحة النفسية فحيث ترتبط الأم وارتباكها بإمكان التأثير في طفلها وخلق نفسية غير سوية منه، يرتبط الأب بإمكان تفجير أبدع ما في الابن، فالأب يقف كحاجز للتحدي في وجه أبنائه، من استطاع أن يتجاوزه مخترقا حدود ومسافات وقيود هذا الأب كاسرا إياه داخله استطاع أن يمر بمرحلة نمو بعد أخرى. أي أن الأب هو محرض علي النمو تكامليا سواء بوجوده القوي المتحدي أو بوجوده الضعيف السامح بالحرية، وأعتقد أن بداخل كل مبدع علاقة خاصة بالأب استطاع أن يعبر حاجز الأب فيها داخله أولا. أما علاقة الأب بالمرض فهي علاقة غير مباشرة فعندما يغيب الأب بالموت أو بالمرض النفسي أو بالسفر، يحاول أحد أفراد الأسرة القيام بمهامه أو أخذ دوره، غالبا تكون الأم ولأنها غير مهيأة للقيام بأدوار ذكرية ترتبك أو تبالغ في هذا الدور وهي تعيش ما ليس منها ولا فيها فهنا تؤثر في الأبناء بشكل باعث على اللاسواء النفسي. ومحاولة إيجاد علاقة بين غياب الأب خاصة، وهو على قيد الحياة وبين الابن المريض تثبت مصداقيتها كل حين ربما أكثر من غياب الأب بالموت الفعلي.

مرحلة التأليه والتقديس بما تشمل من انعدام رؤية النقائص وإضافة هالة قدسية حول الأب ليست فيه، وهذه سمة مرحلة الطفولة بما تحويه من رؤية الأب كقوة لا نهائية، وإذا ما استمرت هذه المرحلة لما بعد الطفولة يمكن أن نسمي ذلك توقفا في النمو وما يقال عن الطفل يندرج على الشعوب في علاقتها بالرؤساء ( الشعوب غير النامية وعلاقتها بالرؤساء ذوي السلطة المهيمنة ).

ثم تأتي بدايات الرؤية الموضوعية وفي هذه المرحلة تبدأ رؤية بعض النقائض أو اكتشاف عدم مقدرة الأب على كل شيء.

وقد يؤدي كسر هذا الموقف القدسي إلى ربكة الابن أو بدايات البصيرة أو توصل للمرحلة التالية وهي ثنائية الوجدان، وفيها يظهر شعوران متضادان في نفس الآن كالحب والكره وفي هذا ربكة أشد من ربكة المرحلة السابقة.

وخلاصا من هذين الشعورين يتملص الابن من طغيان الوجود الأبوي داخله وخارجه فيدخل المرحلة التالية، مرحلة الانفصال والعدوان فحين يبغي الابن التملص والانفصال يبدأ باتهام الأب بالنقائض ربما أكثر مما ينبغي تبريرا للانفصال أي أنه لو أنه أب جيد فلماذا انفصل؟ أنا أنفصل عنه لأنه سيئ، وهي محاولة استقلالية ولكنها تبريرية غير موضوعية كمن يلجأ إلى بلد مجاور ويسب بلده الأم.

مأزق المسئولية: هنا مختارا انفصل الابن نفسيا دونما الأب الأمان، الحدود، الصحة. ويكتشف الابن لا موضوعيته في حكمه السابق ويتحير إذا أصبح مختارا مسئولا عن أفعاله.

التروي: هنا يتوقف نسبيا لالتقاط أنفاسه وهي مرحلة من الهدوء النسبي يتم فيها استيعاب كل هذه المرحلة، فيكتشف اللاموضوعية وعدوانه وعدم نضج أحكامه السابقة ورؤيته فيحاول العودة ثانيا إلى رحاب الأب لكن مع خبرة كل هذه المراحل أي أنه يعود من موقف مختلف برؤية مختلفة وهذه اختراقة نموية، وقد تتكرر كل هذه المراحل نفسها بالضبط معربا عن الدوران في حلقة مفرغة لا نمو فيها. وقد تتكرر مضافا إليها خبرة المرحلة الأولى، وغالبا ما يحدث هذا التكرار مع الأب الحقيقي، الأستاذ المعلم الأب الروحي، الوطن.. والنمو أو النضج هنا في عدم التكرار كالصك أو الدائرة المفرغة إنما النضج في أن تصبح الدورة الثانية أعلى من الأولى أو مختلفة عن الأولى.

 

أحمد ضبيع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات