استنساخ الأجنة ثورة علمية.. أم كارثة إنسانية؟ محمد علي بديوي

استنساخ الأجنة ثورة علمية.. أم كارثة إنسانية؟

شهوة المعرفة لدى الإنسان صارت تدفع العلماء إلى حدود قصوى من التجريب العلمي، لكن التاريخ علمنا أن التجارب تتحول يوما ما إلى ممارسات شائعة، وها هو التجريب العلمي يفتح بابا خطيرا وصادما لمألوف الإنسانية.

بين الحين والحين يفاجئنا العلماء بكشف علمي جديد أو بتجربة جديدة تؤدي إلى نتائج متعددة كبيرة في شتى مناحي الحياة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا فكل جديد تتبعه ثورة شاملة، فانشطار الذرة وصناعة الكمبيوتر، وتجارب الهندسة الوراثية كل ذلك تلته ثوارت تغيير جذرية امتدت لتصل إلى كل مناحي الحياة. وبالأمس القريب أجرى العالمان الأمريكيان د. جيري هولم و روبرت ستيلمان تجربة بالغة الخطورة ومتعددة النتائج لاستنساخ الأجنة. والحقيقة أن تجربة جيري وروبرت ما هي إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة متتابعة من المحاولات المختلفة التي تمت عبر القرون الثلاثة الأخيرة فأول تجربة تلقيح صناعي في العالم أجريت عام 1799، وأول محاولة لعمل أطفال الأنابيب في الحيوانات كانت عام 1944 وأول تجربة تلقيح ناجحة خارج الرحم كانت عام 1951، وتم تجميد الحيوانات المنوية لإعادة التلقيح بها في الماشية عام 1952، وفي الإنسان عام 1953، أما تجميد الأجنة لإعادة زراعتها فقد تم عام 1973م، أما أول طفلة أنابيب في العالم فقد كانت الإنجليزية لويزا براون عام 1978، أما استنساخ الأجنة فقد بدأت التجارب عليه في الأبقار عام 1981، إلى أن جاء عام 1993، وأثناء انعقاد مؤتمر جمعية الخصوبة الأمريكية بمونتريال بكندا ليعلن د. جيري هولم عن نجاح تجاربه لنسخ الأجنة في الإنسان.

بين الخيال والحقيقة

إن فكرة تحسين النسل البشري بطريق الاستنساخ هي فكرة قديمة نسبيا فقد كتب عنها بعض العلماء والكتاب كنوع من الخيال العلمي المستقبلي، فكتب عنها ألدوس هيكسلي منذ 61 عاما، والأساس الذي انبنت عليه أوحى بأفكار مماثلة ومنها فكرة فيلم "الحديقة الجوراسية" الشهير الذي يدور حول فكرة العثور على حشرة صغيرة قدر عمرها بأكثر من 135 مليون سنة، وطولها 3مم وجدت داخل ترسيبات الكهرمان الذي حافظ عليها سليمة ويبذل العلماء جهودا جبارة لاستخراج مادة DNA الخاصة بالديناصورات من هذه الحشرة التي كانت تتطفل على الديناصورات على أساس أن مادة DNA لا تفنى ولا تتأثر مهما مر عليها من زمن، ويبذل العلماء جهودا أخرى لإنتاج ديناصور جديد من هذا الحامض النووي. وفكرة أخرى ظهرت في أحد كتب الخيال العلمي عن محاولة أحد العلماء التسلط على أهل الأرض باستخدام شعرة من شعر هتلر واستخلاص مادة DNA منها وتخليق نسخ ضخمة من هتلر يكون هو زعيمهم للسيطرة على الأرض.

هذا هو الجانب الخيالي في الموضوع أما الجانب الحقيقي المتمثل في تجربة جيري وروبرت فيعتمد على أن أصل أي كائن حي هو خلية واحدة تنقسم إلى اثنتين ثم أربع وهكذا، والذي حدث أن العالمين استطاعا فصل الخليتين الأوليين كيميائيا - وهذا يتم بصورة طبيعية أثناء تكوين التوائم في رحم الأم - ثم بعد ذلك احتفظا بإحدى الخليتين مجمدة ولم يسمحا لها بالتكاثر ثم أذابا الغشاء المحيط بالأخرى والمسمى Zona pellucida" " واستعاضا عنه بغشاء صناعي مكون من مادة هلامية ( جل ) مستخلصة من أعشاب بحرية ثم سمحا لهذه الأجنة المستنسخة بالنمو وحصل العالمان على 48 نسخة جديدة من أصل 17 جنينا في بداية التجربة، ولكن أيا من هذه الأجنة لم يعش أكثر من ستة أيام لأن جيري وروبرت قاما بتلقيح البويضة الأم بحيوانين منويين، والمعروف أن هذه الأجنة تموت مبكرا في مرحلة العلقة. والنتائج الأولية لهذه التجربة مثيرة وخطيرة في آن واحد وتتلخص في:

(1) أنه يمكن استنساخ أي عدد من الأجنة من أصل خلية واحدة.

(2) أنه يمكن الاحتفاظ بأي من هذه النسخ المتطابقة وراثيا مجمدة لأي فترة ثم يسمح لها بالنمو مرة أخرى مما يؤدي إلى نمو جنينين متطابقين وراثيا ومختلفين عمرا، ولأي فترة مطلوبة حسب طول أو قصر فترة التجميد.

وهل من إيجابيات؟

إن الآثار المترتبة على هذه التجربة مرعبة حقا، وقد تكون في غالبيتها سلبية إذا أسيء توظيفها، وقد تكون في غالبيتها إيجابية إذا أحسن توظيفها مثلا، تماما مثل الانشطار النووي. ويمكن تلخيصها فيما يلي:

أ - الآثار السلبية:

(1) من الناحية الأخلاقية: قد يؤدي الحصول على نسخ بشرية متطابقة إلى استخدام أعضاء هذه النسخ كقطع غيار، فإذا أصيب الكبد مثلا إصابة جسيمة استدعت تغييره بآخر فما على الطالبين إلا تنمية النسخة الأخرى المجمدة إلى مرحلة مناسبة تمكن من انتزاع الكبد منها لزراعته مكان الآخر الذي أصابه العطب، ثم يلقى بما تبقى من هذه النسخة في سلة المهملات وقد يؤدي هذا إلى استحداث سوق رائجة لهذه التجارة المرعبة.

وقد يؤدي ذلك إلى استعاضة الأسرة عن أحد الأبناء الذي توفي بالجنين الذي فصل عنه في البداية ليكون صورة طبق الأصل من المتوفى، وقد يؤدي ذلك إلى الحصول على توائم مختلفة في العمر كأن يكون أحدهم عمره خمس سنوات والآخر عمره عشر سنوات مثلا.

أما المضحك المبكي في هذا الأمر فهو أن المرأة قد تحمل توأمها الذي فصل عنها وهي جنين لتلده بعد ذلك فتصبح أما لأخيها أو أختها، وقد تحمل توأم زوجها الذي فصل عنه وتم تجميده لتلده بعد ذلك فتصبح أما لشقيق زوجها!!

(2) من الناحية الاجتماعية: إن استنساخ الأجنة قد يؤدي إلى القضاء على مفهوم العائلة تماما، لأن هذه النسخ ليست بحاجة إلى أب أو أم بقدر ما هي بحاجة إلى مؤسسة تقوم برعايتها، وقد تم إنماؤها في أجهزة خاصة وعندئذ سوف تصبح مصطلحات الأمومة والأبوة والتواصل الأسري والعاطفة من مخلفات الماضي السحيق.

(3) القضاء على تفرد الإنسان واستقلاليته: فلا ريب أنه حق لكل منا أن تكون له شخصيته المستقلة وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وإنتاج النسخ المتشابهة ذات الصفات الموحدة يقضي تماما على هذا التمايز إذ سيصبح الإنسان نسخة مكررة لآلاف غيره.

(4) الإنسان السوبر: إن اختيار صفات وراثية معينة لتكون الأصل في إنتاج هذه النسخ المتشابهة من ناحية القوة الجسمانية والأداء العقلي سوف يؤدي إلى استحداث مجتمع العمالقة ولنا أن نتخيل مجتمعا أفراده في قوة أبطال المصارعة أو في عقلية علماء الذرة.

ب - الآثار الإيجابية ( وهي موضع اختلاف أخلاقي كبير ):

(1) دراسة الأمراض الوراثية وطرق علاجها:

فلا شك أننا نعرف القليل عن الأمراض الوراثية مثل ضمور المخ الوراثي، وعمى الشبكية الوراثي، وأمراض الدم الوراثية، والصرع الوراثي. ولما كانت معرفتنا قليلة فإن علاج هذه الأمراض غير ناجح، لذا فإذا استحدثنا نسخا مصابة بأمراض وراثية، فإنه يمكننا دراستها باستفاضة وروية.

(2) مساعدة المصابين بالعقم: فإذا كان الزوج مثلا يعاني من نقص شديد في الحيوانات المنوية، فإننا باستخدام حيوان منوي واحد وبويضة واحدة يمكننا استنساخ عدة أجنة عن طريق تجميدها لفترات مختلفة.

(3) دراسة وعلاج التشوهات الجنينية: وذلك يتم بصورة مشابهة لدراسة وعلاج الأمراض الوراثية.

(4) نقل الأعضاء: يمكن أن يقي الفرد نفسه صحيا باستنساخ نسخة أخرى منه إلى سن معين ثم يستفيد من أنسجته وأعضائه إذ إن هذه النسخة مطابقة له تماما وفي ذلك تغلب على أخطر مشكلات نقل الأعضاء وهي عدم توافق أنسجة المتبرع مع أنسجة المريض ولكن ما هي حقوق النسخة الأخرى؟ وهل تقبل أن تكون قطع غيار للنسخة الأصلية؟

هذه التساؤلات الحائرة وغيرها تنقل هذه الإيجابيات - في معظمها - فورا إلى دائرة السلبيات. فهي تهدر كرامة الإنسان وشرف وجوده.

أما العلماء.. فقد انقسموا إلى بعض المؤيدين وفريق ضخم من المعترضين، أما المؤيدون فحجتهم تتمثل في "الإيجابيات" التي أسلفنا الحديث عنها، وهم يرون أن هذه التكنولوجيا المتقدمة ليست مشكلة في حد ذاتها ولكن المشكلة فيمن سيجعلها في حيز التطبيق أي أن المشكلة في المنفذ وليست المشكلة في النتائج التي أدت إليها التجربة، فإذا استخدمها منفذها لمنفعة الجنس البشري فهذا هو الهدف، أما إن كان متسلطا فإنه ليس في حاجة إلى هذه التكنولوجيا لكي يسعى إلى الدمار فهو بها أو بغيرها سوف يدمر نفسه ويدمر من حوله، تماما مثل الذي يستعمل السكين الذي يعود عليه بالنفع في ذبح الآخرين.

أما المعترضون فحجتهم ما أسلفنا الحديث عنه من سلبيات ويرون أن مبعث القلق هو النظرة إلى الإنسان على أنه مجرد أعضاء فيها خطأ فاحش إذ إن الإنسان "النفس" لا ينفصل بحال من الأحوال عن الإنسان "الجسم".

أما عن العامة فقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها معظم المجلات الغربية الشهيرة ومحطات الإذاعة والتلفزة أن الغالبية العظمى لا توافق على استنساخ الأجنة مهما كانت المبررات وترى أن هذه عملية غير أخلاقية، وتطالب بأن توقف هذه الأبحاث حاليا وأن تمنع في المستقبل. وهم يرون أنه حتى لو وضعت قوانين لمنع أي سلوك غير قويم بشأنها فلن يكون هناك ضمان من ظهور ديكتاتور أو متعصب أو مجرم يسعى إلى تحقيق أهداف غير إنسانية برغم وجود الضوابط والموانع.

ولم تقف الدول مكتوفة الأيدي أمام هذه المعضلة ففي بريطانيا يتطلب الأمر موافقة من الحكومة بعد دراسة صارمة، وفي ألمانيا فإن العقوبة قد تصل إلى السجن لمدد متفاوتة والقانون في اليابان يمنع تخليق أو مضاعفة أو نسخ الأجنة البشرية، وسوف تحذو كثير من الدول حذو هذه البلدان في القريب العاجل، لأن الأمر جد خطير فهو متعلق بمصير الإنسان.

وإذا قيل إننا بعيدون تقنيا عن الوصول إلى هذه المعضلة، بمعنى أن مستوانا العلمي ينقذنا من الوقوع في مشكلة الاختيار والرأي في مواجهة موضوع استنساخ الأجنة، فإن هذا لا يمنع من وقوع بعضنا في براثن هذه المعضلة، ولو كمستهلكين، وهو أمر خطير يتطلب كثيرا من الوضوح في المواقف.. علميا، وأخلاقيا، وقبل هذا كله دينيا. فهل نتحرك، ولو بالرأي، قبل وقوع الواقعة؟!

 

محمد علي بديوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




وهل من إيجابيات؟





ثورة علمية.. أم كارثة إنسانية؟